عندما يرثي شاعر شاعرا الشاعر محمد ماني يرثي الشاعر عبد السلام بوحجر
عندما يرثي شاعر شاعرا
الشاعر محمد ماني يرثي الشاعر عبد السلام بوحجر
الجزء الأول–
أحمد الجبلي
من أشهر القصائد المعاصرة في الرثاء رثائية الشاعر الثوري المغترب أحمد مطر للفنان الكاريكاتوري الشهيد ناجي العلي، وهي رثائية قد جعلها صاحبها في مائة بيت وأربعة أبيات عنوانها » ما أصعب الكلام » دلالة على الفراق الصعب والمصاب الجلل بفقد صديق ورفيق في درب النضال والدفاع عن القضية الفلسطينية، تحديدا، والعديد من القضايا العربية والإنسانية العادلة.
اشتهرت هذه الرثائية رغم أن المرثي ليس شاعرا وإنما رسام كاريكاتوري، وحق لها أن تنتشر في كل الآفاق، وذلك لمكانة المرثي وصيته وريشته الملتزمة بقضايا الأمة والشعب الفلسطيني الأعزل، ولكون صاحب هذه القصيدة هو أحد رموز مدرسة الحرف الشاعر الثوري الكبير أحمد مطر.
أما في ميدان الشعر، فيسجل التاريخ قصائد لا زالت حية نابضة إلى اليوم، رثى فيها شعراء شعراء آخرين، ومن أشهر هذه القصائد رثائية جرير للفرزدق: والتي يقول فيها:
لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها
عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ
عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ
إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ
لَقَد غادَروا في اللَحدِ مَن كانَ يَنتَمي
إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ
لعل الكثير من الناس لا يعلم عن هذه الرثائية شيئا، وذلك لعلمه المسبق بالحروب اللغوية الطاحنة التي جمعت بين الفرزدق وجرير والتي كانت كلها هجاء وسبا وقذفا وتنقيصا وذكرا للمثالب.
كما يسجل التاريخ المعاصر رثائية أحمد شوقي لصديقه حافظ إبراهيم والتي يقول فيها:
قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي
يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ
لَكِن سَبَقتَ وَكُلُّ طولِ سَلامَةٍ
قَدَرٌ وَكُلُّ مَنِيَّةٍ بِقَضاءِ
الحَقُّ نادى فَاِستَجَبتَ وَلَم تَزَل
بِالحَقِّ تَحفِلُ عِندَ كُلِّ نِداءِ
إذن، ليس بجديد، ولا غريب أن ينحى الشاعر المغربي الكبير محمد ماني منحى باقي الشعراء ويرثي صديقه الشاعر الوجدي المقتدر عبد السلام بوحجر رحمه الله برثائية سماها: « عندليب ناله القبر ».
أن يرثي شاعر شاعرا معناه أن دينا ما يجب أن يسدد، يكمن هذا الدين في كل ابتسامة زينت مجلسا، وكل حرف أو كلمة أو قصيدة أنارت محفلا، فأبهجت النفوس وأطربت القلوب، أو كل إلقاء مبهر صدح بالجمال والكمال ليغير فكرا، أو يعري واقعا، أو يكشف زيفا، أو يغرس قيمة أو خلقا.
ما أكثر الديون التي في أعناق الشعراء من الشعراء، فالراحلون لا يريدون منا أن نحولهم إلى آلهة برثائيات مشبعة بالنفاق والكذب، كما لا يريدون منا أن نقول فيهم ما لم يكن فيهم، ولا أن نمدحهم فنحولهم إلى معصومين، فكل ما يريدونه منا أن نبوئهم المكانة التي يستحقونها، هذه المكانة التي ربما لم يحضوا بها وهم أحياء، ،فليحضوا بها، إذن، وهم أموات.
إن الشاعر محمد ماني في رثائية: « عندليب ناله القبر » حاول ما أمكنه أن يحافظ على هذا التوازن المطلوب، فغالب الألم المبحوح الذي يعتصر قلبه، وصارع الغصص التي تسد الحلقوم، وكفكف الدمعة الحارة التي تحرق الخدود، ولسان حاله يقول كما قال رسول الله من قبل: » العين تدمع والقلب يبكي ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراقك يا عبد السلام لمحزونون »
في بداية القصيدة يصف لنا ردة فعله حين جاء المنادي يعلن خبر الفاجعة:
أصدق ما سمعت أم افتراء؟
كل إنسان حين يصله خبر ينعي وفاة حبيب أو صديق عزيز أو أخ شقيق أو زوج محب ووفي…يبادر عقله، تمنيا واشتهاء، بالتشكيك في الخبر، لأنه يريد ويرجو أن يكون الخبر مجرد افتراء أو خبر كاذب، أو أن في الأمر التباسا وعدم تبين.
كما نلاحظ بأن الشاعر قال: أَصِدْق ما سمعت؟ ولم يقل أأصدق ما سمعت، فلو قال: أأصدق ما سمعت، يكون معناه أن الخبر يقين والموت حاصل، والذات حرة إن شاءت صدقت وإن شاءت امتنعت، ولكن كونه قال: أصدق ما سمعت، فهو عدم معرفة بحقيقة الخبر يحمل في طياته الرفض وعدم القبول.
ولكن بعدما تم التأكد من الخبر، حينها تم التسليم الكلي لمشيئة الله الذي لا راد لأمره، » أم الأقدار تفعل ما تشاء »، وقد ذكر الأقدار مجازا ويعني بها صاحب الأقدار، على غرار قوله تعالى في سورة يوسف: (واسأل القرية التي كنا فيها…) فالقرية لا تتحدث ولا تجيب وإنما أراد أصحاب القرية. كما أن في ذكر القدر تسلية للنفس وترويح عنها، وهو نفس المعنى الذي ذهب إليه أحمد شوقي في رثاء صديقه حافظ إبراهيم بقوله: « قدر وكل منية بقضاء ».
وفي قوله: ومالي أستفيق ولا أفيق
أضاق الرحب وانقبض الفضاء
فالشاعر لشدة الصدمة لازال يعيش حالة من الغيبوبة، إن صح التعبير، لازال لا يعي ما يحدث، ولا ما يقع أمامه، وبقوله « مالي » فهو يستنكر على نفسه هذه الحال، وكلمة « أستفيق » في معاجم اللغة تعني الاستيقاظ من النوم أو السبات العميق، وكأنه في حلم، وأما « أفيق » فتعني العودة إلى الطبيعة بعد الغشية، إذن حالة الشاعر غير طبيعية وهو مع ذلك يبحث عن جواب حتى من داخل هذه الغشية ومن داخل هذا الحلم الذي يحجبه عن الخروج إلى الحقيقة والواقع، فيتساءل: « أضاق الرحب أم انقبض الفضاء »؟
أي لحد الآن لازال لا يعي بأن الأمر يحدث داخل الذات من تحولات بسيكولوجية عنيفة وانفجارات عاطفية خلقت نوعا من عدم الإحساس بالمحيط.
وفجأة ينتفض من حلمه ويمزق أستار غشيته، ليدرك كل الادراك بأنه يعيش لحظته بكل وعي، وأن الأمر يتعلق بفقدان صديق وأي صديق !! وأن فقدانه بلاء لا يضاهيه البلاء، فالبلاء الأول نكرة والبلاء الثاني معرفة، وفي هذا صورة بليغة لكون البلاء الذي يعيشه هو أفدح وأقسى من البلاء الحقيقي المتعارف عليه عند العامة بأنه بلاء.
كما أنه رزء أي مصيبة شديدة أدت بالشاعر إلى شقاء دائم، وهو تصوير يكفي للدلالة على حجم المصاب وأن هذا الفقد شديد تنوء بحمله الجبال. ولعل هذا التوصيف ببقاء الشقاء، وإن كان مجرد تعبير لحظي تنفيسا عن الذات المكلومة، له من الحقيقة في واقع الشاعر نصيب، حيث كلما تم ذكر الحبيب إلا وتضاعف الحزن من كل جانب على حد تعبير دعبل الخزاعي.
ويبدو أن الشاعر في مثل هكذا خطوب، كعادته، ربما لرقته وطيبة نفسه وعطف قلبه، فهو لا يجيد الصبر ولا يدعو إليه، أي يترك مساحة للمكلوم أن يحزن، وأن يبكي مفقوده، ولعل في ذلك مبرر لكل ما سبق ذكره من معاناة الشاعر وحزنه الشديد ودخوله في حالة نفسية جعلته يرتفع عن الواقع ولا يعي ما يحدث في المحيط. لذلك راح يقول:
خطوب لا أوالي الصبر فيها
ولا أدعو له ولا أشــــــــــاء
يتبع
Aucun commentaire