الكتابة الصوفية ومنحى التأسيس المدرسي والمصطلحي
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
1) يعتبر القرن الخامس الهجري ذا خصوصية علمية وفكرية وأدبية بلغت الذروة من حيث الإنتاج والتنوع ، وفي هذا القرن سيظهر مؤلف صوفي كان بمثابة استدراك تأليفي وتأريخ مركز للصوفية ومنهجهم ، وهو كتاب « الرسالة القشيرية » لأبي القاسم القشيري،
جمع فيه بين التأريخ وتعريف النفس والأخلاق والمعرفة والسلوك … غير أن الملاحظ على الكتاب هو أنه قد ابتدأ بالسرد التاريخي لترجمة الشيوخ كأساتذة نفسيين وتربويين مع تحديد مستوياتهم المعرفية ، ثم قام بعرض خاص لتفسير مصطلحاتهم المدرسية ، كمصطلح الحال والقبض والبسط والهيبة والأنس والتواجد والوجد والوجود والفناء والبقاء والغيبة والحضور والصحو والسكر والنفس والخواطر والنفس والروح …
وهي مصطلحات كلها قد تصب في المعاني النفسية وأحوال الإنسان الباطنية ، كما أن العرض المبكر لهذه المصلحات هو سرد منهجي سيحدد للقارئ طبيعة الخطاب الصوفي وعمقه في الدلالة على الأحوال والظواهر النفسية .
فالرسالة القشيرية قد جاءت بعد عدة مؤلفات سبقتها في هذه المنهجية التأليفية ، والتي تحاول أن تضبط المنهج الصوفي ومصطلحاته،من أهمها العبارات النفسية ذات البعد الروحي والسلوكي في معارج التوحيد بالأذواق والأحوال والمقامات …
فكانت أول عملية من هذا النوع تمت على يد أبي نصر السراج الطوسي، من خلال كتابه « اللمع « ، الذي يقال أن الهجويري قد اقتفى أثره من جهة التأليف في كتابه « كشف المحجوب »وتتلمذ عليه أبو عبد الرحمن السلمي صاحب الطبقات ، وعلى السلمي تتلمذ عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية.
ولهذا فقد نجد مواضيع وقصصا وأقوالا في الرسالة القشيرية منقولة حرفيا عن اللمع ، كما في باب « ذكر آدابهم في الصحبة »مثلا.
ومثل هذه المؤلفات وغيرها ك »حلية الأولياء وطبقات الأصفياء » لأبي نعيم الأصفهاني و »التشوف إلى رجال التصوف »و »أخبار أبي العباس السبتي » لابن الزيات وغيرهما، قد يمكن اعتبارها بمثابة تسجيل على سبيل استمارة تاريخية، تعرض فيها الصور النفسية وأعراضها من خلال طرح بعض أحوال الصوفية ومشاهدهم ومواقفهم ، وتعليل ذلك تعليلا نفسيا دقيقا،قد توصف من خلالها طرق العلاج وأدويته. كما نجده مثلا في هذه الوصفة التي سيعرضها الأصفهاني على لسان الصوفي محمد بن علي الترمذي، قال: »نور المعرفة في القلب وإشراقه في عيني الفؤاد من الصدر، فبذكر الله يرطب القلب ويلين . وبذكر الشهوات واللذات يقسو القلب وييبس. فإذا شغل القلب عن ذكر الله بذكر اللذات كان بمنزلة شجرة إنما رطوبتها ولينها من الماء، فإذا منعت الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها. وإذا منعت السقي وأصابها حر القيظ ، يبست الأغصان ، فإذا مددت غصنا منها انكسر. فلا يصلح إلا للقطع ، فيصير وقود النار. فكذلك القلب ، إذا يبس وخلا من ذكر الله فأصابته حرارة النفس ونار الشهوة وامتنعت الأركان من الطاعة ، فإذا مددتها انكسرت فلا تصلح إلا أن تكون حطبا للنار. وإنما يرطب القلب بالرحمة ، وما من نور في القلب إلا ومعه رحمة من الله بقدر ذلك …
2) وهكذا، لو تتبعنا كل كتابات الصوفية التي يعسر حصرها فإننا سنجدها تحمل رصيدا مهما جدا في مجال معرفة النفس والإشارة إلى أحوالها وسلوكها. إلا أن التفاوت قد يبدو من خلال الاهتمام بتخصيص التأليف المباشر والصريح للمعاني والحقائق النفسية دون غيرها، أو مزجها بالمواضيع الأخرى مع طرح موضوع النفس ضمنها كلبنة أساسية في التحصيل الأخلاقي وتزكية الأعمال وتحديد أسبابها… كما نجده مثلا في كتاب « الغنية لطالبي طريق الحق »للشيخ عبد القادر الجيلاني وكتاب « التعرف لمذهب أهل التصوف »للكلاباذي.
وسنجد طرحا للمنهج الصوفي واستكشافاته النفسية بصورة مكثفة قد يغلب عليه طابع التحليل النفسي بالأسلوب الصوفي وقواعده في كثير من الأحيان ،كما يتناول فيه موضوع الخواطر النفسانية تدقيقا وكذلك مبدأ التواصل والمراجعة النفسية بين الشيخ والمريد والتصريح بنتائجها وبعدها المعرفي، فيما لخصه ابن عطاء الله السكندري من كتابه « لطائف المنن ».
وكذلك فعل عبد الوهاب الشعراني، ولكن على شكل قواعد، وخاصة في كتابه « الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية »، يقول في مقدمته :فهذه رسالة عظيمة لم ينسج أحد فيما أظن على منوالها ولا نصح نفسه بمثالها سميتها:رسالة الأنوار القدسية في بيان قواعد الصوفية ورتبتها على مقدمة وثلاث أبواب وخاتمة . فالمقدمة في بيان عقيدة القوم (يعني الصوفية ) وبيان سندهم بتلقي الذكر وإلباس الخرقة وآداب الذكر.
والباب الأول في ذكر نبذة في آداب المريد في نفسه . والباب الثاني في ذكر نبذة من آداب المريد مع شيخه، والباب الثالث في ذكر نبذة من آداب المريد مع إخوانه وأصحاب شيخه . والخاتمة في بيان آداب لا تختص بالشيخ والمريد، بل هي عامة مع جميع الخلق.
وهذه المقدمة قد ترسم المعالم المنهجية الإجمالية لمعرفة النفس عند الصوفية -كما سنرى من خلال هذا الكتاب وغيره – وخاصة على مستوى الممارسة العملية،وإضفاء الصبغة المدرسية على مناهج معرفة النفس.
بالإضافة إلى هذا الكتاب ، فإن للشعراني كتابا له صلة بموضوع معرفة النفس وهو « اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الكبائر » والذي في هدفه لم يكن سوى تحقيق لكتاب « الفتوحات المكية « لابن عربي، وإبراز خصوصياته المعرفية وعرض لفقراته المحددة للمواقف العقدية لديه والتي قد يظن البعض خروجه فيها عن الحكم الشرعي أو العقلي، أي أن الكتاب دفاع عقدي كما تضمنه العنوان . غير أنه ، في نفس الوقت، سيطرح موضوع النفس والروح على مائدة النقاش وسيبدي رأيه فيها كموقف شخصي واستعراضي لبعض الأفكار الصوفية .
Aucun commentaire