أحاديث رمضان ( الحلقة الأولى ) : القرآن الكريم مأدبة الله عز وجل الشهية أطباقها
أحاديث رمضان ( الحلقة الأولى ) : القرآن الكريم مأدبة الله عز وجل الشهية أطباقها
محمد شركي
قد يعتبر البعض تشبيه القرآن الكريم بالمأدبة مما لا يناسب قدره العظيم ،ويعتبرون الحديث الذي ورد فيه هذا التشبيه وهو : » إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم » ضعيفا في حال رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحيحا في حال وقفه على الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه.
وباعتبار تعريف التشبيه في البلاغة العربية إلحاق أمر المشبه بأمر المشبه به لوجه شبه بينهما أو بعبارة أخرى تقريب تعريف ما لا يعرف بما يعرف ، فلا بأس من تقريب ما في كتاب الله عز وجل من أفهام الناس بتشبيهه بالمأدبة التي ليس فيها ما تنقر منه النفوس ، ومن ثم ليس في تشبيه القرآن الكريم بها ما ينال من قدره العظيم ،وهو الذي وردت فيه سورة المائدة التي أنزلها الله تعالى من السماء معجزة مؤيدة لرسوله الكريم المسيح عليه السلام بعدما طلبها منه حواريوه ليأكلوا منها وتطمئن قلوبهم ، ويعلموا أن قد صدقهم فيما جاءهم به من عند ربه سبحانه وتعالى ، وكانت مأدبتهم .
ولمّا كانت المأدبة تقتضي تقديم الطعام ، وهذا الأخير يوضع في أطباق على موائد ، فإن تشبيه القرآن الكريم بالمأدبة هو تقريب ما هو معنوي مما يدرك بالعقل من الأفهام بواسطة المحسوس الذي يدرك بالذوق ، والمقصود بهذا التشبيه هو التعبير عن غنى كتاب الله عز وجل من حيث مضامينه، علما بأن الإنسان يدرك المعقول الذي لا يألفه من خلال إدراك المحسوس الذي يعرفه ويألفه .
والإنسان قد يدرك كون القرآن مأدبة أو مائدة الله عز وجل انطلاقا مما يعرفه من مآدب يقيمها هو أو يدعى إليها ، ويفهم من ذلك أن الله تعالى يقدم له في القرآن الكريم من الخيرات ما تشتهيه النفس تماما كما تشتهي ما يقدم في موائد المآدب .
وإذا كان الصائمون يعدّون موائد إفطارهم بما تشتهيه أنفسهم من أكل وشرب ، فإن الله تعالى قد أعد لهم في القرآن الكريم ما تشتهيه أرواحهم ، وعليه ليس في تشبيه كتاب الله عز وجل بالمأدبة ما يعد غير لائق بعظمة شأنه كما يعتقد البعض.
ولما كان شهر رمضان هو شهر استعراض كتاب الله عز وجل خلال صلاة التراويح ، فإن الصائمين نهاره والقائمين ليله، يصيبون من فضله وهم يستعرضون مضامينه ، وهي متنوعة تنوع أطباق المآدب ،ذلك أن فيه أخبارا ،وقصصا، وأمثالا ،أوامر، ونواه، ومواعظ ، ووعدا ،ووعيدا ،وأوصاف النعيم ،وأوصاف الجحيم ، والمغيب من الأحداث ، والمشهود منها ، ومع كل ذلك فيه ما يشتهى من معرفة الذات الإلهية المقدسة أسماء، وصفات ، وأفعال ، وما يشتهى من معرفة أوصاف أنبيائه ورسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وما يشتهى من معرفة أكرم خلقه من ملائكته الكرام … وكل ما تصبو النفوس إلى معرفته مشتاقة .
والمسلم وهو بين يدي ربه سبحانه وتعالى يستعرض كتابه الكريم في صلاة القيام يكون بمثابة مدعو إلى مأدبته الروحية التي تتغذى روحه من أطايبها ، فإذا ما استوقفته على سبيل المثال لا الحصر أوصاف نعيم الجنة، تاقت روحه إليها واشتاقتها ، وفكر فيما تدرك به ،وما به يوصل إليها من قول وعمل ، فإنه سيبذل كل ما في وسعه من أجل الظفر بما شوقته إليه أوصاف القرآن الكريم التي تفوق كل ما قد يطير به خياله المجنح ، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
إن المستعرض أوصاف نعيم الجنة في كتاب الله عز وجل، يحس وكأنه في مأدبة دعاه إليها خالقه ، وهو يقدم له فيها ما لذ وطاب مما يشتهى من لذيذ المأكل والمشرب ،ومن فسيح المقام ورفيهه ، ووارف ظله ، وعذوبة وجريان سلسبيله ، ومن جميل الملبس و ثمين الحلي ، ومن شيق الرفقة والصحبة ، ولذيذ العشرة … إلى غير ذلك من باهر الأوصاف ،وهكذا يكون كتاب الله عز وجل بالنسبة له مأدبة يعده بها ويعدّها له حقيقة وليس خيالا.
وعلينا أن نستحضر هذه المأدبة الربانية في ليالي هذا الشهر الفضيل ، ونحن نستعرض الآي الواصفة لنعيم الجنة عسى أن يكون تشويق الله تعالى الوارد فيها حافزا لنا على المسارعة والمسابقة إليها كما حفزنا إلى ذلك سبحانه وتعالى بقوله جل في علاه : (( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )) .
Aucun commentaire