Home»International»إضاءة تقديمة للمجموعة القصصية (حقيقة الأوهام) لسعيد بنعالية

إضاءة تقديمة للمجموعة القصصية (حقيقة الأوهام) لسعيد بنعالية

2
Shares
PinterestGoogle+

بقلم : بلقاسم سيداين


سننفتح في هذه الورقة الإيضائية على عمل سعيد بنعالية من خلال إصداره الأخير الذي أطل علينا في شكل مجموعة قصصية اِنتقى لها عنواناً (حَقيقةُ الأوهام ِ). عن مطبعة قُرطبة بوجدة.
وقد بصم الفنّان عصام عثماني هذا المُنجز الأدبي بإخراج فنّي مُوحي لصورة الغلاف. وقد تحتاج هذه الصّورة لوقفة متأنيّة هي الأخرى للوصول إلى بعض أبعادها، ومراميها.
والكتاب ذو طبعة أنيقة من الحجم المتوسط في 160 صفحة و 15 قصة قصيرة مختلفة في مواضيعها، ومتباينة في شكل بنائها..
وقد جاء هذا المنجز القصصي لسعيد بنعالية يحمل عنواناً مغرياً (حقيقةُ الاوهامِ ).
فتستوقفنا هذه العتبة، وتثير فينا فضول التأويل لهذا النص المكثف، والمضغوط الموازي لعالم نصوص المجموعة. وهو مُركب اِسمي من لفظتين (مُضاف، ومُضاف إليه ). وقد أفادت الإضافة هنا معنى التعريف، والتخصيص.
– حقيقةُ مَنْ؟ حقيقةُ الأوهامِ.
فشكّل هذا المركب دلالةً عنوانية حرونةً ومُشاكسة تمتاز بالإثارة والإيحاء..فتزدحم في العنوان الأضداد. فتتداخل (الحقيقة )، وتتلاحم مع الأوهام لتفجر بداخل هذه التركيبة أبعادا تجمع بين حقلين دلالين متباعدين/متناقضين..
فإذا كانت الحقيقة مُوحية إلى كلّ ما ينتمي إلى عائلة، وأسرة هذه اللفظة وفروعها، وظلالها، وأقربائها:
(اليقين، الحق، الصواب، الصحيح، الصدق، الواقع، الثبات السلامة ). وما تحمله من خصوبة تأويلية في معتقداتنا وموروثنا المعرفي من أن الحقيقة لصيقة بكل ما هو أحسن وأفضل وجميل..واِيجابي..
وعلى طرف نقيض تطالعنا كلمة (الأوهام ). التي تفيض بشحن وتوهجات رامزة إلى ( الإفتراء، التلفيق، الشك، الظن، السراب، الانخداع، التضليل، الهلوسة، التخيلات، الهذيان، الكذب..) وما يحيط بها..وإلى كل ماهو سلبي..
فالعنوان يفيض دلالة رمزية، وتنفجر تجلياته العميقة، وتمتد إلى مساحة الديوان برمته..وتمتد حمولة العنوان الدّلالية، وكثافته الرمزية إلى بنية، ودلالة بقية العناوين الفرعية التي تؤتث مساحة أوراق المجموعة القصصية. ويلقي بظلاله الوارفة على كيان، وبنيات كل النصوص القصصية الأخرى..
ويبقى وميض عنوان المجموعة، يداعبنا، يستفزنا، يشوقنا..!
ونحن نستعد للسفر..إنه السفر الفني الممتع إلى ربوع قصص الكتاب..
وهذا المشروع الإبداعي الذي يطالعنا، والمبدئي، والمتميز مبنى، ومعنى..نظراً لما يخلفه فينا من تأثيرات ستصاحبنا منذ الاِحتكاك الأولي لرؤيته..لأنه مكون مستفز للعقل، ويخلخل المتعارف عليه..ويثير الفضول المعرفي أيضا..!
وهو مركب من لفظتين فقط لكن معانيه تفوق هذه البنية العددية. فتمطرنا الكلمتين بوابل من خصوبة التأويل بعدما عقد الكاتب سعيد بنعالية قران زواج لفظي بين هاتين الكلمتين..
– حقيقة + الأوهام. = فيض من التأويلات.
ومن أولى هذه التأويلات أن العنوان: يستوقفك..ويُوقفك. فتتناسل أسئلة مكثفة لفك أبعاده المترامية جداً..وزواج عناصره الزواج الفني الإبداعي..
وكلما تمت خلخلة العنوان، اِزدادت نسبة الحصول على تأشرة الدخول المساعدةِ إلى عالم المجموعة، وامتلاك بطاقة التجول بداخله، وفي ربوعه. بعد أن يمارس العنوان دوره عليك، ويقوم بعملية اعتقالك اعتقالا فنيا..ونحن نستنجد بالذات الكاتبة حينئذ يمنحنا العنوان نفسه، وبعضاً من دلالته باعتباره عتبة أولى، ومفتاح سحري /فني يمنحك السفر الفني لتجوب شوارع، وأحياء المجموعة من مبتدئها إلى منتهاها..
فهذا الزواج بين « الحقيقة « و »الأوهام » زواج يحيلنا إلى المعنى اللغوي للكلمتين:
ف « الحقيقة « جمعها حقائق. فهي الشيء التابث يقينا. وحقيقة الشيء خالصه، وكنهه، ولبه، وجوهره..
حقيقة الأمر يقين شأنه. حقيقة الرجل ما يلزمه حفظه، والدفاع عنه. ومذكر حقيقة: (حقيق ).
أما الأوهام لغة: جمع وهم، ما يقع في الذهن من الخاطر. والوهم الطريق الواسع.
وفي علم النفس هو: (الشّك الوسواس الاعتقاد الخاطيء الذي يؤمن به المرء بقوة بالرغم من عدم وجود أدلة عليه..ويدل على مرض عقلي..).
فالأوهام إذن هي التخيلات، والتصورات، والاعتقادات الخاطئة غير المبنية على أساس..
نقول يعيش في وهم: ما يقع في الذهن من تصور، وخيال، وخاطر (استحوذت عليه الأوهام، مريض بالوهم، و بالتصورات غير الحقيقية ).
ويقابل الوهم بالفرنسية: ( illusion).
ومن منبع هذه الدلالات، وثقلها الوضعي، والرمزي الاصطلاحي يستقي القاص سعيد بنعالية مواد لبناء مشروعه الأدبي « حقيقة الأوهام « . ويصور باللغة مواضيع متون القصص التي تعكس واقعا ممتلئاً تشويها للحقيقة..
وينتشر فيه الإيمان القوي باليقين الفارغ من محتواه في ظل انتشار الوهم الذي يعطي للإنسان فائضا من القوة التي هي إضافات خيالية لأفكار ممتلئة بالفراغ، وطقوس الوهم..
إنه زمن طواحين الأوهام التي تتوكأ على أبعاد غير انسانية تدهس من يقف في طريقها..وتضرب الرؤوس بجدار الحياة..

كما يتلاعب الوهم بالفكر..ويتسلل إلى فضاء العقل من أبواب خلفية..
ويبقى السرد كخيال حكائي ينتج حياة كاملة يعيش فيها الناس لحظات خيالية بديلاً عن الواقع..فتقوم « الحقيقة » بغربلة المعتقدات داخل مساحة الوهم الشاسع، والانخداع الذاتي..والاِمتلاء النفسي الداخلي..فجاءت كلمة:
« حقيقة « مفردة مقابل لفظة « الأوهام  » التي جاءت جمعاً. فالحقيقة واحدة والاوهام عديدة…

– بنية الفضاء القصصي في مجموعة »حقيقة الاوهام  »
نجد خلال مسار السرد عند الكاتب سعيد بنعالية تعدداً لمظاهر حضور المكان، وقد تتسع، أوقد تضيق هذه الأمكنة حسب موضوع كل قصة، مما يعني أن ليس هناك مكان واحد وإن وجد فإن رؤية الراوي له قد تتعدد من عدة زوايا..
ويبقى المكان عنصر أساسي في القصة وفي بناء معماريتها الفنية. ويندرج عنصر المكان في ما يطلق عليه « الفضاء القصصي » الذي يشمل المكان والزمن أيصاً..
« فالزمن لا يجري إلا في مكان، والمكان لا يُدرك إلا في سياق الزمن « . ولا يمكن تصور وقوع حدث إلا في إطار مكان معين، وزمن معين كذلك.
وكل من الزمن، والمكان نجدهما في المنجز القصصي عند الكاتب سعيد بنعالية لا كما هما في الواقع، بل يخضعان لأداء فني أدبي إبداعي. فينسجان مع بقية عناصر البنية القصصية – وهي كثيرة – واقع النص الأدبي إلى جانب الشخصيات اللغة/ السرد / الاحداث/ الحوار/….الخ
وترتبط هذه العناصر في ما بينها اِرتباطا وثيقاً..فداخل الفضاء القصصي تتحرك الشخصيات، وتتفاعل لأن لكل فعل فاعل، ويجري في زمن يقع في مكان..مما يشكل بنية سردية متماسكة، ومتكاملة، ومتلاحمة الأجزاء، والعناصر..
والحديث عن جميع هذه المكونات القصصية يستدعي منا الوقت الطويل، والوقوف المتأني عند هذه المجموعة القصصية « حقيقة الأوهام « . لذا اِكتفينا بالفضاء القصصي فقط. وسنركز فيه على بعدين أساسيين اِثنين هما: البعد المكاني، والبعد الزمني. وهذا لا يعني انفصالهما عن بقية العناصر الأخرى المشكلة لبنية السرد في هذا العمل القصصي ..
ويرتبط عنصر المكان دائما بحياة الإنسان أكثر من الزمن. وهو أيضا أكثر اِلتصاقا بحياة الإنسان من الزمن. لأن إدراكنا للمكان حسي ومباشر في حين أن هذا الإدراك للزمن فهو غير مباشر..
فحاول الكاتب تأطير أمكنة قصصه بمجموعة من التقنيات الفنية ليقدم لنا بناء المكان..ويجعل الشخصيات تتحرك في هذا المكان وتقوم برسم جماليات هذا المكان أو ذاك..
لأن المكان في غياب الشخصية هو قطعة من الجماد لا حياة، ولا روح فيها..
ومن التقنيات الفنية المعتمدة في تقديم بناء المكان في قصص المجموعة « حقيقة الأوهام « . منها :

– تقنية الوصف المكاني
يرسم لنا القاص سعيد بنعالية المكان بواسطة اللغة و يبدع في رسم صورة المكان، ويحوله إلى لوحة عبر الكلمات، ويضع في إطاره الشخصيات ليصنع لنا من الكلمات التصويرية عالما فنيا..فنجده يرسم المكان في الصفحة 101
« وصل العمال بعد ثلاثة أيام، ونصف اليوم إلى امستردام، بنايات فاخرة، وأزقة نظيفة، ومدخنات المعامل تلوث الجو النقي بدخانها الذي يخترق الفضاء..وأناس في منتهى الأناقة، والجمال، وعجائز يمشين الهوينا..والشباب قليلون جداً.. »
وقد يقدم الكاتب المكان بشكل غير مباشر انطلاقا من تقنية الحكي، والسرد. فمن خلال الأحداث التي تجري داخل إطاره يتبين لنا المكان الذي تشير إليه مجموعة من الإشارات نقرأ في الصفحة 117:
« الأسرة تقطن بحي شعبي، وكل الجيران من الفقراء، ومن الطبقة المتوسطة، أب يعمل في بلدية المدينة، والأم ربة بيت تتقن تهيىء الطعام، وتعمل خادمة في البيوت في بعض الأحيان عندما تنقص ميزانية البيت .. »
وقد نعرف المكان أحيانا، وندركه من خلال الأشخاص المتحركين فيه (تجريد الصفة من عناصر الموصوف ). فنجد هذا النوع من المكان في الصفحة 117 عندما نقرأ:
 » المعلمة أخذت مني في فترة الاستراحة، بعض الخبز المبلول ببعض الأدام، والمحشو بالبطاطس، اخبرتني بأن أمي طاهية ممتازة، وأخذت من زميلتي بعض الحلوى، ومن أخرى بعض الفواكه. »
فالمكان هنا هو المدرسة، لم يحدده أو يصفه الكاتب، لأن ملامح، وسلوك الشخصية(المعلمة) و (التلاميذ) حددت المكان. فالمعلمة تشتغل بفضاء المدرسة. و التلاميذ يخرجون من أقسامهم لفضاء ساحة الاستراحة..ونقرأ أيضا في الصفحة 22:
« الصلاة خير من النوم ..!
طرقت هذه الجملة سمع مريم وهي في فراشها متعبة من ليلة مضت تنتظر زوجها الذي خرج منذ الصباح الباكر، ولم يعد حتى الآن.. »
إنها تقنيات مختلفة في تقديم سعيد بنعالية لأمكنة قصصه. فتارة يقدمها عن طريق الوصف، أو القص والسرد، وتارة أخرى نتعرف عليها من خلال ملامح، وسلوكات الشخصيات، أو عن طريق المجاز…
وقد تكون هذه الأمكنة إما واقعية أو خيالية فنقرأ المكان المتخيل الصفحة 9
« رأيتني في تلك الليلة، وأنا نائم، أسمع صوتاً هامسا، ولست أدري، أهو آت من فوقي أو من تحتي، أو من ورائي أو بين يدي. صوت يملأ الكون بكلام مبهم في البداية، ثم ما لبث أن استقر على نبرة واحدة وبحروف واضحة..
عماد..! عماد ..! هذا هو اسمك..؟
أما المكان الواقعي، فهو مكان متعين، وله وجود في الواقع، أي ليس خياليا ويمكن رؤيته، والتعامل معه:
البيت / المقهى / المشفى/ الشركة/ المدرسة / الحمام / الحي/ ..
وقد تحمل بعض الأمكنة دلالات رمزية. مقابل أماكن لها دلالات واقعية..
وقد يعمد الكاتب أحيانا إلى إشارات خاطفة للمكان دون تفصيل. وهي إشارات مقتضبة مرتبطة بتقنية السرد والحكي (تأتي في سياق القصة ). ويتجلى ذلك عندما يبدأ الراوي في سرد أحداث دون تقديم مقاطع وصفية للمكان .
فكان الاهتمام، والاعتناء في هذه المجموعة القصصية بالأمكنة العامة، غير المحددة بملامح مميزة، وهي الأغلب حيث تجري أحداثها في مكان مطلق..يبتعد فيه الكاتب عن التحديد، ويرجع سبب ذلك ربما في رأي الكاتب في أن تكون دالة على كل مكان مشابه (مدرسة شركة بيت حي متجر مدينة )
أما القسم المعين من الأمكنة يتم تحديدها ووصفها ( أمستردام، تركيا، أكادير )
قدم الكاتب إذن عدة عدة أمكنة تخص عدة بيئات مثل الذي يتم التعرف عليه من خلال الطبقات الاجتماعية التي تسكنه (…)ومستواها الاجتماعي (…) ومزاجها (…)وطبيعتها (…)..

– بنية الزمن في « حقيقة الأوهام »

يعد الزمن أبرز عناصر البنية القصصية، في مجموعة:
« حقيقة الأوهام » وغير مستقل عن باقي العناصر الأخرى، وهو شرط لازم في بناء فن القص..
والقصة أكثر الأنواع الأدبية التصاقا بالزمن، فهي فن زماني مقابل بعض الفنون المكانية (النحت/ الرسم /الفن التشكيلي )..
والقصة تركز على سيرورة الأحداث المتتابعة، والمتعاقبة مُعَبِّرٌ عنها بتقنيات لغوية معينة لتصوير الواقع الحياتي الذي يخضع لزمن واقعي أو سيكولوجي..
وعنصر الزمن قد يتخلل جميع القصص، و لا يمكن استخراجه من النص ودراسته، دراسة تجزيئية مثل الشخصيات، أو الأشياء الأخرى ..
وتحديد الزمن والمكان واضح في قصص هذه المجموعة، وهي تقنية ضرورية، لأن عدم تحديد الزمن ينتج عنه الغموض، والتشتت…
وفي هذا المنجز القصصي تتداخل العديد من الأنواع الزمنية. فهناك إلى جانب الزمن العام، هناك الزمن الاستباقي، والزمن الاسترجاعي..
مما جعل الكاتب يكسر الترتيب الزمني التصاعدي الذي يسير في خط متسلسل تسلسلا زمنيا مطردا..فيقطع الراوي التسلسل الزمني إما بتقنية الاستباق، أو الاسترجاع .
فتسترجع الشخصية في مخيلتها أحداثا ما، مثل ما ورد في الصفحة 16:
 » والرسالة التي توصلت بها فاطمة الزهراء، لم تكن الأولى، بل هي نتاج لثلاث سنوات من الدردشة، بدأت بشكل عادي، وانتهت بشكل غير عادي  »
رجعت فاطمة الزهراء هنا إلى إلى الوراء، وهي مرحلة زمنية تقف عند المراحلة الأولى لعلاقتها ب( الفتى الطاهر ) الذي طلب يدها للزواج. فاحتارت في اختيار قرار الزواج به..
ونجد هذا الزمن الاسترجاعي في الصفحة 84 حيث جاء على لسان الراوي قوله :

« تزوجت البتول من العربي منذ خمسة عشر عاما، وقبلت به زوجا خشية أن يمر عليها قطار الزواج، فتصبح عانسا كأختها الكبرى التي كانت ترفض كل الخطاب، وتشترط عليهم الشروط التعجيزية. فأرادت أن لا تعيد تجربتها فقبلت به لهذا السبب فقط. وإلا فإن العربي فيه من العيوب ما إذا أردت أن تحصيها ما استطعت .. »
رجعت البتول في هذه الفقرة على لسان الراوي إلى الوراء 15 سنة
أما الزمن الاستباقي فهو زمن مستقبلي قادم، ونجد توظيفه في الصفحة 103:
« استلقى المختار بعد خروجه من العمل متعبا على سريره، اِنتابه خوف شديد من أشياء كثيرة، خوف من المستقبل المبهم، الخوف من البقاء في بلاد المهجر..خوف من الزواج..خوف من الدنيا وزخرفها..خوف من هذا العالم الجديد..بكل متغيراته، فكر في حينها في الزواج بالمرأة التي يحبها ووعدها بالزواج، ولكن..هل من الممكن أن اصطحب معي خديجة من المغرب إلى هولندا .. »
فالرجوع إلى الوراء هدفه توضيح بعض الأمور المهمة، أو ظهور شخصيات جديدة في القصة يستدعي هذه العودة إلى الوراء أو تتطلبها (سيرة حياتية /سيرة ذاتية ) .
أما الزمن الاستباقي هدفه تحقيق الأحلام، وتحقيق الاماني، أو الخوف من الزمن القادم ..
ونجد في هذه المجموعة القصصية اختلافا بين القصص في المدة الزمنية التي تستغرقها الأحداث، فبعضها يجري في سنوات، وبعضها في أشهر وأيام ، أو جزء من اليوم ..
– طبيعة الزمن القصصي..
يوظف سعيد بنعالية الزمن النفسي الداخلي في قصصه وهو زمن مرتبط بالشخصية لا بالزمن الحقيقي، فيفقد الزمن معناه الحقيقي ويتداخل مع الحياة النفسية للشخصية داخل المتن القصصي (المونولوج الداخلي ). وهذا الزمن غير خاضع لمعايير خارجية أو ضوابط موضوعية، فيتقلص
الزمن الخارجي الطبيعي كلما ركز الراوي على الشخصية وذاتها فيتسع الزمن النفسي الداخلي. (يعني التركيز على الزمن المتعلق بالشخصية من خلال المونولوج الداخلي / الحوار الداخلي ). ونجد هذا التوظيف في الصفحة 120:
 » خرج الأب مهموم الحال، منكسر الخاطر، منتقع اللون. يسأل نفسه بين أزقة الحي الضيقة..كبر الأولاد..وزادت معهم متطلباتهم..وأمهم المسكينة زوجتي الصابرة، لم تطلب مني منذ مدة – ليست بالقصيرة – أن أشتري لها لباسا أو حُليا، ولم أفكر في نفسي، بذلتان أتناوب على لبسهما طوال السنة  » .
وقد تم توظيف ما يسمى :
– « سرعة القص » وهي حركة سردية تقوم على الحذف الزمني، والتي يلجأ إليها القاص لتجاوز فترات زمنية من القصة لعدم أهميتها، وضرورتها..فيُسرّع من ايقاع السرد، والحكي لصعوبة سرد الأيام، والشهور والسنين، وجميع الحوادث بشكل متسلسل دقيق .وهي تقنية فنية يوظفها القاص سعيد بنعالية ليقفز، ويختار ما يستحق أن يُروى..وتساعد تقنية الحذف الزمني على فهم التحولات، و الفقرات الزمنبة التي تطرأ على سير الأحداث القصصية.. وقد لجأ الراوي للحذف الكثير في قصصه. فنقرأ في الصفحة 21:
« بعد مرور ثلاث سنوات طلب نوفل الزواج من فاطمة الزهراء » وفي الصفحة 32 نقرأ « بلغ ماهر سن المدرسة  » و الصفحة 33:  » سقط الجنين بعد مرور ساعتين فقط، والأم في غيبوبة، لا تدري ما يقع .. » والصفحة 38:  » بعد سنوات تخرج الاِبن الماهر في الرياضيات مهندسا  » أما الصفحة 44  » وبعد مدة ليست بالطويلة « .
ونجد في الصفحة 76 » وبعد أسبوع ذهبت مع أمي لخطبة اِبنة جارنا السيد إبراهيم « .
وهي مهارة لجأ إليها الكاتب لحذف الأحداث غير الضرورية ليصل بسرعة إلى ما هو أهم..وأفيد.. والعبارات السابقة تدل على أن هناك حذف لأحداث كثيرة يرى الكاتب أنها غير ضرورية لسير قصصه، وهو حذف يقوم على تطوير الأحداث، وتسريعها ليصل للأهم، وللمفيد..فيكسب القارئ/ المتلقي كثافة تخييلية..
وقد تنوعت تقنيات الحذف في قصص المجموعة، وهو حذف جاء إما صريحا..أو ضمنيا ..أو افتراضيا..
-فالحذف الصريح قد يشير إليه الكاتب، ويذكر مدة الزمن المحذوف (بعد ساعتين ، بعد اسبوع ، بعد سنوات… بعد مدة ليست بالطويلة..)
-أما الحذف الضمني لا يصرح به الكاتب في النص، ويمكن أن يعرفه القارئ اِنطلاقا من فراغ في التسلسل الزمني، أو تفكك في الاستمرارية السردية..
-أما الحذف الافتراضي فهو أكثر ضمنية، وغموضاً، يستحيل ملاحظته أثناء القراءة، وقد يظهر من خلال الاسترجاعات التي توضح حادثة آنية في سياق القصة..
إلى جانب هذه الأنواع من الأزمنة نجد الزمن: « المجمل  » في هذه المجموعة القصصية أيضا.
– والزمن « المجمل  » هي حركة سردية تقوم على سرد وحكي، وقص، ورواية مقاطع، أو أحداث في فقرات أو صفحات: ( عدة أيام ، أو شهور، أو سنوات من الوجود ). يتم المرور عليها مروراً سريعاً دون تفصيل. وهذه الفترات غير مرتبطة بأحداث القصة، وفيها يلجأ القاص إلى مهارتي الإيجاز، والاختصار الشديدين جدّاً..
ويُطلق على زمن »المجمل » مصطلح (الخلاصة) أو (العصارة ).
والخلاصة << سرد موجز يكون فيه زمن الخطاب، أصغر بكثير من زمن القصة >>.
وقصص المجموعة مليئة بتقنية السرد الذي يركز على التلخيص (عدة ايام، كل يوم، مضى عام بأكمله ).
أحداث قد تقع زمنياً في سنة أو في عدة سنوات لكن الكاتب يقصها في فقرات، ومقاطع قصيرة..
ويلجأ سعيد بنعالية إلى استخدام تقنية « المجمل » كثيراً للتعبير عن مجموعة من الأفكار..وأحداث كثيرة بكلمات موجزة مبتعدا عن سرد تفاصيل الأعمال، والأقوال، مستعينا بمهارة التركيز على التكثيف التعبيري، وشحنه تخييليا بانفعالات الشخصية ( الدهشة، المفاجأة، الانصعاق، الخوف..) ليخلق في القائ أثرا نفسيا قويا. وتجعله يبحث عن أسباب تطور الحكاية نحو ذلك المصير. ومن ثمة نجد المتلقي، أو القارئ مشاركا في المنجز القصصي، فيقدم تأويلا كليا لكامل العمل القصصي..
وفي إطار بنية الزمن نجد تقنية أخرى تهيمن على نصوص المجموعة وهي تقنية « المشهد »
– والمشهد حركة سردية كذلك يتساوى فيها زمن الخطاب وزمن القصة ( التساوي بين السرد، والمسرود الذي يمثله).
ونجد هذه التقنية التي نطلق عليها « المشهد » في » الحوارات  » التي تركز على مشاهد مهمة. فيلجأ الراوي لهذه التقنية ليقدم للقارئ الشخصيات في حال حوار مباشر..وفي المشهد يغيب الراوي، ويفسح المجال للشخصيات أن تتكلم بلسانها..و لهجتها..ومستوى فهمها..ومن مميزات المشهد أيضا أن فيه يقل الوصف، ويزداد الميل إلى التفاصيل..
والأمثلة على ذلك كثيرة في الحوارات الموجودة في المجموعة القصصية، وهي حوارات خارجية، تدور بين الشخصيات منها ما نجده في الصفحة 158:
( فإذا بأنطوان يوقظها من حلمها
– منى…منى اِمض هنا ..
(وهو يشير إلى موضع التوقيع )
– أمضِ على ماذا..؟
– على نجوميتك..على مستقبلك..وإذا لم تريدي هذا شأنك..! (وطوى الملف الأحمر..)
– لا..لا..السيد انطوان..سأمضي..!
أخذت القلم بين أناملها، وأمضت دون أن تتصفح بنوده، و موادَّه..أمضت دون أدنى تفكير ..
قال انطوان لحارسه الشخصي هامساً:
– أحضر الضحية الأخرى من مصر ..!
نلاحظ في هذا المشهد الحواري، التساوي بين سرعة القصة..وسرعة القراءة..لأن السرد نقل إلينا كل ما دار في هذا الحوار بلا زيادة، ولا نقصان..
وكلمة المساواة هنا إصطلاحية فقط..لا حقيقية..لأن السرد لو نقل إلينا كل ما قيل في الحوار فلن يستطيع نقله بدقة سرعة الشخصيات في النطق ..ولا أن يستعيد تماما فترات الصمت التي تتخلل الحوار ..
ونصل إلى حركة سردية أخرى مرتبطة بعنصر الزمن وهي :
– « الوقفة  » وهي الأخرى حركة سردية مرتبطة بزمن القصة، وهي وقفة وصفية، يتوقف فيها سير الزمن ليفسح المجال لوصف منظر، او مظهر، او مكان. ويعد الوقف أبطأ سرعات السرد..
والوقف لا يصور حدثا، لأن الحدث مرتبط دائما بالزمن، وينطبق الوقف على المقاطع عندما تتناول منظرا لا يلفت أحدا من شخصيات الحكاية. وهو وصف للأماكن، والمناظر غير المرتبطة بشخصيات القصة..
نقرأ في الصفحة 122و 123 ما يلي:
 » جاء الليل، وقد أرخى سدوله، ورجع كل واحد من أفراد الأسرة إلى البيت يحمل معه متاعب النهار، ومشاكله، إلا أحمد الذي كان يتابع كعادته مساء كل أربعاء ناديه المفضل..ممزوجا في كثير من الأحيان بدخان المخدرات الذي يلوث الفضاء، زيادة على الكلام الفاحش الذي يملأ الأذن تلويثا.. ».
ومن المميزات التي تميز هذا العمل الابداعي فإن الكاتب لم يغلق بعض نصوصه فجعل أبوابها مفتوحة، ولم يضع نقط النهاية ليعلن اِكتمالها وإنهاءها وجاهزيتها. بل هي نصوص محبوكة وبعيدة عن التصنع تنتظر من المتلقي أن يبذل فيها جهده ليكمل بناءها..ويساهم في تشييد معماريتها. فالكاتب بهذه التقنية يختار القارئ الذي له دور بنائي لا اِستهلاكي..فهو يريد من القارئ وهو يقرأ نصوصه كأنه يتناص معه، ويواكبه لإكمال بناء النص المقروء، وإتمامه، مادام أن الكاتب اِعتمد في بناء وإنتاج نصوصه على الإنصات لنبض المجتمع. وتناولت نصوصه جزئيات الهامش لتسدل الستار على منغلقات تَقدّمِ المجتمع ونموه..فاستعان الكاتب بلغة سردية صب فيها قلقه..وشيّد معمارية هذا المنجز الأدبي على أسس ملكة السّرد. فتطاوعه اللغة، وتحضر الفكرة فيلبسها، ويلفها بأسلوب التشويق الماتع، والممتع لإدخال المتلقي في أجواء القصة، ودائرتها فتنساب القصة فاضحة لسلوكات قائمة، ومرفوضة..إنها سيولة تفاصيل السرد المعبر..
كما أن لتقنية الاستهلال السردي الذي يفتتح به الكاتب سرده وبصيغ تناسب حضرة المقال/والمقام يُنتج منه أحلاماً، وآمالا ً تنفتح على مُبتغى سعيد بنعالية الإنسان المبدع/ المصلح..
وتبقى المجموعة القصصية (حقيقة الأوهام ) تشعّ بمستويات سردية وفنية. سنترك للقارئ فرص التقرب منها بقرائته لهذه المجموعة..

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *