التفاهة من منظور القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف محمد شركي
التفاهة من منظور القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف
محمد شركي
من المعلوم أن مُؤلَّف » نظام التفاهة » للفيلسوف الكندي ( آلان دونو )، قد أثار جدلا واسعا في العالم، حيث تلقاه من يزدرون التفاهة بإعجاب كبير ، بينما تجاهله من صارت التفاهة عندهم فلسفة وأسلوب حياة أو موضة العصر، خصوصا الذين يرتزقون بها ، و يحقيقون بها مكاسب مادية ومعنوية وأغلب البشر غافل عما يفعلون ،وهو منبهر بهم ، ويصبو إلى الحذو حذوهم.
ولقد تحث عن هذا المؤلف كثير من المفكرين ، ورأوا أنه قد فسر بشكل دقيق انحراف العالم عما هو سوي و قيّم من السلوك البشري إلى ما هو منحرف و تافه. واعتبر التفاهة نظاما شمل في هذا العصر جميع مجالات الحياة مادية ومعنوية ، وأنها لم تغادر اقتصادا ولا سياسة ، ولا فكرا ، ولا فنا ، ولا إعلاما … ولا غير ذلك إلا واقتحمته، وأنها العملة الرائجة التي اغتنى بها التافهون في جميع المجالات .
وأشارت الترجمة العربية لهذا الكتاب إلى أنه بالرغم من الأمثلة المستقاة من الحياة الغربية التي مثل بها صاحبه للتفاهة ، فإن التفاهة ستبقى غالبة في هذا العصر على الحياة البشرية بأسرها ، ولها أمثلة مؤشرة عليها في حياة مختلف الأمم والشعوب.
ولقد ارتأيت أن أعرض مفهوم التفاهة على أصح ما يؤمن به المسلمون، وهو كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يأتيهما باطل من بين يديهما ولا من خلفهما ، وهما يمثلان الرسالة السماوية الخاتمة التي جعلها الله تعالى عالمية إلى قيام الساعة ، وقد تناولت كل نواحي الحياة البشرية ، وشرعت لها شرعا يمكنها من الحياة الطيبة في ظل قيم سامية ترقى بها عن التفاهة .
وأول ما ظهر من التفاهة، وهي لفظة تدل في اللسان العربي على حالة تعتري الكائنات على اختلافها ، فتجعلها تنحدر أو تتردى من التمام إلى النقصان ، أومن القوة إلى الضعف ، أومن الجد إلى العبث ، فالطعام التافه، هو الذي لا ذوق له ولا طعم ، والرجل التافه، هو غير المتزن أو الذي به حمق وغباء وبلادة ، والعمل التافه ،هو الذي لا قيمة له … وخلاصة القول أن التفاهة عبارة عن تقهقر من الكمال إلى النقص ، ومن المعالي إلى السفاسف .
وعندما نعود إلى القرآن الكريم، نجد فيه أن زعيم التفاهة الأول في الوجود، هو إبليس اللعين الذي عادى آدم عليه السلام حسدا من عند نفسه لما أمره الله تعالى أن يسجد له تعظيما لخلقه، فأبى وكاد له كيدا خبيثا من أجل إخراجه من الجنة حين زين له الأكل من الشجرة المحرمة عليه ، وقد أغراه بالخلد ، والتحول من الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الملائكية ، وكان هذا الإغراء هو أول ممارسة شيطانية للتفاهة التي زينت الأوهام لأول إنسان . ولم تقف ممارسة تسويق إبليس للتفاهة عند هذا الحد ، ولم يقتصر تسويقها لآدم وزوجه، بل انتقل تسويقها إلى ذريته ، وقد آل الشيطان على نفسه أن يمضي في هذا التسويق إلى قيام الساعة، كما أخبر بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : (( وقال لأتخذنّ من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنّهم ولأمنينّهم ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعهدهم الشيطان إلا غرورا ))، فبموجب هذه الآيات الكريمة من سورة النساء ، يتبين أن التفاهة إنما وجدت مع وجود البشرية ، و أنه لا يخلو منها عصر من العصور ما دام إبليس حيا يمارس مهمة تسويق التفاهة بين بني آدم كما وعد وتعهد بذلك ، وقد طلب من خالقه سبحانه وتعالى أن ينظره إلى يوم البعث كي ينتقم من الجنس البشري الذي كان سببا في طرده من رحمته عز وجل ، وكان له ما أراد .
ومعلوم أن الله تعالى قد تنزه فعله عن التفاهة وعن العبث ، وهو القائل جل في علاه : (( وما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق )) ، وهو القائل أيضا : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو اردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)) ، ففي هذه الآيات الكريمة من سورة الأنبياء، تنزيه لفعل الله تعالى عن اللهو والعبث الذي هو باطل ، والتفاهة لهو، وعبث ، وباطل ، وهي من عمل الشيطان الرجيم لعنه الله .
والقرآن الكريم يقص علينا قصصا عن أمم غابرة ، كان دائما بين أفرادها صراع مرده إلى اختيار فئة منهم الباطل نظاما في حياتها ، واختيار أخرى الحق نظاما في حياتها . وإذا أردنا أن نعبر بلغة العصر، قلنا اختارت فئة التفاهة نظاما في حياتها ، بينما اختارت أخرى الجد نظاما في حياتها .
ولقد بعث الله تعالى المرسلين صلواته وسلامه عليهم أجمعين رحمة بالعالمين ، وصيانة لهم من الوقوع في شرك التفاهة الذي توعدهم به إبليس اللعين . ولقد ضرب لنا الله تعالى أمثلة في القرآن الكريم عن نماذج بشرية كان النظام الذي يحكم حياتها هو نظام التفاهة ، وتكفي الإشارة إلى فرعون موسى عليه السلام كنموذج والذي قال عنه الله تعالى : (( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين )) ، إن هذه الآية الكريمة من سورة القصص، تعكس لنا اعتماد فرعون نظام التفاهة والعبث الذي هو باطل أراد أن يحله محل الحق ، وقد تجلت ممارسته للتفاهة في علوه في الأرض من خلال التمييز بين خلق الله تعالى بحيث يستضعف طائفة منهم ، بينما تستقوي عنده طائفة أخرى . ولما جاءه نبي الله موسى بالحق الهادم والناقض لباطله أو لنظام تفاهته الذي كان يعم كل نواحي الحياة في زمانه ، توعده بالقتل أو بالتصفية هو ومن آمنوا معه. ولقد حاول موسى عليه السلام أن يثبت له بالأدلة الدامغة أنه على باطل، وأنه يعيش في أوهام التفاهة، وذلك من خلال مواجهة سحرته الذين كانوا يشاركونه في تسويق التفاهة، إلا أنه أصر على تفاهته حتى لقي مصرعه غرقا ، ولم يفق من غفلته إلا بعدما أدركه الغرق كما قال الله تعالى : (( حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوإسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )) ، ففي هاتين الآيتين الكريمتين من سورة يونس ما يدل على أن فرعون لم يفق من غفلة التفاهة التي كان يعيش فيها إلا بعدما رأى الموت رأي العين .
وما أسهب الله تعالى في سرد أخبار فرعون في كتابه الكريم الموجه إلى العالمين إلى يوم الدين إلا ليكون عبرة للتافهين في كل زمان ، وفي كل مكان .ولقد توالى عبر العصور تافهون من أمثال فرعون ، وسوقوا للتفاهة ، وعمموها ، ولا زالوا يتوالون ، وليس هذا العصر الذي نعيش فيه هو وحده عصر التفاهة كما جاء في كتاب الفيلسوف الكندي، بل لم يخل عصر من العصور منها ، ولكل عصر تفاهته الخاصة به، لأن القضية قضية امتهان وتسويق المخلوق الشرير إبليس اللعين للتفاهة بين بني البشر ، وقد استأذن خالقه كي يخلي بينه وبينهم كي يورطهم في أوحال التفاهة ،فكان له ما أراد وقد طرد من رحمة الله تعالى ، ووعد الخلد في نار جهنم هو ومن تبعه من التافهين مصدقا لقوله تعالى : (( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان )) ، ففي هذه الآيات الكريمة من سورة الإسراء، بيان واضح لكيفية تسويق إبليس اللعين للتفاهة بتعبير الفيلسوف الكندي ، والباطل أو الغرور بتعبير القرآن الكريم .
وعندما نعود إلى سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهي من وحي الله تعالى ، نجد فيه أيضا إشارات إلى التفاهة ،كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عنه كل من أنس بن مالك ، وأبو هريرة رضي الله عنهما : » سيأتي على الناس سنوات خدّاعات ، يُصدّق فيها الكاذب ، ويُكذّب فيها الصادق ، ويُؤتمن فيها الخائن ، ويُخوّن فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ، قيل وما الرويبضة ، قال الرجل التافه ، في أمر العامة » ، ففي هذا الحديث الشريف يأتي ذكر لفظ التفاهة صريحا ، والتي يعكسها حلول الكاذب محل الصادق ، والخائن محل الأمين ، والرويبضة ، وهو تصغير الرابضة ، تحقيرا له، لأنه يربض أو يقعد عن طلب معالي الأمور ، بيمنا يطلب سفاسفها أي تافهها محل طالب المعالي .
وكفى بهذا الحديث الشريف شهادة على نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة التي تحققت بعده ، وهي تتحقق اليوم في زماننا بشهادة حتى غير المسلمين من مثل الفيلسوف الكندي الذي أثار مؤلفه عن التفاهة اهتمام العالم ، وقد مثل فيه لكل أنواع التفاهات المهيمنة .
ولا شك أن المسلمين قد عرفوا التفاهة من خلال ما نقله إليهم الوحي قرآنا كريما ، وحديثا شريفا قبل أن تصنف في موضوعها المؤلفات إلا أن فيهم ما جرفه تيار التفاهة ، وهو يحذو حذو التافهين في هذا العالم بسبب انبهاره بهم ، وقد جعلوا من تفاهتهم مطلبا عزيزا وسلعة غالية تهفو إليه النفوس المفتونة بها.
ونختم ببيت شعر للشاعر الحكيم المتنبي ، وهو يختصر كل ما جاء في مؤلف الفيلسوف الكندي عن التفاهة ، ويغني عن تصفحه حيث يقول :
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وما الصغير سوى الإنسان التافه الذي تعظم في عينه التفاهة بكل أشكالها وألوانها.
وأخيرا نعد مستقبلا بوقفات مع تجليات للتافهة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ،عسى أن يكون في الكشف عنها ما يقدح بصيص الوعي بخطورتها في أذهان المفتونين بها الذين يتعشقونها إلى حد الوله أو الجنون .
Aucun commentaire