حديث الجمعة : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ))
حديث الجمعة : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ))
محمد شركي
من المعلوم أن الله عز وجل تعاقد مع بني آدم بعقد توحيده دون جعل الشركاء والأنداد لأنه خالقهم ، وخالق كل شيء ، مع إفراده بالعبادة والطاعة مصداقا لقوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، وقوله أيضا : (( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف دليل على التعاقد بين الخالق سبحانه وتعالى، وبين خلقه من بني آدم ، والتعاقد هو تعاهد بين طرفين يكون موثقا كما تعقد العقد كناية عن قوته ، وصلابته ،وثباته، ودوامه . وهذا التعاقد عبارة عن أمانة ، وهي اسم لما يحفظ ويصان من الضياع ، وهي مشتقة من الأمن، لأنه يُؤمن المستأمن عليها من ضياعها ، وهو ملزم بالوفاء بها .
ومما جاء في الذكر الحكيم بخصوص الأمانة قول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )) ، ففي هذه الآية الكريم تحذير خطير من خيانة الأمانات ، وخيانتها عبارة عن نقص يلحق بها ، وعكسها الوفاء بها، أي أداؤها كاملة وافية غير منقوصة .
وأول الأمانات المحذر من خيانتها، أمانة الله عز وجل، وأمانة رسوله صلى الله عليه وسلم . أما أمانة الله تعالى، فهي ذلك العهد الذي عاهد به الخلق خالقهم يوم خلقهم بتوحيده دون شركاء أو أنداد ، مع عبادته وطاعته فيما أمر ، وفيما نهى . وأما طاعة رسوله، فهي مرتبطة بأمانة الله تعالى ، وهي تلزم بتصديق نبوته ، والتأسي والاقتداء به، لأنه أعبد خلق الله لله تعالى ، وقد أثنى عليه بقوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، ومن كان هذا حاله ووصفه ، وجب أن تصان أمانته ، وذلك بحسن الأقتداء به على أصح وأكمل وجه .
وبعد التحذير من خيانة هاتين الأمانتين ، وهي أعظم خيانة على الإطلاق ، حذر سبحانه وتعالى من خيانة باقي الأمانات التي تكون بين الخلق أفرادا وجماعات ،وأمما وشعوبا .
وأول أمانة يلزم الإنسان المؤمن برعايتها أمانة نفسه التي بين جنبيه ، وقد أوجب الله تعالى عليه أن يقيها من سوء المصير في الآخرة مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا )) ، ففي هذه الآية الكريمة تنصيص على صيانة أمانة النفس ، وهي وقايتها من نار جهنم ، تليها أمانة وقاية الأهل منها ، وهي ثاني أقرب الأمانات من الفرد ، أي أمانة صيانة القرابة ، تليها أمانات أخرى متدرجة من الأقرب إلى الأبعد نسبا وعلاقة ، و حيزا ، منها أمانة الجوار، وأمانة العشرة ، وأمانة المساكنة ، وأمانة الوطنية ، وأمانة الانتماء الإسلامي ، وأمانة الانتماء الإنساني ، وأمانة صيانة الطبيعة بكل ما فيها من مخلوقات وكائنات حية وجامدة .
ولقد جاء التحذير من خيانة هذه الأمانات شديدا ، ذلك أن خيانة الله عز وجل وخيانة رسوله ، وقد قرن الله تعالى بينهما ، لذا لم يكرر ذكر الخيانة إذ قال : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول )) ، هي أقبح خيانة على الإطلاق ، لأن من يتركب هذه الخيانة ، يكون أكثر جرأة على خيانة غيرها من الأمانات . ولقد كرر الله ذكر التحذير من خيانة هذه الأخيرة تشديدا في الأمر، لأن الناس قد لا يجرءون على خيانة أمانة الله تعالى وأمانة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لكنهم يستخفون بأمانات الخلق مع أنها من أمانة الله عز وجل ، وأمانة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو الشأن على سبيل التمثيل بالنسبة لأمانة شكر الخلق التي هي من أمانة شكر الله تعالى ، ومن لم يشكر الخلق يكون كمن لم يشكر الله عز وجل.
ومما يعنيه التحذير من خيانة الأمانات التذكير بالمساءلة والمحاسبة يوم العرض على الله عز وجل في الآخرة حيث يجد كل فرد بيده كتابه المسطور الذي يؤمر بقراءته مصداقا لقوله تعالى : (( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )) ، ومضمون ذلك الكتاب إنما هو أمانات إما يؤديها الإنسان أو يخونها ، وهي في شكل ملفات ، كل ملف خاص بأمانة بعينها ،بدءا بأمانة الله عز وجل ،وأمانة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بآخر أمانة قُلّدها في الحياة الدنيا .
ومعلوم أن الخلق يختلفون في المساءلة والمحاسبة يوم القيامة حسب الأمانات التي قُلّدوها ، فأكثرهم تقلّدا للأمانات هم أشدهم مساءلة ومحاسبة كما حدد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في بيت أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولية عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ، ومسؤول عن رعيته ، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته » . فالمسؤولية في هذا الحديث الشريف هي مسؤولية رعاية وصيانة أمانات . وقد شمل الحديث كل أنواع الأمانات، بدءا بأمانة الإمامة العظمي، وهي أمانة الأمة و التي هي الأسرة الكبرى أو أمانة المجتمع ، ومرورا بأمانة الأسرة الصغرى التي هي نواة المجتمع الصلبة وأساسه ، وانتهاء بأمانة الخدمة أو المهمة ، وتشمل مختلف الأمانات حسب مختلف القطاعات بدءا بمن هم في حاشية الإمام الأعظم من وزراء، وولاة … ومن يلونهم ، وانتهاء بآخر مكلف بأدنى مهمة في المجتمع . وبين أعلى المهام وأدناها مهام مختلفة، وهي متدرجة من أعلى إلى أدنى حسب أهميتها في المجتمع .
وخيانة الأمانات التي حذر منها الله تعالى تأخذ أشكالا وأساليب مختلفة ، ولكنها كلها مستقبحة ، وأشدها قبحا ما كانت عن علم ، وعمد ، وقصد ، وسبق إصرار حيث قال الله تعالى بعد التحذير من الخيانة : (( وأنتم تعلمون )) ، أي تخونونها وأنتم تعلمون ، و مصرون على الخيانة ، وما كان قبيحا دون علم بقبحه أو قصد ، يكون أشد قبحا مع العلم الإصرار .
ومع أن آية التحذير من خيانة الأمانات نزلت في أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كان أرسله للتفاوض مع اليهود ، فأخطأ بنصحهم نصحا ليس في مصلحة المسلمين بمجرد إشارة صدرت عنه أو تلميح ، وقد ندم على ما صدر منه واعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سبب نزولها ، لهذا يسري حكمها على كل من فرط في أمانة من الأمانات مهما كانت إلى قيام الساعة .
حديث هذه الجمعة اقتضاه وضع الأمة الحالي ، وقد سادها الاستخفاف بصيانة وحفظ الأمانات ، لهذا وجب تذكيرها بما حذر منه الله تعالى . وأول ما يجب التذكير به أمانة الله تعالى، وأمانة رسوله ، فحفظهما وصيانتهما هما حفظ وصيانة لباقي الأمانات . ومن لم يصن أمانة ربه ، وأمانة رسوله، وهما متلازمتان ، لا تنفكان عن بعضهما ، هان عليه أن لا يحفظ ويصون باقي الأمانات . وأول من يجب التحذير منه هو النكوب عن صراط الله المستقيم من المحسوبين على الإسلام تركا للأوامر ، وارتكابا للنواهي ، ومن هؤلاء من لا يلتزمون بواجباتهم من عبادات ، ومن معاملات على حد سواء خصوصا منهم المصرون على ذلك عن سبق إصرار . ومنهم من يدعون إلى خيانة أمانة الله ،وأمانة رسوله جهارا نهارا ، ويدعون إلى تعطيل العبادة والطاعة من خلال الدعوة إلى تعطيل شرع الله ، واعتماد شرائع وضعية بديلة عنه تدعو إلى الفجور والفسوق ، وإتيان المحرمات من سكر وزنى وفواحش ، وربى … وكل الموبقات التي نهى عنها الله تعالى في محكم التنزيل ، وفي سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وكل ذلك من خيانة الأمانات .
والتحذير موصول إلى كل من قُلّد أمانة بدءا بأمانة استقامة نفسه على صراط الله المستقيم ، ومرورا بباقي الأمانات المتدرجة إلى آخر أمانة .
ومن الأمانات التي لم تصنها الأمة المسلمة اليوم أمانة نصرة المسلمين المستضعفين في أرض فلسطين ، وهم يتعرضون لأبشع وأفظع جرائم الإبادة الجماعية التي أدانها الرأي العام العالمي . ولقد أدت أمم وشعوب غير مسلمة واجبها الإنساني تأييدا للفلسطينيين، وذلك من خلال تنظيم مظاهرات ، وتسيير مسيرات ، ضغطت من خلالها على حكامها من أجل حملهم على وقف هذه الإبادة ، وفي هذا تنبيه للمسلمين بأداء الأمانة التي استأمنهم الله تعالى ، وهي أمانة نصرة إخوانهم المستضعفين ، الشيء الذي يلزمهم بأكثر من تنظيم المظاهرات ، وتسيير المسيرات مما تفرضه الأخوة في الدين . وإن كل تقصير متعمد بخصوص هذه الأمانة يُخشى أن يكون عند الله عز وجل خيانة له ولرسوله ، وللمؤمنين ، لهذا على كل مسلم أن يستفرغ كل الجهد ، ويبذل كل ما في وسعه من أجل صيانة أمانة نصرة إخوانه في فلسطين ، وفي كل شبر في المعمور إذا ما استضعفوا ، وجار عليهم الجائرون .
ولئن كانت أمانة نصرة الأخوة في الدين هي الأولوية في هذا الظرف بالذات ، فإن ذلك لا يعني إعفاء الأمة من أداء باقي الأمانات التي بسبب تضييعها تعيش أوضاعا في غاية السوء ، ولا داعي لتفصيل القول فيها لأنه سيطول . وما لم تؤد أمانة الله تعالى، وأمانة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاستقامة على الصراط المستقيم ،فلا يرجى أن تؤدى باقي الأمانات على الوجه الأكمل والأتم .
اللهم إنا نعوذ بك من خيانة أمانتك، وأمانة رسولك عليه الصلاة والسلام ، وأمانات المؤمنين ، وأمانات الخلق أجمعين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire