التمهيدات لعلم النفس الموضوعي في المؤلفات الصوفية (المحاسبي نموذجا)
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
أولا: التصوف والتخصص النفسي
إن التخصص النفسي وملازمه الأخلاقي ،بمعناه العلمي الوظيفي والتأليفي ومراقبة تفاعلات النفس مع الأثر الداخلي والخارجي وكذا الغيبي والحسي الظاهري، سنجده بكل وضوح يتمثل بالدرجة الأولى عند الصوفية بصفة عامة،وعند المتصدرين للتأليف بصفة خاصة. إذ أن الكتابة لديهم في المجال النفسي لم تكن سوى ترجمة تعبيرية عن الحقائق الوجدانية والشعورية التي عايشوها في تجربتهم الروحية،وفي مراقبتهم الدائمة والمستمرة لأحوال النفس وضبطها بصورة محكمة حتى يتسنى لهم السلوك إلى الله بقلب صاف غير مكدر بتشويش غريزة بهيمية أو سبعية ، أو أهواء شيطانية أو ما إلى ذلك
مما قد يدخل في التركيبة الإنسانية الداخلية.
وهذا المعنى سيؤكده ابن خلدون -كمؤرخ – في « المقدمة »عندما عرف مفهوم التصوف لغة واصطلاحا. إذ سيقول ،مركزا على الجانب النفسي فيه ،بأنهم « اختصوا بمآخذ مدركة لهم ، وذلك أن الإنسان مما هو إنسان ، إنما يتميز عن سائر الحيوانات بالإدراك.وإدراكه نوعان:إدراك للعلوم والمعارف واليقين ، والظن والشك والوهم، وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض ، والبسط والرضا والغضب ، والصبر والشكر وأمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي تميز بها الإنسان . وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة ، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به ، والنشاط عن الجمام ، أو الكسل عن الإعياء.وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لابد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة.وتلك الحال ، إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد، وإما أن تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات . ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة « .
فهذا النص لابن خلدون يوضح لنا المنهج الصوفي في المعرفة باختصار، وأنه نفسي بالدرجة الأولى، وهو المطية الرئيسية للوصول إلى معرفة الله تعالى. فتكون هذه الغاية القصوى من سلوك الصوفي كفيلة بأن تجعله يفرغ جهده ومنته في تقصي العلل والأحوال النفسية تقصي دقيق حتى لا تعيقه أو تغرر به وهو سالك طريقه إلى الله تعالى سلوك وجدان .
من هنا فقد نجد جل تأليفهم ينصب على هذا الجانب ، والذي قد يمتزج بعلم الأخلاق امتزاجا كبيرا على مستوى الظاهر والباطن . حتى كأن علم الأخلاق هو علم النفس نفسه ، لما لخصوصية معرفة النفس عند الصوفية من بعد سلوكي عملي أكثر مما هو نظري محض أو صوري كما هو عند الفلاسفة .
لهذا فلا غرابة أننا نجد مثلا ابن خلدون يؤرخ للعلوم الإنسانية لكنه قد لا يذكر معها علم النفس ولا علم الأخلاق ، باعتبار أن هذين العلمين متلازمين، وأنهما يمثلان صلب علم التصوف وأساسه . ولهذا فلقد أدرجهما في باب علم التصوف إدراجا جمليا كما هو الشأن عند الحديث عن علم الكلام وطرق الاستدلال فيه، إلا أن تميز الصوفي عن المتكلم في هذا المجال هو تميز ذوقي ومراقبة ذاتية بأدوات روحية وعقلية للنفس في آن واحد. لأن المريد قد يحتاج « إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله ، وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري، وقصورها من الخلل فيها كذلك ، والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه ، ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس ، لأن الغفلة عند هذا شاملة « .
ثانيا: الحارث المحاسبي والتأليف النفسي المتميز
ولقد كان موقف أغلب الصوفية هو الإحجام عن التأليف في هذا الميدان ، لأنه تجربة قبل كل شيء، وأن التعبير عن مشاكل النفس وآفاتها، وخاصة في المجال الروحي ، من الصعب أن يكون مناسبا لمعطيات تلك التجربة مناسبة تامة مما سيجعلها تصبح مجالا للتنظير بالنسبة إلى العامة.
في هذا المعنى قد يحكى بأن الجنيد- وهو أحد الأقطاب الصوفية ( 298 هـ) حينما وافته المنية أمر تلامذته بدفن أو إحراق جل ما كتبه في مجال الأذواق والأحوال وما إلى ذلك ،خشية أن تصبح تلك المعلومات الشخصية والمدركات الخاصة بالشخص المجرب صارفة للناس عن التطلع إلى الحقائق الذوقية الكلية والعامة،والتي قد تجد أصولها في الكتاب والسنة بكل وضوح ويسر.
لكن هذا الموقف الاحتياطي لم يكن عاما، خاصة وأن التصوف لم يعد مجرد تجربة ذاتية فردية ، وإنما أصبح مدرسة اجتماعية وسلوكية ومعرفية ، تتأسس على مبدأ الأستاذية والتلقين : الشيخ والمريد، والذكر الفردي والجماعي، والملاحظة الداخلية والخارجية بالفراسة للسلوك وما إلى ذلك .
إذ سنرى تآليف في المجال النفسي مبكرة ودقيقة ، من أشهرها كتب المحاسبي : »آداب النفوس »و « والوصايا » و « الرعاية لحقوق الله « . وعنها يقول عبد القادر أحمد عطا: « وظهر- ابتكار آخر- يمكن أن نسميه :علم النفس وعلاجها، في دقة منقطعة النظير، وكانت موسوعته « الرعاية لحقوق الله » هي الأساس الذي بنى عليه حجة الإسلام الغزالي كتابه « إحياء علوم الدين « .
ورغم هذه التآليف المهمة التي ساهم بها المحاسبي في المجال العلمي والفكري، فإنه كان يحجم عن الخوض في الكتابة لنفس الأسباب التي برر بها الجنيد موقفه منها كما سبق ، ولكن في مجال العرفان بصورة خاصة ، والتي هي ثمرة التجربة الصوفية . إذ يحكى عنه أنه قال : « عملت كتابا في المعرفة فأعجبني. فدخل علي شاب ثيابه رثة وأنا أنظر في الكتاب مستحسنا إياه ،فقال لي: يا أبا عبد الله : المعرفة حق للخلق على الحق ، أو حق للخلق على الحق ؟ قلت : حق للخلق على الحق ، قال : هو أولى أن يبذلها لمستحقها. قلت : بل حق للحق على الخلق . قال : هو أعدل من أن يظلمهم . فأخذت الكتاب وحرقته ، وقلت : لا أعود أتكلم في المعرفة أبدا ».
لكن الجانب النفسي سيكون حاضرا بقوة وكثافة مهمة في كتاباته ، بل إن لقبه قد كان نتيجة كثرة محاسبته لنفسه حتى لقب بالمحاسبي لأجل ذلك.
بجانب كتبه هاته سنجد كتابا مهما جدا، وتفصيليا في مجال معرفة النفس ومناهجها، بحيث سيصبح مرجعا صوفيا في البحث النفسي والسلوكي لما يطبعه من دقة في البحث والعمق المعرفي الاستكشافي. وهو كتاب « قوت القلوب لأبي طالب المكي ».إذ أن عنوانه يدل على بعده النفسي وغايته التكوينية والعملية في المجال الروحي والسلوكي. وقد اشتمل على عدة فصول كلها تصب في البحث النفسي وتعريف النفس ،كالفصل الثالث والعشرين في ذكر محاسبة النفس ومراعاة الوقت، والفصل الخامس والعشرين في تعريف النفس وتصريف مواجيد العارفين والفصل الثلاثين في ذكر خواطر القلب لأهل معاملات القلوب…
ونظرا لأهمية هذا الكتاب العملية، وفي المجال النفسي بصفة خاصة ، فسيصبح مرجعا مهما للدراسات الصوفية ولفهم أحوالهم من الناحية النظرية على الأقل،حتى إننا سنجد أبا حامد الغزالي يعتمد هذا الكتاب كأهم مرجع وموضح له مقاصد ومنهج الصوفية . بل -كما سيؤكد- إن هذه الكتب سواء منها مؤلفات الحارث المحاسبي أو أبي طالب المكي بصفة خاصة هي كتب قد تخص النفس من حيث مقاصدها وتركز على الممارسة الوجدانية لتحصيل معرفتها بالذوق والحال .
يقول عنها: »وكان العلم أيسر علي من العمل ، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله تعالى وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي- قدس الله أرواحهم – وغير ذلك من كلام مشايخهم ، حتى اطلعت بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم ، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان … ».
Aucun commentaire