النفس الإنسانية بين انعكاسات ظاهرة الجهل والعلم
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
المغرب
للنفس البشرية عناصر كلية وأخرى جزئية متفرعة عنها بحكم الأحوال والأفعال والانعكاسات ، وهذه الظواهر أو الصور الجزئية قد تكون من حيث اعتبارها ثوابت نفسية إما أنها ذات طابع ظرفي أو عارضي و مؤقت أو دائم وغريزي قد يمس الكينونة الرئيسية للإنسان من جهة افتقارها أو استغنائها، ضعفها أو قوتها، جهلها أو علمها المبدئي بالأشياء والأبعاد …
فمن جملة هذه الصور يمكن طرح جانب الجهل والعلم كوصف رئيسي وشمولي للنفس الإنسانية بحسب وضعها بين هذين المتناقضتين، بحيث نجد الدلالة على هذين العنصرين الراسخين في النفس الإنسانية ، في عدة آيات قرآنية أذكر من بينها قول الله تعالى: »اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم « .
ففي هذه الآيات استحثاث على البحث في أصل المعرفة عند الإنسان وتأسيسها النفسي وما هي الأدوات الضرورية لتحصيلها ومدى حدودها إصابة أو خطأ في التحصيل المعرفي …
وإذا كان هذا الجهل الذي قد يتميز به الإنسان منذ بداية تكوينه يمثل حالة عادية بالنسبة إليه،مع قابلية التعلم والاستعداد له بإرادة التحصيل وتوظيف أدواته،فإننا سنجد القرآن الكريم يطرح صورة أخرى للجهل الإنساني وهو في طور النضج واكتمال أدوات المعرفة والاستبصار لديه،إلا أن هذا الطور من الجهل الإنساني سيكون نتيجة التصرف الذاتي في الصياغة المعرفية رغم الشعور الفطري لديه بالقصور عن الإحاطة العلمية،مما يعني أن هذا الجهل الذي سيقع فيه الإنسان هو جهل سلوكي بسبب عدم وعيه وتقديره للأمانة التي عرضت عليه وتحمله لمسؤولية الحفاظ عليها.
وهذا ما نجد وصفه في قول الله تعالى: »إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا « .
وبما أن الإنسان قد يطبعه الجهل بأبعاد اختياراته الذاتية وبالمسؤولية التي يتحملها،باعتباره كائنا مكرما وراقيا على غيره من الجمادات والحيوانات والرياحين من جن وشياطين، فإنه بسبب جهله هذا سيقع في سلوكيات تخالف مضمون تلك الأمانة المشرفة وغايتها التكليفية،حتى إنه في بعض الأحيان قد يعمل ضد مصلحته كتناقض ذاتي .
وكنموذج على هذا التناقض الذي قد يطبع سلوك الإنسان ضد مصلحته نجد قول الله تعالى: »أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء،فلا تذهب نفسك عليهم حسرات،إن الله عليم بما يصنعون »
هذا التناقض قد يصل إلى مستوى يمكن الاصطلاح عليه ب »الجهل بالجهل »بحيث قد يتوهم الإنسان معه أن علمه ذاتي وأن كل ما لديه من المعارف كسبي،حتى إذا جاء وقت الاختبار وجد أن ما لديه من العلم والمعرفة،بل الكسب بصفته علما ماديا أو معنويا، مجرد عارية وهبة من الله تعالى كما نجد الدلالة عليه في قول الله تعالى: »فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم، بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون،قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ».
وفي هذا المعنى يطرح القرآن الكريم مبدأ الفطرة والمعرفة الضرورية، والتي هي في أصلها هبة من الله تعالى، وتمثل عنصرا رئيسيا في النفس الإنسانية،بل هو أصل تكوينها ورأس علومها ومبدئها.
يقول الله تعالى: »فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ».
وعن جهل الإنسان وعدم التزامه بمبادئ الفطرة المؤصلة للعلم الضروري لديه ستترتب سلوكيات خاصة تطبع نفسه على مستوى التحصيل المعرفي والحكم العلمي، من أهمها الجدل والخصومة « ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل وكان الإنسان أكثر شي، جدلا « ، »خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ».
وكذلك الاستعجال في طلب الدليل أو الاستجابة المباشرة لكل طلباته دون وعي بأبعادها وشروطها، كما نجد نعته في قول الله تعالى « خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون » « ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ».
فهذا الاستعجال حين الإفراط في توظيفه قد يؤدي بالإنسان إلى إصدار أحكام خاطئة ربما يكون فيها هلاكه ،من أخطرها الحكم الخطأ على قضاء الله وقدره ووصفه بالظلم أو عدم الحكمة ،كما يعرض الله سبحانه وتعالى بعض هذه الأحكام الاستعجالية الخاطئة من طرف الإنسان بقوله: »فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن،وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ».
إذ ستصبح نفسه فيما بعد تعرف نزوعا إلى الجحود ونكران النعمة » وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ».
Aucun commentaire