Home»International»الصوفية والتحديد الموضوعي للظواهر النفسية

الصوفية والتحديد الموضوعي للظواهر النفسية

0
Shares
PinterestGoogle+

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب

أولا : التعريف الوظيفي للنفس في الفكر الصوفي

من ضوابط المعرفة والعلم في الفكر الإسلامي كمقدمات منهجية هو أن يُجعل لكل موضوع علمي تعريفا يجمع عناصره من كل جوانبه بحسب وظيفته أو غايتا.
وقد نجد تعاريف جد دقيقة في شتى المجالات العلمية عند المسلمين لغاية أن أصبحت مضرب الأمثال أو قواعد محفوظة عن ظهر قلب ، وخاصة قواعد أصول الفقه ، وعلم التوحيد، واللغة وغيرها.
وبما أن النفس تمثل حقلا معرفيا معمقا، يجمع بين الظاهر والباطن ، وبين الجسد والروح ، وكذا العقل وبديهياته ، الشيء الذي يجعل من الصعب جدا الإحاطة الفكرية بهذه العناصر وتحديدها على وجه البداهة والبرهان ، فقد عرفت اختلافات دقيقة بين البحاث حول صياغة تعريفها عند هذا أو ذاك ، بحسب مذهبيته وبحسب رؤيته الخاصة ومنهجيته في التعامل مع النفس وظواهرها.
غير أنه من حيث البعد المنهجي والغائي المعرفي فإننا سنجد هذه التعاريف تنقسم في أغلبها إلى: ما تصب في تحديد الماهية ، وهي الروح في حد ذاتها، أو تحديد الوظيفة والظواهر وهي النفس كما هو غالب على اصطلاحها. ولهذا فسنرى أن أغلب التعاريف للنفس تدور بين هذين المعنيين ، ولا تكاد تخرج عنهما.
فتعريف الصوفية للنفس هو كما يقول ابن القاسم القشيري « نفس الشيء في اللغة وجوده ، وعند القوم ليس المراد من إطلاق لفظ النفس الوجود ولا القالب الموضوع . إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العبد،ومذموما من أخلاقه وأفعاله …ويحتمل أن تكون النفس مودعة في هذا القالب هي محل الأخلاق المذمومة ، كما أن الروح لطيفة في هذا القالب هي محل الأخلاق المحمودة ، وتكون الجملة مسخر بعضها لبعض ،والجميع إنسان واحد. وكون الروح والنفس من الأجسام اللطيفة في الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة. وكما يصح أن يكون البصر محل الرؤية ، والأذن محل السمع ، والأنف محل الشم ، والفم محل الذوق ، والسميع والبصير والشام والذائق ، إنما هي الجملة التي هي الإنسان . فكذلك محل الأوصاف الحميدة القلب والروح ، ومحل الأوصاف المذمومة النفس ، والنفس جزء من هذه الجملة ، والقلب جزء من هذه الجملة ، والحكم والاسم راجع إلى الجملة « .
فالقشيرى يذهب في تعريف النفس إلى اعتبارها وجها من وجوه السلوك الإنساني، تمثل الطابع الشهوي أو الغضبي فيه بصفة خاصة . ويطرح بوضوح خصوصية المصطلح الصوفي في تعريف النفس لكي يكون المطلع على كتابات الصوفية ومحادثاتهم على بينة من مقاصدهم عند التعبير بمصطلح النفس . ولهذا فهو يميز بين مصطلح النفس والروح تمييزا دقيقا و أخلاقيا بالدرجة الأولى، ويرى الإمساك عن الكلام في الروح وعدم الخوض في تفصيل الكلام عنها تأدبا بأدب النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله اليهود عن الروح ولم يجبهم حتى نزلت الآية « ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ».
بيد أننا سنجد منحى تعريفيا آخر عند أبي حامد الغزالي، وذلك من خلال توظيف مصطلح النفس بنفس المعنى الذي عرف به القشيري، ثم سيضيف إليه توسعة لمعناه على سبيل الاشتراك اللفظي. فيقول : « النفس : وهو مشترك بين معنيين ، أحدهما أنه يراد به المعنى الجامع لقوتي الغضب والشهوة في الإنسان ، وهذا الاستعمال هو الغالب عند الصوفية . فهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان . فيقولون : لابد من مجاهدة النفس وكسر شهوتها. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : »أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك « .
والمعنى الثاني: اللطيفة التي ذكرناها وهي حقيقة الإنسان في نفسه وذاته ، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها. فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات ، سميت النفس المطمئنة ، قال تعالى « يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ».
والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى، فإنها مبعدة عن الله سبحانه وتعالى، وهي حزب الشيطان، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة . فإذا تركت الاعتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء. قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز »وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء » وقد يجوز أن يقال : المراد بالأمارة بالسوء هي النفس بالمعنى الأول . فإذن ،النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذمامة ، وبالمعنى الثاني محمودة لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات « .
وإذا كانت النفس بالمعنى الأول قد تعرف وحدة اصطلاحية تميل إلى الجانب العملي والتجريدي. فإنها بالمعنى الثاني ستوسم بعدة مصطلحات منها: القلب والعقل والروح .
فالقلب سيكون لفظا مشتركا بين ثلاثة معان : وهي المعنى الحسي ذي الطابع الجسدي. والمعنى الوظيفي ذي البعد المعرفي والكشفي. والمعنى الجوهري ذي العمق الروحي.
والعقل قد يغلب عليه المعنى الوظيفي ،ويراد به العلم بحقائق الأمور، ويراد الجانب المدرك للعلوم من الإنسان ، كما يراد أيضا النفس بمعناها الجوهري، وقد يراد به القلب في المعنى العلمي والمعرفي.
وأما الروح ، فله معنى مشترك أيضا بين المعنى الحسي والتجريدي والجوهري. إذ المقصود هو المعنى الأخير، والذي تعريفه « أنه هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان . وهو الذي أراده الله بقوله : » قل الروح من أمر ربي » وهو أمر عجيب رباني قد تعجز أكثر العقول و الأفهام عن درك حقيقته.
وعلى الجملة فكما يقول الغزالي في تحديد معناه العام « هو عبارة عما به حياة ما على الجملة « .

ثانيا: الجانب السلبي للنفس في التعريف الصوفي

فالصوفية قد يستعملون مصطلح النفس بمعنيين ، أي الجانب المذموم سلوك الإنسان وخلفياته ، والجانب الأساسي الفطري الذي يعني جوهر النفس وذاته . وهذا المعنى سنجده عند جلهم ، باعتبار التصوف منهجا علميا وجدانيا.
هذا المفهوم المشترك سيلخصه ابن عربي الحاتمي بعمق في قوله : »اعلم أنه لما كان الغالب في اصطلاح القوم بالنفس أنه المعلول من أوصاف العبد اقتصرنا على الكلام فيه خاصة في هذا الباب. فإنهم قد يطلقون النفس على اللطيفة الإنسانية وسنومئ في هذا الباب إن شاء الله إلى النفس ، ولكن بما هي علة لهذا المعلول.
فاعلم أن لفظة النفس في اصطلاح القوم على الوجهين من عالم البرازخ حتى النفس الكلية، لأن البرزخ لا يكون برزخا إلا حتى يكون ذا وجهين لمن هو برزخ بينهما، ولا موجود إلا الله ، وقد جعل ظهور الأشياء عند الأسباب، فلا يتمكن وجود المسبب إلا بالسبب. فلكل موجود عند سبب وجه إلى سبب ووجه إلى الله، فهو برزخ بين السبب وبين الله .
فأول البرازخ في الأعيان وجود النفس الكلية، فإنها وجدت عن العقل والموجد الله . فلها وجه إلى سببها ولها وجه إلى الله ، فهي أول برزخ ظهر. فإذا علمت هذا، فالنفس هي لطيفة العبد المدبرة لهذا الجسم لم يظهر لها عين إلا عند تسوية هذا الجسد وتعديله . فحينئذ نفخ فيه الحق من روحه ، فظهرت النفس بين النفخ الإلهي والجسد المسوى… ولهذا كان المزاج يؤثر فيها وتفاضلت النفوس ، فإنه من حيث النفخ الإلهي لا تفاضل وإنما التفاضل في القوابل ، فلها وجه إلى الطبيعة ووجه إلى الروح الإلهي، فجعلناها من عالم البرازخ . فإنه من جهة النفس مذموم عند القوم وأكثر العلماء ،ومن كونه مضافا إلى الله من حيث هو فعله محمود، فكان من عالم البرازخ بين الحمد والذم لا من حيث السبب بل الذم فيه من حيث السبب لا عينه .
فكل وصف يكون لنفس العبد، لا يكون الحق للنفس في ذلك الوصف مشهودا عنده وجود عينه فهو معلول،فلذلك قيل فيه بأنه نفس ، أي ما شهد فيه سوى نفسه ، وما رآه من الحق كما يراه بعضهم ، فيكون الحق مشهودا له فيه .
وكذلك إذا ظهر عليه هذا الوصف لعلة كونية لا تعلق لها بالله في شهودها، ولا خطر لها نسبة ذلك إلى الله ، فهو معلول لتلك العلة الكونية التي حركت هذا العبد لقيام هذا الوصف به ، كمن يقوم يريد العرض من أعراض الدنيا لا يحركه قولا أو فعلا إلا ذلك الغرض وحبه لا يخطر جانب الحق في ذلك بخاطر. فيقال هذه حركة معلولة ،أي ليس لله فيها مدخل في شهودك كما قال : « تريدون عرض الدنيا »يعني فداء أسارى بدر،فأرسل الخطاب عاما في أعراض الدنيا « والله يريد الآخرة « …
هذا التحليل من طرف ابن عربي قد يؤكد البعد التوحيدي العقدي لتعريف النفس عند الصوفية ،ويرتقي بتصور النفس ذات الطبيعة المذمومة من مجرد الانفعال الغريزي إلى الوضع العقدي للنفس، وأن الجانب المذموم فيها بما هي عليه من التوجه العقدي الذي فيه قصور عن تحديد الغاية الكبرى
وهي إرادة وجه الله .
وذلك لأن النفس الإنسانية من حيث هي جوهر ينبغي أن يكون تعلقها كله بالله تعالى لخصوصيتها الذاتية التي خلقها عليها وتعاليها عن التعلق بالمخلوقات والارتباط الغائي بهم، يؤكد الغزالي المعنى الذي نحن بصدده فيقول: »ولما كان ملاك الأمر معرفة النفس ،عظم الله أمره ونسبه إلى نفسه تخصيصا وإكراما، فقال : »إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ». فنبه على أن الإنسان مخلوق من جسم مدرك بالبصر، ونفس مدركة بالعقل والبصيرة لا بالحواس. وأضاف جسده إلى الطين وروحه إلى نفسه ،وأراد بالروح ما نعنيه بالنفس منبها لأرباب البصائر أن النفس الإنسانية والأمور الإلهية ، وأنها أجل وأرفع من الأجسام الخسيسة الأرضية ،ولذلك قال تعالى: »ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي »…

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *