تدريس التاريخ كما هو لتحصين الشباب من آفة التطرف
المصطفى حميمو
وأنا أقرأ كتاب « المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إنولتان 1850-1912) » لمؤلفه الأستاذ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف حتى يومنا هذا من سنة 2023، تذكرت حقيقة وطبيعة المقررات المدرسية في مادة التاريخ التي جاء في حقها بكتاب « البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم » عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ما يلي : « إن القوى السياسية، سواء كانت في الحكم أو خارجه، حرصت أشد الحرص على ترسيخ الهوية الوطنية بُعيد الاستقلال، فاستعملت التاريخ لإذكاء الحس الوطني وتوحيد أمة حاول الاستعمار أن يشتتها بكل الوسائل، وطبيعي أن يكون ذلك التاريخ موجها نحو تخليد الأمجاد والتركيز على كل المظاهر التي تدعم وحدة الأمة وتقوي الدولة الوطنية. وهذا التاريخ لم يكن بالضرورة هو التاريخ الذي تتوق إليه همم المؤرخين الشباب والذين كان اهتمامهم يتعدى الوجه الزاهي والمشرق من الماضي ».
فتأكد لي أن مضمون مادة التاريخ المدرّسة ظل ولا يزال مقتصرا عمدا على ذكر ما جاء في أحداث الماضي من أمجاد وعلى إظهار وجهها الزاهي والمشرق من دون غيره. واكتشفت من خلال نفس النص مبررات تلك السياسة وتفهّمتها.
لكنها في نظري سياسة صارت لا تخلو من مخاطر منذ الثورة الإيرانية سنة 1979. سياسة جعلت منذ ذلك الحين ولا تزال تجعل المتلقي يقارن أحواله اليوم بأحوال أسلافه المقتصرة في تدريس مادة التاريخ على حُلوها من دون مُرّها. فيتوهّم أنهم عاشوا في بحبحة دائمة من الأمن والاستقرار والرخاء. ولما يستغني بما تلقاه في المدرسة عن قراءة تاريخ أمته بكتب المؤرخين المسلمين الوافرة، بحُلوها ومُرّها، ولا يقرأ عوض ذلك من تراث المسلمين سوى كتب التفسير والحديث والفقه، يتوهّم أن ذلك الماضي الزاهي والمشرق قد ساد بفضل اتباع تعاليم الإسلام النبيلة، فيسخط على حاضره ويعزو ما فيه من فساد، متوهما دائما، للابتعاد عن تعاليم الدين الحنيف في هذا العصر من دون غيره. ومن ذلك الوهم المركب يـــــتــــغـــــذى، في نظري، التطرف المطالب بالعودة إلى ماضي يُــــــتـــــوّهـــــــم أنه كان كله مجيدا.
فلا بد، في نظري مرة أخرى، للأجيال الصاعدة من أن تعرف حقيقة تاريخ عيش أسلافها، حُكاما ومحكومين، كما وردت، بحُلوها ومُرها، في كتب المؤرخين المسلمين الوافرة. وعلى ضوئها فقط تتمكن من تقييم أحوالها في حاضرها التقييم الصحيح، فتنظر بالمقارنة، وبمعيار مقاصد الشريعة، من حفظ النفس والدين والعرض والمال، هل تـــــــقــــــدم بلدها في ظل الدولة الحديثة أم تـــــقــــهـــقـــــــر. وكان ذلك مطلب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، لكن من حيث البحث العلمي الصرف في التعليم العالي، وليس من أجل توعية الأجيال الصاعدة منذ الصغر.
سياسة جامعية تمخضت عن البحث في التاريخ الاجتماعي وعن وضع الأسس لتاريخ علمي شمولي، وذلك منذ سنة 1976. ومن نتائجها في نفس الكتاب « البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم » الصادر عن نفس الكلية، أن البحث الجامعي خلال هذه المرحلة قد ركز على التاريخ الاجتماعي بدل التاريخ السياسي كما كان الشأن عند المؤرخين التقليديين، وترسخ الاعتقاد لدى المؤرخين الجدد بأن التاريخ الحقيقي يوجد على مستوى القاعدة وأن دراسة تاريخ المجتمعات من خلال مشاغلها اليومية أخصب وأفيد من دراسة التاريخ السياسي وحده.
فكان من ثمرات تلك البحوث على يد باحثين مغاربة كتاب « المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إنولتان 1850-1912) » للأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف حاليا. من بعد المقدمة وبعض الفصول التمهيدية يأتي المؤلف انطلاقا من الصفحة 141 بنموذج من نماذج واقع المجتمع بالبلاد، حُكاما ومحكومين، في القرن التاسع عشر. نموذج من قرية إنولتان بمنطقة دمنات. بحثٌ موثق من مصادر ومراجع مغربية، من طرف باحث مغربي غيور على وطنه، وليس من أجنبي مُغرض. كتاب يستحق تدريسه على الأقل في نفس المنطقة. وبفضل الاطلاع على كل ما جاء فيه من حُلو ومُر يتحصن حتما الشباب من كل تطرف، فلا يبغي معه بديلا عن الدولة الحديثة.
وتجدر الإشارة إلى أن ما جاء في هذا الكتاب عن هذه المنطقة في ذلك العصر لا يختلف كثيرا عما جاء في كتب الدبلوماسيين والرحالة والزوار الأجانب بمختلف مناطق المغرب، من القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين. صحيح أن كل أولئك الأجانب كانوا بشكل أو بآخر جواسيس. لكنهم نقلوا في كتبهم صور المغرب كما شاهدوها بالفعل أو سمعوا عنها من طرف مغاربة مسلمين ويهود. والأستاذ أحمد التوفيق يستشهد في كتابه عن دمنات بشهادات من كُتُب بعضهم الذين مروا منها. وفي كتاب الاستقصا لأحمد بن المختار الناصري ما يُغني عن كتبهم بالنسبة لمجمل تاريخ المغرب بخصوص الحكام والمحكومين، وبحلوه ومره.
ومن المعلوم أنه ما خلا ولن يخلو يوم مجتمع بشري من فساد. لكن بالمقارنة من بعد استقراء كتب المؤرخين المسلمين، ففساد اليوم بالدولة الحديثة هو أقل وبكثير من فساد الماضي في ظل الدولة العتيقة والبائدة. وبنفس المقارنة دائما وباستقراء نفس الكتب، فالأمن على النفوس والدين والعرض والمال صار هو الــقــاعدة اليوم في ظل الدولة الحديثة، والاستثناء غالبا ما لا يفلت من قبضة العدالة. في حين غـــالــبــا ما كان ذلك الأمن على الحرمات هو الاستثناء في الدولة التقليدية بالنسبة للمحكومين وحتى بالنسبة للحكام وأعوانهم أنفسهم.
ومن حق كل مغربي أن يطلع على ما جاء في كتاب الاستقصا مثلا، لأحمد بن المختار الناصري باعتماده كمرجع أساسي ومهم في تدريس مادة تاريخ المغرب مع اعتماد تاريخ ابن خلدون مثلا بالنسبة لتاريخ بقية العالم المسلم. ومفعول كل ذلك سيكون بلا شك كمفعول كتاب الأستاذ التوفيق الإيجابي والمتوقع، بالنسبة لشباب منطقة دمنات، لمّا بفضل قراءته لن يبغي بديلا عن الدولة الحديثة، بعيدا كل البعد عن التطرف.
وفي الختام، فمن بعد ما يزيد على ستة عقود على استقلال البلاد، لا خوف، في اعتقادي، على أمنها وعلى وحدتها من معرفة حقيقة تاريخها بحلوه ومره. بل من شأن معرفتها أن تقوي تشبث المغاربة، ولا سيما الأجيال الصاعدة، بدولتهم الحديثة، وأن يرسخ في عقولهم التفكير في المزيد من التقدم بها وتطويرها ونمائها، بدلا من التفكير في إعادة إنتاج الدولة العتيقة التقليدية التي يُتوّهم أنها كانت كلها زاهية ومشرقة ومليئة بالأمجاد، مع ما يصاحب ذلك من تهديد لأمن البلاد والعباد. فهذا هو موضوع هذه الورقة المطروح هنا للمناقشة.
Aucun commentaire