سؤال التغيير والتجديد أم سؤال الإصلاح في المنظومة التربوية والتكوينية المغربية ( سؤال الجدوى )
سؤال التغيير والتجديد أم سؤال الإصلاح في المنظومة التربوية والتكوينية المغربية
( سؤال الجدوى )
عبد العزيز قريش
في زمن الأسئلة الحرجة والمحرقة المتعلقة بكينونة المنظومة التربوية والتكوينية المغربية؛ التي يصنعها الفكر السياسي والتربوي والعلمي المغربي، وينجزها المهني التربوي المغربي بمختلف مستويات وجوده وفعله ومكانته في المنظومة التربوية والتكوينية، ودرجة حضوره في الفعل الميداني تأثيرا وتأثرا. ينبعث سؤال جوهري وموضوعي، تتطلبه اللحظة التاريخية الراهنة، التي ما فتئت معطياتها القائمة في المعيش اليومي للفرد والمجتمع المغربيين تزكي طرحه بإلحاح. وأضحت الوقائع العالمية والمتغيرات الإنسانية تشكل بيئة حاضنة له، ومستنبتة لجذوره في تربة المجتمع المغربي وخاصة تربة التربية والتعليم والتكوين، وتزكي جائحة كوفيد19 العالمية إمكانية حضوره بشكل كثيف في المسألة التربوية والتكوينية، وهو سؤال التغيير والتجديد في المنظومة لا سؤال الإصلاح.
فلماذا سؤال التغيير والتجديد لا سؤال الإصلاح؟
هنا؛ نقرر أن التغيير والتجدد ينطلق بواقع المنظومة التربوية والتكوينية المغربية المعيش إلى واقع مخالف لحالة الانطلاق بتغيير المنطلقات والأسس من مفاهيم وتصورات ورؤى ونماذج وسياسات وأهداف وغايات … إزاء تغيير البنية المادية للمنظومة بما يستجيب مع الواقع المتوقع لها. ولا يعزب عن البال الارتباط القائم بين واقع المنظومة المستهدف وواقع العالم ومستجداته في إطار العولمة والانفتاح العالمي الذي تشتد فيه المنافسة بين الدول معرفيا واقتصاديا وتكنولوجيا وصناعيا وثقافيا … والذي أضحى فيه الاقتصاد القوي والمتين هو الاقتصادي المبني على المعرفة، التي اندمجت في كنه التنمية المستدامة، وفي الفعل وناتج الفعل سواء أكان ناتجا سائلا أو صلبا، بمعنى سواء أكان معرفة أو منتجا ماديا أو منتجا خدميا …وغدا فيه التقدم العلمي والتكنولوجي قائما على نجاح مشاريع البحث العلمي الذي تقوده الدول ومؤسساتها العلمية والبحثية، المتظافر فيها جهود العلماء والمهندسين والتقنيين والعمال، والتأمت فيها كفايات ومهارات وقدرات وخبرات وتجارب الجميع من أجل خلق مجتمع المعرفة الذي يقود التقدم على مختلف الأصعدة، وينشر بين مكوناته المعرفة ويديرها ويستثمرها على أكمل وجه.
والتغيير والتجديد قد لا يبقي على المنطلق الأصلي كما هو شكلا ومضمونا ونوعا، فلا يكتفي بتجميد الحالة الأصلية بإصلاح أعطابها وأغلاطها وأخطائها، وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث يمكنه أن يقيم في مرحلة من مراحل التغيير والتجديد قطيعة مع الأصل. لذا؛ نجد أن مستجدات ألفية المعرفة ومعطيات القرن الواحد والعشرين يناسبها سؤال التغيير والتجديد بدل الإصلاح، لأنه يفتح آفاق الانتقال الكلي والشامل والقطعي من حالة إلى حالة ضمن رؤية مستقبلية استراتيجية. خاصة إن كانت مبنية على قراءة مستقبلية علمية انطلاقا من المعطيات والمبررات والغايات … غير أننا نقرر بجانب ذلك، أن الإصلاح يبقي على الحالة المنطلق أو الأصلية بأسسها ومرتكزاتها ومعطياتها الرئيسة كما هي مع إصلاح أخطائها وسلبياتها بغية تحصيل جودتها وفاعليتها في أحسن الأحوال، وقد لا تتماشى تلك الإصلاحات مع متطلبات المتغيرات العالمية والوطنية والإقليمية، التي تكون شرطا أساسيا في الاندماج في التطور العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي لألفية المعرفة.
وسأضرب مثالا حيا عن الإصلاح والتغيير والتجديد والتجدد؛ هذه الألفاظ التي نجد لها على المستوى المعجمي اختلافا في المعاني النووية، بما يفضي بنا إلى التفكير في مراجعة مطالبنا التربوية والتكوينية وغيرها ومقولاتها. فالأولى من المنظور الواقعي والمستقبلي المطالبة بالتغيير والتجديد لا بالإصلاح، الذي سيبقي منظومتنا التربوية والتكوينية في دائرة التقليد والعادة والمعتاد، وفي دائرة مشاكلها النابعة من طبيعة أصلها وجوهرها … وسنبقى ندور في حلقة مفرغة غير مستفيدين من قراءة تاريخ وإبستمولوجيا العلوم، وقراءة التجارب الإنسانية؛ فمعظم التغييرات التي وقعت في العلوم والحياة الإنسانية جاءت نتيجة طفرات علمية نقدية قطعت مع ماضيها. ولعل ما كان يجري مع مفكرنا الكبير الأستاذ أحمد الأخضر غزال ـ رحمة الله عليه ـ عضو أكاديمية المملكة والمدير السابق لمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الذي بذل جهدا كبيرا في البحث عن تكييف وملاءمة الحروف العربية المطبعية فيما بينها، لتسهيل لزقها وتصفيفها في لوحات الطباعة وإنتاج الكتب وغيرها، وإدخالها الحاسوب. فقد ابتكر آلة لرقن الحروف العربية حسب طريقته، وسماها AVC.CODAR، فاستغنى المغرب عن جلب الآلات الكاتبة الأجنبية؛ غير أن جهودا غربية بالدرجة الأولى ومنها على الخصوص الأمريكية، وأخرى يابانية اشتغلت بجد على رقمنة الحرف والطباعة وحوسبتهما، فاخترعت الحاسوب الذي تطور بسرعة هائلة وبوتيرة متسارعة، وانتشرت حواسيب IBM للمؤسسة الدولية للحاسبات الآلية « آي بي إم »في العالم لتطورها، وقضت على مشروع أستاذنا الكبير أحمد الأخضر غزال، وإن كانت استفادت منه لا محالة في حوسبة ورقمنة الحرف العربي وطباعته. ووجدت وفق مشروعه وطرحه ـ رحمة الله عليه ـ بعض الحلول لقضايا كتابة ورقن بعض الحروف سواء في بداية الكلمة أو وسطها أو آخرها. فكانت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والرقمية هي السياق الطبيعي الذي يجب إدراج جهود أستاذنا فيه، بدل إدراجها في سياق تطوير وتحسين الآلة الكاتبة؛ ورغم ذلك ستظل مجهوداته المبذولة في ميزان حسناته حسب اعتقادنا الديني إن شاء الله. ولكنهالم تكن مناسبة لتطور العصر؛ فهي مارست الإصلاح، والجهود الأخرى مارست التغيير والتجديد. فأبقت جهوده الإصلاحية الأصل كما هو مع تجويده، بينما ابتكرت جهود الآخرين منتجا غير الأصل. فكذلك؛ سيقع معنا إن ظل لساننا مطالبا بإصلاح المنظومة التربوية والتكوينية لا تغييرها وتجديدها. ولن يشبع إصلاحها من هضم مجهوداتنا الضائعة من إصلاح إلى إصلاح كما هو ملموس في واقعنا البئيس والحزين المعيش.
من معطى واقعنا المعيش الوطني والعالمي غدت الرقمنة وتقنياتها وثقافتها الخبز اليومي للناشئة والبالغين إناثا وذكورا، وأضحت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والرقمية منبع المعرفة للباحثين والدارسين والأساتذة وعموم المواطنين إزاء المنابع الأخرى من بحث علمي وقضايا معيشية » معرفة التجربة « ، واستجدت مصادرها ومراجعها ـ أي المعرفة ـ وتنوعت، ولم تعد المؤسسة التربوية والتكوينية ذات المصدر والمرجع الكتابي المطبوع ورقيا ومكتباتها مصدرا وحيدا للمعرفة، وإنما نافستها منتجات هذه الثورة، واكتسحت عالمها، وحاصرته بما تطرح من بدائل سريعة وسهلة ورخيصة في عالم اكتساب المعلومات والمعارف والخبرات والمهارات والتقنيات والقيم وغيرها. وخنقت بعض شرايين جسم المؤسسة التربوية والتكوينية كالقراءة والكتاب الورقي والسبورة والطبشور … وقلصت من مجتمع القراء؛ خاصة في مجتمعنا العربي بما فيه المجتمع المغربي بنسبة كبيرة جدا، وزادت درجة ذلك شدة قلة وعينا بأهمية القراءة والمطالعة في حياة الفرد والمجتمع معا. وأزارت قلة الوعي ثقافة الجهل والتجهيل، وهشاشة تكويننا المعرفي والعلمي، وخبل ثقافة الماديات، والتقليد الأعمى للغير فيما هو سلبي، والتباهي الاجتماعي الفارغ بتوافه الأمور، وزادت طينه بلة. فلم تبق مؤسستنا التربوية والتكوينية مسايرة للسياق المستجد في عالم المعرفة والتكنولوجيا والمعلوماتية والرقمنة، وأمست متخلفة عنه وبعيدة عن مسايرته رغم مجموع الإصلاح والصيانة التي أجريت لها وعليها. مما يستدعي التفكير في نقل الفعل الإصلاحي والصياني إلى فعل التغيير والتجديد بما يعني من إبداع وابتكار للجديد، فلم يعد مقبولا أن تبقى مؤسستنا مغلقة الجدران على الكتاب الورقي، وعلى المنهاج المقرر، وعلى نهجها التلقيني، وعلى السبورة والطبشورة، وإن أحسنت التقديم تستعمل السبورة المغناطيسية أو غيرها، وتعتبر هذه الحالة متقدمة وقد تكون استباقية في عالم رقمنة التربية والتكوين. فاليوم يجب أن نفتح مؤسستنا التربوية والتكوينية على الكتاب الرقمي وعلى البرامج الافتراضية وعلى المنهاج المفتوح على حاجات المتعلم ومطالبه وتقريراته التي تستجيب لرغباته، والتي تحقق كفاياته الذاتية فضلا على المنتوجات التكنولوجية والمعلوماتية، وتوظيف البرانم في التعليم والتدريس والتكوين بجانب تكوين المتعلم في مجال التكنولوجيا الرقمية والثقافة الرقمية، ونظرياتها ومفاهيمها ومصطلحاتها ونماذجها، وندربه على استعمال تقنياتها وأدواتها … إلخ. ونؤهله للاندماج في مجتمع المعرفة للاستفادة منه، حيث للمعرفة دور مهم في التنمية، وإنتاجها يعد من أهم مصادر الدخل القومي في المجتمع، تضمن له الرقي والتقدم والرفاهية. فالمجتمع الذي يملك المعرفة يملك الثروة والتقدم.
وهنا؛ نلمس مدى تقريبنا من التدريس الرقمي من طرف كوفيد19، الذي جردنا من أدواتنا التقليدية التعليمية والتدريسية في رمشة عين، وحسسنا بقيمة ذلك في الحياة المدرسية، وأدخلنا رغما عنا لا أبطالا في الاحتكاك بالرقمنة وتقنياتها، وبعالم التكنولوجيا والمعلوميات، فلم تعد ذلك الغول الذي يرهبنا ويخيفنا أو ذلك العالم المجهول الذي نتهيب جواهله ودواخله، فتدرب أغلب مدرسينا وأساتذتنا على توظيف الوسائط الرقمية من حواسيب وألواح رقمية وشاشات رقمية وبرامج ومناهج افتراضية، وأبدعوا في إنتاج مواد دراسية رقمية ودروس تعليمية وكتب رقمية، ومنهجيات تدبيرية في تقديم ذلك للمتعلم؛ فأمسى الدرس المدرسي مكتوبا ومرئيا ومسموعا مقروءا ومرسلا عبر الشبكة العنكبوتية ومرصدا في المواقع التعليمية وموقع الوزارة ومواقع المؤسسات التعليمية، وأصبحت إمكانية استرجاعه وإعادته والاشتغال عليه أكثر من مرة متاحة، وبطبيعته هذه أضحى مستفزا ومثيرا لاهتمام المتعلم، ومحفزا لمداخله الحسية والعقلية، يثير فيه التساؤل وحافزية التعلم.
وفي إطار هذا السياق نتساءل هل مازال لسؤال إصلاح المنظومة التربوية والتكوينية مكانة أمام سؤال تغييرها وتجديدها؟ وما الأجدى منهما لها؟ وأيهما سيدخلها في السياق العالمي للمنظومة المتقدمة؟ وهل يمكن للإصلاح أن يلغى التعليم النظامي التقليدي للمنظومة لصالح التعليم الرقمي؟ وإلى أي حد منظومتنا التربوية والتكوينية بكل مكوناتها البشرية والمادية والمالية قابلة لاحتضان سؤال التغيير والتجديد؟ وإلى أية درجة يمكنها أن تتحمل ضريبة التغيير والتجديد؟ وهل هي بثقافتها السائدة ومعطياتها الميدانية مستعدة للتخلي عن موروثاتها التقليدية ومعتقداتها التربوية وتقاليدها ومقدساتها ومحرماتها؟ هذه الأسئلة النابعة من سؤال التغيير والتجديد الجوهر، تتطلب رؤية نقدية وأخرى استراتيجية وثالثة ابتكارية فضلا عن الإرادة بكل أنواعها والثقة بالنفس مع عزيمة الفعل … وسؤال التغيير والتجديد في سياق التربية والتعليم والتكوين الحالي يبقى انفتاحا على عالم مازالت منظومتنا التربوية والتكوينية المغربية تلامس عتبات دخوله؛ فمتى تقتحمه بكل جرأة مهما كانت المخاطرة والمجازفة بالمكتسبات … فهو يستحق ذلك.
Aucun commentaire