Home»National»غياب ثقافة إجراء الحوار في شتى مؤسسات المجتمعات العربية والإسلامية محمد شركي

غياب ثقافة إجراء الحوار في شتى مؤسسات المجتمعات العربية والإسلامية محمد شركي

0
Shares
PinterestGoogle+

غياب ثقافة إجراء الحوار في  شتى مؤسسات المجتمعات العربية والإسلامية

محمد شركي

لقد كان من المفروض أن يكون المرجع في إدارة كل أشكال الحوار في المجتمعات العربية الإسلامية هو كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن الله تعالى  لقّن رسله الكرام صلواته وسلامه عليه أجمعين ثقافة إجراء الجوار مع أقوامهم كما سجل ذلك القرآن الكريم في مواضع عدة  . ولما كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة للعالمين إلى قيام الساعة ، وجبت على الأمة المسلمة  القناعة  الراسخة بأن ثقافة إجراء الحوار الواردة فيه هي ما يلزم كل مؤمن أن يتبناها كي يتميز عن غيره من أصحاب المرجعيات المختلفة التي لا شك في تأثيرها بشكل أو بآخر على ثقافة إجراء الحوارات .

ولا بد بداية أن نعرف بالحوار في اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم ، والذي يعني تبادل كلام  يكون عبارة عن نقاش أو جدال بين شخصين أو أكثر تعبيرا عن وجهات نظر يطبعها غالبا الخلاف أو الاختلاف الذي مرده بطبيعة الحال  إلى اختلاف المرجعيات أو القناعات.

 وقد يكون للحوار غاية القصد منها هو إنهاء الخلاف أو الاختلاف بين المتحاورين عن طريق نجاح بعضهم في أساليب الإقناع . وقد لا تتحقق هذه الغاية ، ويظل الخلاف أو الاختلاف بينهم قائما على حاله إلى ما لا نهاية ، وهو ما ينعت  تارة بحوار الطرشان ، وطورا بالحوار البيزنطي .

وبالعودة إلى كتاب الله عز وجل نجد ثقافة إجراء الحوار المتزن واضحة المعالم ، وسنركز في هذا المقال على أهم سمة لهذا الحوار ، كما جاء ت في قول الله تعالى  مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ،كما خاطب من قبله كل المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )) ، ففي هذه الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة النحل ،يتضح جزء من معالم ثقافة  إجراء الحوار في دين الله عز وجل ، ويتعلق الأمر أولا بدعوة من يستهدفهم الحوار إلى تلقي الرأي  أو وجهة النظر التي  قد يختلفون معها ، ويشترط في هذه الدعوة  سلوك أو أدب معين قوامه الحكمة والموعظة الحسنة . أما الحكمة كما جاءت في كتب التفسير ، فهي المعرفة المحكمة أي الصائبة ، والمنزهة عن الخطأ أوعما يشوبها من شوائب الأهواء ، وأما الموعظة ، فهي القول اللين الذي يلين نفس المقول له أو المحاوَر ، وهي عندهم أخص من الحكمة ، ونعتها بالحسنة هو تأكيد على التزام طبيعتها إذ الموعظة أصلا عبارة عن كلام ليّن يختلف عن  كلام اللوم والعتاب والتجريح …

وبعد الدعوة إلى بسط أو عرض وجهة النظر أو الرأي  بحكمة وموعظة حسنة، يبدأ الحوار أو الجدال أو النقاش ، وهو الاحتجاج لتصويب الرأي أو وجهة النظر ، وإبطال ما يخالفها ، وهو ما يتطلب سوق الأدلة المقنعة  أو الحجج  الدامغة . واشتراط الحسن في الحوار أو الجدال أو النقاش هو احتراز من انحرافه نحو القبح بسبب طغيان العواطف على الألباب ، وإفساد آرائها ، لأن هذا الفساد يعزى إليها ، ومن الأقوال المتداولة قولهم : » الاختلاف في الرأي لا عداوة فيه ، وإنما العداوة تصدر عن الأهواء والعواطف  » .  ولقد دل على ذلك قول الله تعالى : (( إن ربك  هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ))  وهذا يعني أن الناس إما ضالون بأهوائهم وعواطفهم  أو مهتدون بعقولهم . وهذا يدل على أن القناعات التي تعتمد العواطف والتي لا كابح لها تكون بالضرورة ضالة ، وهي ما يستوجب الجدال الذي يصوبها  ولكن بالموصفات التي ذكرها الله عز وجل ، ذلك أن من تستحوذ عليه العاطفة المندفعة ، وتضطره إلى قناعة منحرفة حين يدعى بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادل بالتي هي أحسن قد يلطف ذلك من شدة أو قوة عاطفته الجامعة ،الشيء الذي يعطي عقله فرصة  تدبرلتقبل الحوار ، وتلقي حمولته برحابة صدر ، وهذا ما أوصى به الله تعالى نبيه الكريم موسى  وأخاه هارون عليهما السلام عندما أرسلهما لمجادلة فرعون ، وهو شخصية مستكبرة ،ومتعالية على الجدال ، ومستبدة بالرأي ، ومستخفة بالرأي الآخر ، بل ومهددة للمحاور أو المجادل فقال جل شأنه : (( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى ))، ففي هذه الآية الرابعة والأربعين من سورة طه تنصيص على كيفية مجادلة الطغاة الذين لا لين في  طباعهم تجاه من يجادلهم ، ومع ذلك أمر الله تعالى نبييه الكريمين عليهما السلام باعتمادهما القول اللين مع الطاغية فرعون ، وهو قول يكون فيه ترغيب دون إشعار المخاطب المتعالى بما يوحي بتسفيه رأيه أو تجهيله، الشيء الذي يخلصه من استبداد جهله ، وطغيان عاطفته ، فيغلّب العقل على طغيانها كي تصل إلية الرسالة دون أن تشوب تبليغها شوائب التشويش .

وإذا كانت هذه ثقافة إجراء الحوار مع نماذج الطغيان ، فأولى أن تكون مع من دونهم ، وهو ما استنبطه أهل العلم  عندنا من أجل ترسيخ هذه الثقافة لدى كل من يشتغل بالحوار الهادف مهما كان نوعه  .

وقد يتساءل البعض لماذا اشترط الله تعالى في الحوار الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والقول اللين مع أن ما أرسل به المرسلون وخاتمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو الحق الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلقه ، والجواب  عن ذلك أن المحاور الذي يكون الحق إلى جانبه، يكون بالضرورة قوي الحجة والبرهان  ، ولا يحتاج إلى التخلي عن أدب الحوار  من حكمة وموعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن ، وقول لين ، خلاف من يحاورهم ممن تعوزهم الحجة ، و تعطل عواطفهم المندفعة الاحتكام إلى عقولهم ، فيميلون عن الحق إلى الباطل .

وفضلا عما جاء في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم  من نماذج  راقية لثقافة  إجراء الحوار ، فإن  التراث الإسلامي أمدنا بالعديد من مثل تلك النماذج الراقية في عصور زاهية  مرت بها أمتنا الإسلامية إلا أنها قد أتت عليهم عصور ، تطبع خلالها  أفرادها بطباع ملل ونحل كثيرة بعيدة عن هدي الله تعالى ، فحادوا بذلك عن الثقافة الراقية لإجراء الحوارات مع الأغيار،  بل ومع بعضهم البعض مع شديد الأسف ، كما أمر بذلك الله عز وجل.

ونضرب أمثلة من واقعنا المعيش على انحرافنا عن تلك الثقافة الراقية ، ولنبدأ بأهم الملتقيات التي هي البرلمانات العربية والإسلامية، والتي تدار فيها الحوارات بين أعضائها من نواب الشعوب ، ومسؤولي الحكومات بافتقار فظيع إلى ثقافة إجراء الحوار الهادف والبناء . والسبب في ذلك هو تغييب الحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والقول اللين مع استحضار الجهالة، والحماقة، والتهور، والرعونة، والسفاهة ، والطيش، والنزق أو نقول باختصار انعدام الضمير، وسوء الخلق .ولقد دأبت وسائل الإعلام ، ووسائل التواصل الاجتماعي على نقل مشاهد مخزية مما يدور بمقرالبرلمانات العربية والإسلامية ،حيث تتحول فيها  تلك الحوارات إلى سباب وشتائم ، وعنف وعراك …. وأصبح الناس يتندرون بتلك المشاهد  ويسخرون منها ويستخفون بأصحابها. وإذا كان أبطال تلك المشاهد هم ممثلو الشعوب ، فكيف حال  ثقافة إجراء الحوار عند هذه الأخيرة ؟

ولا شك أن أعضاء البرلمانات العربية والإسلامية قد تطبعوا بطباع بعض أعضاء البرلمانات الغربية التي لا تخلو  هي الأخرى من هراش ، وربما تعمد أعضاء البرلمانات العربية والإسلامية تقليد هؤلاء، خصوصا مع طغيان  التقليد الأعمى وتسويق إحدى عباراته  المعبر عنها بقول :  » وفق المعايير الدولية  » وكأن هذه المعايير وحي يوحى  لا يأتيها باطل من بين يديها ولا من خلفها . وما لم تحرر الأمة العربية والإسلامية من هذه العبارة المذلة والمخزية فلن تتحرر أبدا من آفة التقليد الأعمى .

وإذا كانت  ثقافة إجراء الحوار منعدمة في المؤسسات البرلمانية، والتي تجمع بين أعضاء لا وجود لتناسب بينهم في المستويات المعرفية ، وهذا سبب من أسباب انحطاط الحوارات فيها  إلى درك فظيع  يؤسف له شديد الأسف ، فالأشد أسفا وحزنا  أن تنعدم تلك الثقافة في  مختلف المؤسسات   وعلى رأسها  تلك التي يتساوى أفرادها في المستويات العلمية  ـ يا حسرتاه ـ كما هو الحال  في  الجامعات والمعاهد العليا ، والهيئات  مهنية العامة والخاصة  ، والجمعيات  الثقافية ، والنقابات، والإدارات  … ومع ذلك يسجل عليهم انحدار فظيع أيضا  بالحوارات  التي تدور بين المنتمين إليها إلى أحط المستويات  في لقاءات رسمية من المفروض أن تكون محكومة بضوابط وقوانين وأخلاقيات إدارية ملزمة .

أليس من العار أن يكون أعضاء بعض تلك المؤسسات حاصلين على أعلى الشهادات العلمية ، وهم قدوة المجتمع ، وطليعته ، ومع ذلك يهبطون بحواراتهم الساخنة إلى درجة مؤسفة من الإسفاف والانحطاط  دون التزام منهم بالحد الأدنى من قواعد الحوار الراقي  ، ونربأ بالنفس أن نسرد منها نماذج  هي  في غاية السوء ، وهي مسيئة لسمعة مثل تلك المؤسسات التي من المفروض أن تكون رائدة في تسويق ثقافة إجراء الحوار الراقية كما أمر بها الله عز وجل في محكم التنزيل ، وكما ترجمها السلوك العملي لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا ما أنكر البعض تردي مستويات الحوار في تلك المؤسسات ، ندعو أفرادها أن تكون لديهم الشجاعة الكاملة لتصوير ما يجري بينهم خلال حواراتهم  الساخنة ، ونشرها  عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما تنشر الحوارات التي تدور في البرلمانات ، فوالله لن يجرؤ أحد  منهم على ذلك  لما في ذلك من معرة تجعل مكانتهم في المجتمع تنحدر إلى أحط  المستويات  .

ويختلف الوضع في اللقاءات التي تحضر فيها القيادات  » المتفرعنة  » والمتعالية حيث يخضع الجميع للانضباط  إلى درجة الخضوع والخنوع ، والمبالغة في عبارات الثناء والاستحسان لكل ما يلقى عليهم مهما كان غثا ، وهو ما يكرس ثقافة الحوار المستبد الطاغي في مجتمعاتنا مع شديد الأسف .

ونختم بالسؤال عن متى ستعود أمتنا العربية والإسلامية إلى رشدها من جديد ، فتصلح من أحوالها ما أفسده التقليد الأعمى للأغيار ، ومما فسد عندنا مع شديد الأسف والأسى  والحسرة  ثقافة إجراء الحوار كما شرفنا بها رب العزة جل جلاله  من بين الأمم ، وكما علمنا  ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والإسوة الحسنة ؟

وقد تكون لنا عودة  إن شاء الله تعالى إلى هذا الموضوع مستقبلا بشيء من التفصيل إذا اقتضى الأمر ذلك ، و يكون القصد منه الإصلاح قدر المستطاع ، وما التوفيق إلا من الله عز وجل .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *