Home»International»« حقيقة النفس والروح في تجاذب بين اعتبار التجريد والتجسيد »

« حقيقة النفس والروح في تجاذب بين اعتبار التجريد والتجسيد »

0
Shares
PinterestGoogle+

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة،المغرب

أولا:معرفة النفس(الروح) من منطلق عقدي توحيدي

قد يوجد في الفكر الإسلامي موقف من معرفة النفس أو الروح بالاعتماد على ما يمكن تسميته بقياس الأولى ،وذلك وهو من جهة رؤية « العجز والامتناع  » عن المعرفة الحقيقية بمجرد الفكر الذاتي والاستدلال العقلي والمنطقي : فيرى البعض كابن قيم الجوزية أنه « إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها فالخالق جل جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علما بحقيقته،ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم « اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ». وثبت في صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول هذا في سجوده ،وقد روى الترمذي وغيره أنه كان يقول في قنوت الوتر وإن كان في هذا الحديث نظر فالأول صحيح ثابت ».
وهذا الموقف المعرفي هو الغالب على مذهب كثير من العلماء والمفكرين الذين تعرضوا لمعرفة النفس وحدود إمكانها ، وأن البعد الرئيسي في القول بالعجز عن معرفة النفس وامتناعها عن التحديد بلغة الحس والعقل المجرد قد يبقى دائما غاية واحدة وهي: توحيد الله تعالى بالدليل النفسي.
إذ أن علم التوحيد هو الذي سيحدد مجالات معرفة النفس،لأن فيه قد توظف كل أدوات المعرفة للاستدلال وهي: الحس والعقل والقلب أو الوجدان،ولهذا فإن حدود الإمكان ستكون على هذه المستويات.بحيث إن معرفة النفس بالظواهر الجسدية والبداهة العقلية والشعور الوجداني كل هذه الأنماط المعرفية ستفضي إلى نتائج قد تؤكد الإمكان أو الامتناع أو الصعوبة بحسب توظيفها !.
غير أننا سنجد محور العلل في تضارب بعض المواقف عند المسلمين حول إمكانية معرفة النفس أو عدم إمكانيتها كله ينحصر في اعتبار: هل النفس هي الروح أم أن الروح غير النفس؟ .
إذ باعتبار النفس مرادفة للروح سيتخذ الأغلب من البحاث منه القول بامتناع المعرفة كموقف وذلك على مستوى الجوهر والماهية،وهذا ما حدا بالبعض إلى تفسير الآية الخاصة بالروح والسؤال عنه بأنه طرح بخصوص طلب الماهية تحديدا ووصفا.وماهية الروح لا يمكن أن تحد بالعبارة أو أنهم -أي اليهود – سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها سؤال تعجيز وتغليط، لكونه يطلق على أشياء،فأضمروا أنه بأي شيء أجاب قالوا ليس هذا المراد. فرد الله كيدهم وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل ».
كما يعلل السهروردي سبب الخلاف في التعليل بالموقف العام من التفسير والتأويل .بحيث يرى أن الذين خاضوا في مسألة الروح وإعطاء بعض المفاهيم الخاصة حولها « يجوز أن يكون من خاض فيها سلك سبيل التأويل لا التفسير،إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا. وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به من غير قطع بأنه المراد. فمن ثم يكون القول فيه . ثم يضيف »وظاهر الآية المنع من القول فيها لختم الآية بقوله « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ». أي جعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه فلا تسألوه عنه فإنه من الأسرار. وقيل المراد بقوله « من أمر ربي » كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة ». وهو التفسير الذي سنجده عند الغزالي كموقف رسمي من مسألة الروح .
كما سنرى ابن حزم يركز على هذا المعنى، ولكن بمفهوم أنها خلقت دفعة واحدة،فيذهب إلى أن »معنى عالم الأمر في قول الله تعالى « ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي » إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا، وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمرا له بالكون فكان، فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد « .
وإذا كان موقف الذين يرون من مفهوم الأمر أن الروح يعتبر من عالم الغيب أو عالم الملكوت ،كمبرر للقول بصعوبة معرفته أو امتناعها ،فإن ابن حزم وابن قيم الجوزية وغيرهما سيرون غير هذا الرأي. إذ رغم تفسير ابن حزم لمفهوم الأمر بمعنى عدم خضوع الروح في تكوينها إلى مراحل متطورة، فإنه وبمعية كثير من النظار الفقهاء والمتكلمين ومن بينهم ابن قيم الجوزية، يرون أيضا أن الروح تدخل في حكم الجسمية إلا أنها جسمية متميزة بطبيعة الحال عن الجسمية العادية.
ثانيا: (جسمية الروح ) وتوظيف القياس الكوني لتحديد طبيعتها
فابن حزم سيتشبث بهذا الوصف للنفس على مستوى الجوهر باعتماده على معطيات الحس والعقل التي يعتبرها بديهية وحتمية. وبواسطتها فقد يمكن الحكم على الأشياء:سواء منها المرئية وغير المرئية.
وهذه المبادئ قد لخصها في قوله  » لم نجد في العالم إلا قائما بنفسه شاغلا لمكان يملأه ووجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكانا،بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه. هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا. فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل هو نوع آخرغير القائم بغيره الذي لا يشغل مكانا.فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم. فاتفقنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسما واتفقنا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضا. وهذا بيان برهاني مشاهد ».
فالنفس -حسب مذهب ابن حزم- هي من جملة الأوائل في هذا العالم، إذن فهي تدخل أو تخضع تحديدا إلى هذه الأحكام جوهرا وصفة. وهذاما حدا به إلى التصريح بجسميتها.
كما سيذهب إلى نفس الموقف فقيه آخر وهو ابن قيم الجوزية بصورة مركزة ومؤسسة على استدلالات،وخاصة في كتابه « الروح » الذي جمع فيه أهم الأفكار التي تقول بجسمية النفس وعدمها. ثم سيستنتج منها ترجيح القول بجسميتها كما تضمنته المسألة التاسعة عشرة من الكتاب.
هذا الموقف سيكون المبرر للقول بإمكانية معرفة الروح ،المرادف للنفس، وهو يتأسس بدوره على ما ذهب إليه ابن حزم ، وقد عبر عنه في صيغة مختصرة وخاصة عند تحديد خلفيات السؤال الذي طرحه اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم.بحيث يرى ابن القيم أنهم سألوه « عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس.وأما أرواح بني أدم فليست من الغيب وقد تكلم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة ».
فعدم اعتبار أرواح بني أدم من باب الغيبيات مؤشر واضح على فتح مجال معرفة النفس على مصراعيه وإخضاع البحث فيها إلى المقاييس والأحكام التي تصدق على الكائنات المرئية أو التي تدخل في حكم العالم من حيث هو جوهر وعرض ،وحيز وزمان ومكان ،وما إلى ذلك من المباحث التي تدرج ضمن قضايا علم الكلام والفلسفة، بل حتى العلوم الطبية والتجريبية المادية والمستحثات النفسية التربوية وغيرها ،كتجارب ملموسة وملحوظة في تطوراتها من حيث كسب الملكات وتفاعل الجسد والروح وانعكاساته على الأعضاء الظاهرية البدنية للإنسان وعلى مستواه الصحي…
أما اعتبار النفس مخالفة للجسد كلية مع وجود تأثير متبادل بينهما فإن العقل من حيث حكمه على النفس قد يقف عند حدود إثبات وجود الجوهر المفارق الذي هو الروح،وتميزه عن الجسد من حيث إنه هو المحرك له وسبب حياته … في حين يكون تحقيق المعرفة في المسائل الوظيفية والتفاعل الذاتي بعناصره الروحية والجسدية الظاهرية والباطنية البسيطة والمعقدة قد يحتاج إلى منهج وأداة غير التي جرى بها العمل في الاستدلالات ،سواء عند المتكلمين أو الفقهاء والفلاسفة .
بحيث قد تأخذ معرفة النفس من هذا التوجه المعرفي بعدا وإمكانا آخر أرقى من الإمكان القياسي العقلي المحض، كما يعبر عنه الغزالي بقوله : »فإن قيل : قد أثبتم بالبرهان أن النفس من المفارقات فكيف تنتفع بالبدن وما فيه من الحس والخيال ؟ وكيف تكتسب العلوم بواسطة قوة التخيل وتحصل الفضائل وتكتسب الرذائل بواسطة القوى البدنية ؟ وكيف تؤثر الطاعات والمواظبة على العبادة في التنوير والتصفية ؟ وكيف تؤثر المعاصي والانهماك في الشهوات حتى يرتقي منها ظلمات على النفس فيبطل بها الاستعداد الفطري؟.
قلنا:هذا سؤال شريف والانفصال عنه أشرف منه، وإعطاء البرهان في ذلك مشكل وإنما الطريق فيه الوجدان والعرفان يقينا.والنفس خلقت بالفطرة مستعدة للعلوم ،والعلوم تحصل فيها بالتدرج.فلا بد من استعمال الفكر والخيال كما قدمنا وكما نذكر بعد ذلك من انتفاع النفس بالقوى،فإدراك العلاقة بين النفس والسلوك وأثر اتباع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإدراك فوائدها … لا دليل أقوى في هذا من التجربة والوجدان،فكل من ليس له سبيل إليه بالعرفان ولا بالوجدان فينبغي أن يصدق به فإنه درجة الإيمان « .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *