Home»National»مجلة التنشئة في حوار مع المفتش العام السابق بوزارة التربية الوطنية الأستاذ عبد الإله المصدق

مجلة التنشئة في حوار مع المفتش العام السابق بوزارة التربية الوطنية الأستاذ عبد الإله المصدق

1
Shares
PinterestGoogle+

مجلة التنشئة في حوار مع المفتش العام السابق بوزارة التربية الوطنية الأستاذ عبد الإله المصدق

 ذ: رشيدة اوعقة فاس

 لكل منا مسؤولية تاريخية نحو مجال اشتغاله ومهنته وحرفته؛ من حيث هي مدخل اجتماعي للمشاركة في بناء بلده ووطنه وأمته. سيسائله التاريخ عما قام به تجاه مجاله ومهنته ووطنه وأمته في عاجله، وسيسائله رب العزة في الآجلة، بل وسيحاسبه التاريخ عن ذلك؛ خاصة إذا كان ممن تحمل مسؤولية كبرى في مؤسسة رسمية، لها قراراتها في بناء واقع الناس والوطن والأجيال، وتغييره وتطويره. فالمسؤولية حمل ثقيل لا نعي به إلا بعد حين من الدهر، حيث نرى النتائج وما كان علينا فعله ولم نفعله. تعليمنا بين الزمن السياسي والزمن المهني المسؤولية لا تستثني أحدا كيفما كان موقعه، فهو مسئول بقدر هذا الموقع! ومن هنا نعتقد أن خلق محطات لنقد الذات ومراجعتها فيما قامت به أجدى نفعا من نسيان ذلك إلى آخر محطة؛ وما يقال عن الأفراد يقال عن المؤسسات.

 ومن أجل هذا ولأجل التاريخ أجرت مجلة « التنشئة » حوارا مع الأستاذ عبد الإله المصدق المفتش العام السابق بوزارة التربية الوطنية للحديث عن تجربته الشخصية وعن معالم من التاريخ التربوي المغربي. يمكن إعادة قراءتها من منظور نقدي، لعل ما أدلى به الرجل وهو العارف بخبايا المنظومة التربوية المغربية يتموضع صوى لطريق إصلاح التعليم. منه يمكن أن نستفيد، خاصة أن الرجل تدرج في مدارج المسئولية وسبر غور المسكوت عنه في تعليمنا من منطلق السر المهني. وقد رحلت مراحل من التعليم إلى رحاب التاريخ؛ فالمطلوب من الرجل كباحث تربوي ومؤلف أن يدون تجربته انطلاقا من مختلف المواقع التي تقلدها في الوزارة. وهنا أستذكر قولة منه حكاها لي أحد الزملاء، وهي غاية في الحكمة وعمق الفعل التربوي لمن أراد أن يخدم المنظومة التربوية بنكران الذات، وهي:  » يجب أن نفرق بين الزمن المدرسي  » المهني  » والزمن السياسي « !، الشيء الذي يؤكده قوله في الحلقة الأولى من الحوار: » لازلت أتذكر مدير المدرسة والمدرسين في ذلك الوقت. مدرسون كانت إرادتهم قوية، يؤدون رسالة، ويعملون بعزيمة قوية وبإصرار، يعملون على تكوين جيل من المغاربة، قادر على المساهمة في بناء الاستقلال  » . حيث فرق هؤلاء بين الزمن السياسي وهو زمن الاستعمار وما كان يقوم به من أفعال تهدم الإنسان وهويته المغربية، وتحاول إلحاقه بالاستعمار، وهو هدم أخطر من الهدم المادي للبناء؛ فلم يتأثروا به من حيث كانوا مقاومين وبين الزمن المهني وهو الذي قادهم إلى الإرادة القوية والعزيمة الصلبة، وإلى تكوين المغاربة في ذلك الوقت انطلاقا من إيمانهم بأن التعليم رسالة وليس مهنة وحرفة فقط! فعندما لا نفرق بين الزمنين فإن الزمن المهني أو المدرسي يخدم الزمن السياسي، وهذا ما عاشته المنظومة التربوية والتكوينية في حقب تاريخية مختلفة. فكم برر الزمن المدرسي أو المهني قرارات الزمن السياسي رغم خطئها وعدم صوابها؟! وكم صمت الزمن المدرسي أو المهني عن أخطاء قاتلة للزمن السياسي؟! وهو قريب منا، مازلنا نعيش آثاره وتأثيراته على المنظومة التربوية والتكوينية المغربية. تعليم فقد لغته وفي الاستشهاد السابق؛ نجد الأستاذ يضع لب الفعل التدريسي في كلمة مفتاح للفعل الحقيقي إن شئنا الخروج من أزمتنا التعليمية، وهي رسولية التعليم، من حيث كونه في الكفة الأخرى من الميزان مقابل الرسل عليهم السلام. وما أعظمها من مكانة لو نفقهها حق فقهها! وقد صدق الشاعر شوقي حين قال: « قم للمعلم ووفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا ». والرسولية لها شروطها وأساسياتها وقيمها، على رأسها نكران الذات ومحاسبتها على الصغيرة والكبيرة والقيام بالواجب دون ترقب الجزاء من أحد سوى الله سبحانه وتعالى، وما أعظمها من قيم إنسانية! تهون المصاعب عند أعتابها. وقد ضرب الأستاذ أمثلة لأساتذة عظام ضحوا بوقت راحتهم من أجل متعلميهم. لكل منهجه وطريقته في التدريس؛ لكنهم « كانوا جميعا يجتهدون ويبتكرون  » .

 ومن ثم شاركوا في مقاومة المستعمر ومخططاته التهديمية للوطن والهوية، ومنها مخطط ضرب اللغة الوطنية حيث كانت المدارس الحرة تحرص على تدريسها وتدرس القرآن الكريم حفاظا على الهوية المغربية. ورغم ذلك فعل الاستعمار بلغتنا ما نعاني منه اليوم،  » فقد جرد الاستعمار هذه البلدان [ بلدان المغرب العربي ] من لغتها وثقافتها وقام بكل ما من شأنه أن يلقي بهما في قمامة التاريخ  » . وقد ورثنا عن الاستعمار لدسائسه اختلاف الرؤى حول اللغة الوطنية في المنظومة التربوية والتكوينية، والذي مازال قائما بيننا لحد الساعة رغم الدعوة إلى التعريب والذهاب فيه شوطا بعيدا، غير أنه لم يكتمل بعد نتيجة هذا الاختلاف؟! وهو مطلب للمحافظة على الهوية، ذلك أن « مهمة هذه الدول بعد الاستقلال تتمثل في استرجاع اللغة والثقافة العربيتين » . هذا التعريب الذي يعرب عن المسألة اللغوية وإشكاليتها اللغوية، التي قال فيها الأستاذالمصدق: « أرى أن المسألة اللغوية، لم تتم معالجتها في السنوات الأولى للاستقلال، ثم بعد ذلك، بموضوعية وبمنهجية علمية، بل عولجت من منطبق عاطفي أو من منطلق نفعي يكتسي الكثير من السطحية والاستعجال، الاستعجال في المعالجة والاستعجال في الحصول على النتائج  » . وهي كما قال؛ مازالت إشكاليتها قائمة في تعليمنا إلى اليوم. ونلمسها بكل جلاء في النتائج المحصل عليها في مدارسنا وفي الكفاية الداخلية والخارجية لتعليمنا في مستوى اللغة العربية. وهي تزداد تعقيدا ولبسا كلما استعجلنا معالجتها. خاصة إذا استعرضنا مختلف الرؤى المتحكمة في السياسة اللغوية المغربية. والتي يطغى عليها تقديس اللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية والأمازيغية واعتبارها امتيازا في السوق اللسنية فضلا عن السوق الاقتصادية والشغل في إطار العولمة! « 

ورغم أن اللغة الفرنسية لم تعد هي اللغة الرسمية، فإنها ظلت مع ذلك سائدة في القطاع الاقتصادي وفي القطاعات الإدارية الأكثر تقنية كالمالية مثلا. وهي لازالت تحتل مكانة هامة في التعليم إذ تدرس في التعليم الابتدائي بالبلدان الثلاثة [ تونس ـ الجزائر ـ المغرب ]، وتستخدم في وسائل الإعلام من صحف، وبرامج للإذاعة والتلفزة … كما أن انتشار التمدرس يشيع معرفتها بين شريحة من السكان أوسع مما كان عليه الأمر قبل الاستقلال. إضافة إلى ذلك، فهذه اللغة تشهد انتشارا شفهيا واسعا حتى في الأوساط الشعبية سواء تعلق الأمر فيها بالعمال الذين أقاموا في فرنسا أو السكان الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولم يسافروا إلى الخارج. ونظرا للمواقع التي تحتلها اللغة الفرنسية في المغرب، فهي لغة معترف بها باعتبارها لغة للخبز، أي لغة للترقية الاجتماعية: بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في المجتمع. ومما له دلالة بهذا الصدد التكوين الذي تختاره النخب لأبنائها. فمن المعروف في جميع أنحاء المغرب العربي أن أنصار التعريب الأكثر تحمسا ـ وماذا نقول عن غيرهم؟! ـ قد كونوا أبنائهم عموما في مدارس فرنكوفونية. ومن ثم، فالرأي العام يحس بأن سياسة التعريب عموما تعد بمثابة إجراء للانتقاء الاجتماعي من شأنه أن يلعب ضد الفئات المحرومة  » . لذلك يجب معالجة المسألة اللغوية في التعليم معالجة موضوعية تراعي خصوصياتنا الحضارية والثقافية والاجتماعية وهويتنا وتطلعاتنا التنموية والعلمية والحضارية. وهو الشيء الذي ظهر في قول الأستاذ المصدق: » هناك مواقف أخرى اتسمت بالموضوعية والنظرة العلمية وينادي أصحابها بمعالجة المسألة اللغوية بشكل يأخذ بعين الاعتبار هويتنا وخصوصياتنا وتموقعنا وحاجاتنا التنموية، ولا يتورع أصحابها على طرح المشاكل المتعلقة باللغة العربية نحوا وصرفا وكتابة وشكلا، والقضايا المتعلقة بتعلم اللغة العربية والمداخل التي ينبغي اعتمادها في هذا الصدد  » . وهذه المواقف تعترف بإشكالية اللغة في مستوى الموضوع والمنهج والمدخل الديداكتيكي، والتي تتطلب تدخلا مختصا ومتعدد الاختصاصات. والمسالة اللغوية تظهر صراعا حقيقيا بين تيارات إيديولوجية وسياسية واقتصادية بل وتيارات ثقافية تقع في هذه الضفة اللغوية أو في الضفة الأخرى أو تحتل الوسط فإن الحقل اللغوي يستوعب مجمل صراعات طبقات المجتمع ويجليها. وهو الأمر الذي يتفق عليه مختلف العلماء بمختلف حقولهم العلمية المتنوعة التي يشتغلون عليها وبها. فعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي يقر بأن المسألة اللغوية هي سطح الماء الذي يعكس أشعة ذلك الصراع. مرآة الصراع وهذه المسألة هي جزء معبر عن أزمة التعليم؛ حيث « كان التعليم ومشاكل التعليم الجزء الذي يرى من الصراعات الخفية بين مختلف الأطراف، صراعات قد لا تكون لها علاقة بالتعليم بشكل مباشر. ولكن التعليم هو الذي تبرز فيه الاختلافات والصراعات  » . الشيء الذي أدى إلى استمرار أزمته بل تفاقمها يوما بعد يوم، حتى تسرب بعض اليأس في النفوس، وبدأنا نسمع استحالة شفاء تعليمنا من أسقامه. لهذا تتحمل المفتشية العامة للشؤون التربوية حملا ثقيلا ومسؤولية كبرى أكثر من مكونات الوزارة في تصحيح السياسة التربوية للنظام التعليمي المغربي، وهي بمنطق التاريخ لها قسطها في نجاح أو فشل التعليم. فالقارئ للحوار سيلمس بوضوح وعيا علميا وسياسيا بخطورة تموضع التعليم في المنظومة المجتمعية المغربية، ووعيا متعمقا بأبعاد الإشكالية ومكامن ضعفها إزاء فطنة بمداخل التصحيح، ولعل قول السيد المصدق يؤكد هذا الوعي وتلك الفطنة! « 

في البداية لم يتم التعامل مع المسألة التعليمية بشكل موضوعي وبتخطيط محكم، بنموذج يناسب ما كنا نتوفر عليه من إمكانات مادية وبشرية. ماذا فعلنا؟ نقلنا النموذج الذي كان سائدا. حتى التعليم الحر في بعض جوانبه، ماذا كان التحدي بالنسبة إليه؟ كان التحدي لديه هو أن يدرس باللغة الوطنية، وأن يزرع الروح الوطنية في تلميذاته وتلاميذه، واعتمد في كل ذلك على مبادرات تلقائية من المدرسين العاملين فيه وعلى روحهم الوطنية وعلى روح التحدي التي تسلحوا بها ليبرهنوا على قدرات الإنسان المغربي .. كل مدرس كان مدرسة قائمة الذات، كان نموذجا في حد ذاته، غير أن ذلك ظل عبارة عن اجتهادات فردية ..بل إن السياسة التعليمية المعتمدة في بداية الاستقلال والأخذ والرد الذي واكبها أصاب بعضهم بنوع من الخيبة إن لم نقل الإحباط، بالإضافة إلى ذلك، لم نحاول أن نجمع المبادرات والاجتهادات الكثيرة وندرسها ونعيد صياغتها وفق منهجية علمية تقودنا إلى بلورة نموذج وطني يأخذ بعين الاعتبار ممارساتنا وتجاربنا السابقة. يمكن أن نعتبر أننا لم نتعمق كثيرا في إرساء هذه المدرسة المغربية.لأن المدرسة المغربية، في نظري، كان ينبغي أن يتم إرساؤها وتحديثها انطلاقا من حاجياتنا وخصوصياتنا » .

 وهنا أعتقد بأن إشكالية التعليم المغربي ناتجة عن صراع خيارات سياسية وفكرية وثقافية ونفعية منذ بداية الاستقلال بل منذ ابتلاء المغرب بالاستعمار، تطغى عليها الحالات الفردية والفئوية على الحالة الوطنية والعامة. لأن العمق الوطني والقيمي والعلمي للتعليم ضاع مع هذا الصراع، فأصبحنا عمليا اليوم نفتقد هذا العمق في مدارسنا وإن كان مسطرا في برامجنا ومناهجنا. ولنا من الدلائل الواقعية والمعيشة في المؤسسات التعليمية ما يؤكد دعوانا. حيث ظواهر الغش والعنف والمخدرات والتسيب ..كلها مظاهر من فقدان البعد الأخلاقي والإنساني والإحساس الوطني في المدرسة المغربية. وهو فقدان له في الصراع السابق الجذور الأولى التي تراكمت وتعاظمت مع مرور الأيام والمحطات التاريخية، واستيلاء  » خردة السياسة التعليمية  » على السياسة التعليمية الحقيقية التي تصنع الإنسان من خلال كل المنظومات الأدائية بما فيها المنظومة التربوية والتكوينية. وهو الأمر الذي يجب أن نراجعه مع السيد الأستاذ المفتش بالاستفادة من خبرته وتجربته. ويجب مراجعته في ظل دراسة تجارب مغربية أصيلة مثل تجربة الكتاتيب القرآنية لدورها المحوري في تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم وعلومه؛ ففي طرقها البيداغوجية ومتنها التعليمي ما يمكن تطويره لمناسبة التطورات الحاصلة في التعليم. وما يؤهلها لتكون أرضية الانطلاق في بعث تربية مغربية أصيلة تقوم على الذات وتستفيد من الآخر ضمن حدود النافع منه والمنسجم مع الخصوصية المغربية.

 والمغرب الآن على حد قول الأستاذ الدكتور المهدي المنجرة استنفذ  » التعليم الصياني  » إلى أقصى حدوده؛ وعليه أن ينطلق إلى  » التعليم الوظيفي » الذي لا يهدف إلى تكوين موظفين عموميين وجيش من المتعلمين متعلقين بالوظيفة العمومية، وإنما يرتكز على تكوين إنسان مؤهل علميا ومهنيا واجتماعيا أن يوظف كفاياته في خلق مجال للشغل خاص به أو الاشتغال ضمن مجموعة من الكفاءات المهنية أو العلمية. ذلك أن تعليمنا في عمقه الثقافي والاجتماعي يقوم على حق الوظيفة وليس على حق الشغل. وهو عمق ناتج عن طبيعة هذا التعليم التقليدي ـ مهما ادعى لنفسه من تجديد وتطوير ـ وعن مضمونه وآليات اشتغاله وأدائه. مما طفح بعدة مشاكل مازال تعليمنا يعاني منها، ولم يخرج عن كونه مصب الأزمات السياسية وحقل تجاربها، التي تفرغ فيه شحنات احتقانها وشطحات أفكارها بعيدا عن الإبداع والابتكار والعلمية والموضوعية، فهي مازالت تلحق بالتدريس أطرا لم تستفد من التكوين الأساس إنما في أحسن الأحوال استفادتها من تكوين موسمي شكلي لا يسمن ولا يغني من جوع. وهي بذلك تكرر خطأ الأمس حيث في بداية الاستقلال سعت الوزارة إلى تطوير التعليم من خلال إصلاحه؛ فـ « اتخذت مجموعة من القرارات أبرزها إعلان وزير التعليم في يونيو 1956 عن برنامج يسعى إلى إصلاح التعليم عن طريق تعميمه وتعريبه حيث سيتم الإعلان، بموجب هذا البرنامج، عن البدء في تمدرس مليون ونصف خلال خمس سنوات بمعدل 300 ألف طفل كل سنة ابتداء من الدخول المدرسي 1956 ـ 1957.. فتصور التعليم الابتدائي بجميع مستوياته يحتوي على 200 ألف طفل، والمخطط يقضي بقبول 300 ألف طفل جديد في دخول مدرسي واحد ..

طبعا طرحت مسألة الأطر التعليمية والحجرات التعليمية، فقامت الوزارة بتوظيف عدد كبير ممن لم تكن لهم أي مؤهلات وباعتماد نظام التناوب ونظام نصف حصة، الأمر الذي سيكون له انعكاسات سلبية على سير التعليم ببلادنا » . وهي السياسة التربوية بذلك (أس الداء) وليست (الدواء وطوق النجاة) . فالمنظومة التربوية والتكوينية مازالت تقبع في المتن التعليمي وفي الديداكتيكا باعتماد الكم على النوع، ودون النحو الجدي إلى إكساب المتعلم أساليب التفكير. ذلك أنه:  » تكتظ معظم مناهجنا بمادة تعليمية متضخمة، على حساب تنمية مهارات التفكير. وتتوقف دورة اكتسابنا للمعرفة ـ عادة ـ عند حدود الإلمام بها دون توظيف لها؛ وهو الأمر الذي يجعلها عرضة للضياع والتبدد. ويشكو معظم طلابنا من نقص شديد في مهارات البحث عن المعرفة، وطرق تمثيلها منهجيا، وعرضها وتسويقها  » . وهذا ما يمكن استنتاجه من الحوار في جزئه الثاني. ونحن لا ننكر أهمية التطور الكمي للتعليم؛ لكن أن يصبح هدفا في حد ذاته على حساب الكيف؛ فأمر غير مقبول! كما أنه يجب الاستفادة من الكم لصالح الكيف، خاصة فيما يتعلق بتطور ميزانية التعليم. والتي تشهد وغيرها من مكونات المنظومة التعليمية هدرا حادا؛ يدعو الأستاذ إلى الحد منه بقوله: « وفي هذا السياق يجب أن يحرص الجميع على محاربة الهدر بجميع أشكاله وتجلياته، فالتسرب هدر والغياب هدر والانقطاع المبكر قبل العطلة هدر، وفصل التلاميذ عن المدرسة هدر واستهلاك الماء والكهرباء والهاتف بدون حساب هدر وكثرة الأدوات المدرسية هدر ووضع الموارد البشرية في مواقع أقل من إمكانياتها هدر » .

والمستغرب، كيف لم تترجم الوزارة هذا الوعي بالمشاكل وبقضايا التعليم إلى إجراءات عملية وميدانية لحلها وتطويرها لتجويد خدمات التعليم! والواجب عليها الاستفادة من المفتشية العامة أم كانت محاصرة على حد قول الأستاذ محمد شركي في إحدى مقالاته! فتطور التعليم المغربي أصبح ضرورة سياسية واجتماعية واقتصادية وتنموية لمغرب خرج لتوه من الاستعمار، لأن تطوره تطور للبلاد وتنمية لها من خلال بناء الإنسان القادر والعالم والكفء. غير أن هذه الضرورة طبع سيرورتها الارتجال والتخبط في الرؤى والفعل وردة الفعل، وهو ما يلمسه المتتبع لتاريخ التعليم بالمغرب، وما صرح به السيد المفتش العام السابق في هذا اللقاء؛ حيث لمسنا قرار التعريب ثم توقيف التعريب!؟ والتعريب ثانية ثم الترجمة ثالثا ثم توقف التعريب في المستوى الجامعي رغم وجود تجارب للتعريب عالمية نجحت في تخريج خيرة الأطر العلمية العليا ! تنافس من أجل الاقصاء والأستاذ الكريم في حواره ولقائه مع التنشئة أدلى بمضمون تاريخي للتعليم المغربي يلتقي في جوانب منه مع ما قاله المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن هذا التاريخ. ويستحسن هنا مراجعة التنشئة بعدديها الرابع والخامس، لأن المقال لا يسع ذكر كل ذلك التاريخ. وما جاء به الحوار من نقد للتعليم هو دليل عن فهم عميق لمشكلته. فالتعليم المغربي في بعض الرؤى والدراسات هو تعليم نخبوي وطبقي وإن طبع بشعارات براقة مثل التعميم والجودة وتكافؤ الفرص … ! فقد قال السيد المفتش العام في شأنه:  » والخلاصة التي يمكن للمرء أن يخرج بها من هذا الاستقصاء لمسار التعليم ببلادنا هي أن تعليمنا كان منذ الاستقلال يعمل، عن قصد أو دون قصد، بمنطق  » الإقصاء  » في أي مرحلة ينبغي أن يتم الإقصاء، وكل متفحص لسيرورته سيجد إن هذا الإقصاء كان له مدخلان .. اللغة أو الامتحان أو هما معا، وذلك تبعا للمستوى الذي حدد للإقصاء، هذا المنطق طبع تعليمنا لسنوات طويلة بما أسميه  » التنافس الإقصائي  » …

 وإمعانا في هذا المنطق، حدد عدد سنوات التمدرس وعدد سنوات التكرار في كل سلك من الأسلاك، وكل من استنفذها يكون مصيره الفصل من التعليم العمومي .. فاللغات تتنافس لتقصي إحداهما الأخرى في مرحلة معينة، قد تكون دائما أمام لغة تقصى وأخرى تستمر والغلبة للتي ستستمر، وعوض أن يكون تعدد اللغات مصدر إغناء أضحى مصدر إرباك، وأصبح لكل لغة حمولتها الاجتماعية والسياسية » . وهو إقصاء مقنن حاليا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وبنسب محددة. مما يجعلنا أمام إشكالية متجذرة في التاريخ الحديث للمغرب، ومازالت قائمة ليومنا هذا تتطلب الإصلاح وإصلاح الإصلاح! في حين لو استثمرت الوزارة هذا الفهم والوعي بالمشكلة بجانب استثمار نتائج الدراسات العلمية والجادة في إشكالية التعليم، لما ظلت تتخبط في مشكل التعليم إلى يومنا هذا! … ولعل خلاصة القول المهمة هي قوله: « ولست في حاجة إلى أن أصف نوع العلاقات التي نسجت مع الزمان فيما بين التلميذات والتلاميذ، وفيما بينهم وبين الأستاذات والأساتذة، والإدارة التربوية للمؤسسة ثم بين كل هؤلاء والآباء والأمهات … وشيئا فشيئا بدأ الجميع يتخلى عن مسؤوليته، وكل فئة تعتبر أن الفئة الأخرى هي المسؤولة، وساد ما أسميه  » بيداغوجيا الإقصاء  » وغاب مبدأ تكافؤ الفرص … » . ومن ثم أستغرب إقصاء الوزارة هذا الوعي من تدبير إصلاح التعليم وتوكيل مهام إدارية روتينية للمفتش العام في حل مشاكل معينة، فيما أهم المشاكل ظلت قائمة بين أيد لم تعرف ما تفعل أمامها، وإنما زادتها تعقيدا وأزمة. ومن باب، أن الرجل له خبرة كبيرة بالمجال التعليمي، وهو الآن بعيد عن الضغوطات الرسمية بما فيها الإقصاء بل من موقعه الجديد على حد قول البعض، يمكنه أن يساهم في تصحيح مسار التعليم وذلك بالتعرية العلمية والموضوعية عن مشاكل التعليم، خاصة العقلية المتحكمة فيه، والتي يطغى عليها منطق الكم ومنطق البهرجة والفرجة السياسوية من أجل القول:  » بالعام زين وكل عام زين  » . وفي النهاية أحيل القارئ الكريم على قراءة الحوار قراءة أخرى وبعين أخرى لعلنا نذكي الحماس فينا لإصلاحتعليمنا إصلاحا حقيقيا وليس ترقيعيا.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *