شعر الهجاء بين صفح العافين وانتقام المنتقمين
شعر الهجاء بين صفح العافين وانتقام المنتقمين
محمد شركي
تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي نبأ تسليم الدولة اللبنانية الشاعرعبد الرحمان القرضاوي نجل الداعية يوسف القرضاوي رحمة الله عليه لدولة الإمارات التي طالبت بترحيله إليها لمعاقبته يسبب شعر هجا فيه حكامها وحكام مصر . وخلافا للأعراف الدولية التي تمنع تسليم كل مطلوب يكون مهددا بالتعذيب أو بالقتل داست الدولة اللبنانية على هذا العرف المحمود ، وسلمت الشاعر القرضاوي وهي تعلم علم اليقين أنه مهدد في حياته ، والله يعلم كم أخذت ثمنا مقابل تسليمه ؟
هذا الحدث استدعى مقارنة بين موقفين من شعر الهجاء في الثقافة العربية ، وهما على طرفي نقيض صفح أوانتقام .
ففي الجاهلية كانت العادة السائدة آنذاك في تعامل الحكام مع من يهجونهم من الشعراء هي البطش بهم، وقد سجل لنا النابغة الذبياني في شعره فزعه وفراره من النعمان بن المنذر ملك الحيرة ،وقد كان طاغية سفاكا للدماء، قيل أنه كان له يوم نحس ،ويلٌ لمن أقبل عليه فيه ، ومما جاء في شعره وصف حاله وهو،خائف ،فارٌّ ومعتذرٌ له ،مع أنه ولم يكن هاجيا له ، وإنما وشي به الواشون وشاية كاذبة، فقال :
أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامـــع
مقالـــة أن قلت سوف أنالـــــه وذلك من تلقاء مثلك رائـــــــــع
لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بُطْلا عليَّ الأقـــــارع
حلفت فلم أترك لنفسك ريبــــة وهل يأثمنْ ذو أمة وهو طائــــــع
ولا أنا مأمون بشيء أقولــــــه وأنت بأمر لا محالة واقــــــــــــع
فإنك كالليل الذي هو مدركـــي وإن خلت المنتأى عنك واســـــع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه أتاني ودوني راكس فالضواجــع
فبت كأني ساورتني ضئيلـــــة من الرقش في أنيابها السم ناقـــع
وقال في شعر آخر :
لئن كنتَ بُلٍّغتَ عني وشاية لمُبلغك الواشي أغش وأكذب
فإن أك مظلوما فعبدا ظلمته وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
وجاء في الأخبار أن النعمان لم يظفر بالنابغة، وأنهما ماتا معا في سنة واحدة ، فانتهى وعيد الأول ، كما انتهى خوف وفرار الثاني منه .
ومن شعراء الجاهلية من قتلوا بسبب هجائهم حكام زمانهم ،منهم طرفة بن العبد، وكان قد هجا ملك الحيرة عمرو بن هند بقوله :
وليت لنا مكان الملك عمرو رغوثا حول قبتنا تخور
والرغوث هي المرضعة .
ولما ولّى زمن الجاهلية ، وأشرق نور الإسلام باثا في الناس قيمه السامية ، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر الهجاء موقفان : الأول أنه لم ينه شاعره حسان بن ثابت من هجو كفار قريش ردا على هجائهم له حاشاه ، فقال له : » اهجهم وروح القدس معك » ، أما الموقف الثاني، فجاء في قوله : » لئن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خيرٌ له من أن يمتلىء شعرا » ، وهو يقصد ما يسوء منه ، وليس مطلق الشعر ، وما في قوله هذا ما ينقض قوله السابق، كما أن الله تعالى حين عرّض بشعراء الغواية ، استثنى منهم المؤمنين الذين ينتصرون إذا ما ظلموا ، فقال : (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )) .
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثل في الصفح عن الشاعر كعب بن زهير ، وقد قيل أنه هجاه قبل أن يأتيه مسلما معتذرا له ، فسجل ذلك شعره حيث قال :
نُبِّئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
لا تأخذنٍّي بأقوال الوشاة ولم أذنب وقد كثُرتْ في الأقاويل
وسار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الشاعر الحطيئة ، وكان هجَّاءً ، فحبسه الفاروق في حفرة إلى أن أعلن توبته ، وقد سجل ذلك شعره ، وفيه اعتذار، وطلب الصفح حيث قال مخاطبا الفاروق :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ حمر الحواصل لا ما ولا شجر
ألقيت كاسبهم في فعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمــــر
ولقد عفا عنه الفاروق ، واشترى منه أعراض المسلمين بما دفعه إليه ليكف لسانه عن الهجاء ، فلم يهج بعد ذلك أحدا. و جاءت على المسلمين أزمنة عادوا فيها إلى عادة ودأب الجاهلية حيث كانوا يقتلون لشعراء بسبب هجائهم أو تشبيبهم بنسائهم ، ومنهم بشار بن برد الذي هجا الخليفة العباسي المهدي ، فقتله ، وأبو الطيب المتنبي الذي هجا امرأة فقتله أخوها ، والشاعر أبو نخيلة الذي قتله المنصور العباسي بسبب بيت شعر أغضبه ، والشاعر وضَّاح اليمن الذي قتله الخليقة الأموي الوليد بن عبد الملك لتشبيبه بزوجته ، و الشاعر ابن الرومي الذي دس له الوزير القاسم بن وهب خليفة المعتضد العباسي سما في حلوى للتخلص من هجائه ، وقد قيل عنه أنه ما مدح أحدا إلا هجاه بعد ذلك.
وها نحن اليوم نسمع بالشاعر عبد الرحمان القرضاوي يلقى عليه القبض ، ويسلم لمن هجاهم ليكون مصيره كمصير الشعراء الذين أغضبوا أصحاب السلطان بهجائهم ، وقد قيل أنه أضرب عن الطعام ، ولقي من الأذى ما نقل على إثره إلى العناية المركزة ، ولعله هالك لا محالة إلا إذا تداركته ألطاف الله تعالى ، في زمن لم يبق فيه شيء من أثر للعفو النبوي ، أو العفو العمري .والأمل في الله تعالى كبير لإنقاذه ، ويعول على الأخيار أن يتدخلوا من أجل العفو عنه إكراما لروح والده العلامة رحمة الله عليه ، والذي خدم دين الله عز وجل ، ولقيه وهو على ذلك لم تلن له قناة .
Aucun commentaire