الحُب زمنَ الميتا
رمضان مصباح
الحلقة:2
أفضت الحلقة الأولى
إلى سامية وهي تغلق شاشة الهاتف ،وبقايا صفرة تعلو محياها.
الحصة الموالية حصةُ التاريخ:
تصوروا حصة التاريخ، كيف انحط مجدها، حتى دخلت فصلا ليس بينه وبين التاريخ أيُّ رابط..يتحدث الأستاذ، لوحده، عن العراق المهاجَم من طرف المغول..يتحدث عن بغداد، وكأنها فتاةٌ جميلة مطاردة من طرف وحوش كاسرة؛ يروي عن مكتبات بغداد حينما دخلتها جيوش المغول، بأقدامهم القذرة ورائحة أجسادهم النتنة، وسيوفُهم تقطُر دما..يصف كتبَ بغداد، وكأنها شعبٌ كامل يبكي؛ ثم يُهدَرُ كل مدادها في دِجلة.
كل الشاشات الذكية، بالقسم، مُشَغلة؛ والتلاميذ منصرفون عن هولاكو خان، إلى الفيسبوكان؛ أليس هذا من هذا؟..ألم يداهم الثاني كل خزاناتنا، ليس مُهدرا دمها، بل عاصِما كتبَها من الناس.
لا أحد يدخل خزانة ليقرأَ، وإن فعل عُد كائنا خرافيا، يعيش خارج العصر.
فيسبوكان على وزن هولاكوخان، وكلاهُما قضى على ما قضى.
تحاول سامية أن تنسى شبح الفيسبوك، لكنها لا تستطيع، فهو هنا؛ حتى في درس الأستاذ.. إنه هنا على وشك مهاجمتها وإهدار صَبْرها..إنه هنا تشعر به في خلاياها، التي حافظت على ألوانها الآدمية.
هي تشعر به، لكنها في الوقت نفسه لا تقوى على الخروج من البحر الأزرق إلى الشاطئ، لتبُثَّ الشمسُ الدفءَ في أوصالها.
ويتشعب الدرس، كما تتفرق ومضاتُ الشاشات وتتقاطع:
دروس أخرى على هامش درس الأستاذ..دروسٌ وقواميس وأحلام وآهات؛ كل هذا وراء وراء، والأستاذ واقف يخطب، وكأنه طارق بن زياد يوم فتح الأندلس:
أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم.
كأن الأستاذ يقولها لهؤلاء التلاميذ الغرقى في بحارهم الزرقاء، ولعله فكر في حرق هذه الهواتف كلها، كما فعل طارق مع السفن التي أقلت جيوشه إلى تراب النصارى.
من أقصى زاوية في القسم يُفسبك مراد لحسناء، في المقعد الأمامي:
إياك أن تفعليها ثانية، لقد ضبطتك معجبة بابتسامة أحدهم؛ هل ترينَني مكشِّرا؟..
تفسبك حسناء مجيبة: وأنت ماذا كنت تقول لإحداهن، وهي في « السيلفي »؛ لقد تحادثتما طويلا، أكيد أن موضوع حديثكما لم يكن الحب القديم المتخلف، وهنا الخطر.
الخطر في الحب الذي يدوم دقائق فقط، ويقع فيه ما يقع.
في ركن قصِي أيضا، يفسبك مصطفى لإحسان في قسم آخر:
نحن في زمن الهجوم على بغداد من طرف المغول؛ وأنتم؟
تفسبك ضاحكة: لا نحن نصيح مع أرخميدس: وجدتها وجدتها.. نحسب الوزن والكثافة في درس الفيزياء..يرد: ومتى تحسبون الخِفة ورقصة الراب؟ ربما، ربما سيحصل.
تومض إحدى الصفحات الفيسبوكية وتقول:
في أي جغرافية توجدون؟ نحن نصعد نحو قواعد الفيزياء الكونية..تتلقى إجابة نحن في العالم الأزرق، وقوانينه؛ لكن على خلفية من هجمات المغول على العراق.
ينهي الأستاذ درسه فتنطفئ كل الشاشات، وينتهي « الشات ».
ماذا استفدتم يا أبنائي؟
لعلكم تألمتم كثيرا لمداد الكتبِ، وهو يسيل عبر دجلة بغداد؛ قصائد ونصوصا أدبية، ومتونا فقهية وسِيرا.
يعم صمتٌ ثقيل القسم.
يرفع أحدهم إصبعه ليجيب.
نعم تفضل يقول الأستاذ:
نعم تألمتُ كثيرا، لكن ليس لكتب لم يسبق لي أن رأيتها، ولا سمعت عنها، ولا تمنيت ذلك؛ ولكن لعطب أصاب هاتفي.
لا عليك يقول الأستاذ، المهم الألم، وها أنت قد تألمت؛ لأن فقدان الألم يعني فقدان الإحساس، وهذا خطير.
وأنتِ يا لمياء، هل تألمت لخزانات بغداد؟
تألمت فعلا، لأنني تصورت لو أن كتبها كانت رقمية، كما اليوم في الانترنيت، لما استطاع المغول إهدار مدادها.
لو كانت مُخزنة في السحاب، وبحراس من غوغل، لما حصل لها ما حصل.
نعم هذا ذكاءٌ منك؛ لكن هل يكتب كتبا من هو غارق في الطوفان الأزرق؟
ألا يكون كل همه النجاة من الغرق؟
هذا إذا أحس بكونه يغرق، يغرق.
المهم أنكِ فكرت جيدا، ومن داخل العالم الأزرق..المهم أن نحافظ على جذوة التفكير؛ فالإنسان، بدون تفكير، لا تصنيف له في خلائق الله، لأن كل الكائنات لها طريقة ما تدبر بها حياتها.
لنواصل النقاش:
ما رأيكم أن يطرح كل واحد منكم سؤالا على غوغل، له علاقة بهولاكو؛ وفي الحصة المقبلة، يُطلعنا على خلاصة ما توصل إليه من إجابات؟..
أيوجد هولاكو حتى في الفيسبوك يا أستاذ؟
نعم نعم « الفيس »، كما يُطبِق على حاضرنا، يطبق حتى على ماضينا.
دق جرس منتصف النهار.
خرج الجميع، وسالت الشوارع بالتلاميذ العائدين إلى منازلهم.
لا، هذا غير صحيح سالت بالفيسبوكيين؛ لأن كل شاشات الهواتف اشتعلت، إلا المعطوبة؛ ألا تمر العودة إلى المنازل عبر الذهاب بعيدا في الفيسبوك؟ ولو لدقائق، ولو أثناء المشي، أو ركوبا في السيارات، بالنسبة للبعض.
عائدٌ إلى الفيسبوك، على وزن عائد إلى حيفا.
في عائد إلى حيفا، محاكمةٌ من غسان كنفاني لمفهوم العودة إلى حيفا؛ حيث ترك الزوجان سعيد وصفية ابنهما، منذ عشرين عاما، لضرورات الحرب.
هو يرى أن مفهوم العودة لا يُحيل على الماضي فقط؛ بل على المستقبل.
العودة إلى حيفا هي قضية الإنسان الفلسطيني، وحتى العربي، حين يكون عليه أن يصنع مستقبله.
ماذا؟ فلسطين، عرب، قضية ومستقبل..ما هذا الهراء في زمن الرؤوس الزرق.
لا عودة من الفيس إلا إلى الفيس.
يدوي منبه السيارة فيقفز سامي هلعا؛ كاد الفيسبوك يقتله.
لم يكن « يقطع » الطريق كما يبدو؛ بل كان يقطع العلاقة مع سامية، في صفحتها.
لماذ؟
لأنها ضحِكت كثيرا حين ضبطه أستاذ الرياضيات متلبسا بعشق فيسبوكي، يدوم وقت الفرض فقط.
ضحكت تشفيا؛ لأنه بدَّل تسريحة شعره إرضاءً لليلى.
عد أنت إلى حيفا يا كنفاني، واحرق رجالك في الشمس مرة أخرى.
فلا عودة إلا إلى الفيس.
حتى العودة إلى المنزل، ما هي إلا حاملٌ للعودة إلى الفيس.
من يتحدث عن فلسطين؟
نحن، لأن الحنين انغرس في قلوبنا انغراس النخل.
سيان الحنين إلى حب زمان، والحنين إلى المفتاح الصدئ، والباب الخشبية في حيفا.
سيان عند عنترة العبسي القتال والسلم؛ لأن عبلة حاضرة فيهما معا.
وما لمعان السيوف إلا بعضٌ من ثغرها الباسم.
أن تحن إلى حب زمان، إلى عروبة الجزيرة، هو نفسه حنينك إلى حيفا ويافا، وكل فلسطين.
إن لم تحب ليلى، كما أحبها المجنون، فلن تحب فلسطين، بعيدا مُهاجرا وعائدا لبناء المستقبل.
هذا من ذاك، وإلا فلماذا يهدم الفيسبوك أركان فكرنا، كما فعل معنا هولاكو في بغداد؟
هل يخوض الفيسبوك حروبا وهمية ضد الحب؟
هل أنشأ لغته وقواميسه فقط لسواد عيوننا؟
هل شغلنا عن الناس، وعن أنفسنا، فقط لنعشق محيطاته الزرقاء، ونغوص فيها إلى القاع؟
يا هذا هل أنت عائد إلى المنزل لتناول وجبة الغذاء، أم تكتب كتابا في الفلسفة؟
انتبه إلى طريقك، حتى لا يضيع منك كلُّ شيء.
وبعد فَسْبكات وفسبكات مضادة، وصل جميع الطلبة إلى منازلهم؛ مُنهَكين عِلمًا؛ أما قسم سامي وسامية فقد أفقدهم هولاكو شهية الأكل؛ تألموا لسقوط بغداد سنة 1258.
وماذا عن سقوطها سنة 2003؟ لا لا هذا سؤال لا يُشجع عليه الفيس.
حتى أستاذ التاريخ طلب مساءلة غوغل عن هولاكو وليس عن بوش.
يتواصل ظهور الشبح العاشق في صفحة سامية،في أوقات تناسب العشق ،حين يفيض بالجسد ،ويتوق إلى جسد آخر يخفف عنه.
انتهت سامية،الجسد الأزرق ،بعد ممانعة أسابيع ،إلى الاستسلام ،والدخول في حميمية مع شبحها اللغز ..لا هي تحدثه عن تسريحته وطلاء شعره ،ولا هو يقبل منها ذلك.
ينهمكان ليلا في الحديث عن التضاريس الشهية ،والذوبان في بعضهما البعض.
ثم قررت أن تخرج من هذا البحر الأزرق الساخن إلى الجسد اللاهث .
هكذا حددا موعدا للقاء في حدائق نهاية الحب الأزرق و استعادة الإنسان،كما هو إنسان.
تجلس منزوية في الظل ،موهمة بتصفح كتاب ،وبجانبها صغرى أخواتها ..
والحال أن النبض تحول إلى طرق مسموع في صدرها.
يأتي أو لا يأتي؟
هل يقرر أخيرا الخروج من قلعة الأشباح إلى نور الشمس؟
هل يمكن أن تتعرف فيه فعلا عن نقيض أنوثتها ؟
وبعد وبعد..هاهو قادم ،خفيفا كثعلب الوديان.
ماذا ؟ ماذا؟
ياللهول..انه مُهند أخوها.
تصرخ الأخت الصغرى ،ولاعلم لها بشيء: مهند،مهند، إننا هنا ؛أنا وسامية.
لم يكن في وسعه أن يتراجع ،فتقدم نحوهما ،متمنيا لو تبتلعه الأرض:
ماذا تفعلان هنا؟
تجيب الصغرى: طلبت مني سامية مرافقتها .
وتجيب سامية،مخففة الحرج:
خرجت من البحر الأزرق إلى الشاطئ ،طلبا للشمس ،فلحق بي قرش بحري.
ضحكت وضحك ،وانصرفا عائدين إلى المنزل.
في الطريق تبادلا القسم على ألا يغادر السر أعماق البحر الأزرق.
انتهى
Aucun commentaire