من الشعر القصصي
محمد شحلال
عرف الشعر العربي تطورا كبيرا من حيث الأغراض التي تناولها،ولا سيما في العصرين الأموي والعباسي. ولعل الشعر القصصي من أجمل ما يزخر به ديوان العرب.
برع كثير من الشعراء القدماء في الشعر القصصي،حيث تستوقفك قصيدة البحتري وهو يصف معركته مع ذئب شرس خلال الليل،لكني اخترت اليوم وقفة مع الشاعر المخضرم،،الحطيئة،،وهو يتحدث عن كرم أعرابي في الفلاة.
الحطيئة،لقب للشخص قصير القامة،وقد حمل شعراء عرب عديدون ألقابا منها ما يفيد الذم ،ومنها ما يدل على المدح.
وهكذا،فقد لقب امرؤ القيس ب،،الملك الضليل وذي القروح،، ومسلم بن الوليد ب،،صناجة العرب،،كما عرف بشارة الخوري ب،،الأخطل الصغير،، وحافظ إبراهيم ب،،شاعر النيل،،واللائحة طويلة.
اسمه الحقيقي،جرول بن أوس،وكان دعيا ،قصير القامة ،وزاد الفقر من معاناته ليلجأ إلى التكسب الذي دفعه إلى الابتزاز مثلما ما صنع مع ،،الزبرقان،،عامل عمر ض.حيث هجاه بذكاء بليغ حينما وصفه قائلا:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها فأنت الطاعم الكاسي
تفطن ،،الزبرقان،، لمكر ،،الحطيئة،، فشكاه للخليفة الذي لم يتيقن من المغزى إلا بعد استشارة حسان بن ثابت الذي أكد سوء نية الشاعر،مما جعل عمر يسجنه،ثم يفرج عنه بعدما استعطفه بأبيات مؤثرة قال فيها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ _ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة _فاغفر عليك سلام الله يا عمر
لقد شبه أبناءه بفراخ الدجاج حال خروجها من البيض،وهو ما رق له قلب الخليفة، فأطلق سراحه شريطة أن يكف لسانه عن أعراض المسلمين.
غير أن الحطيئة برع بشكل لافت حين نسج قصة متكاملة اجتمعت فيها كل العناصر لتصور مشهدا مؤثرا ،أساسه سجية الكرم التي لا يفرط فيها العربي(البدوي خاصة)كيفما كانت الظروف.
تصور الحطيئة بدويا يئن من الفقر في فلاة خالية من الناس،وهناك توارى مع زوجه العجوز وأبنائه الحفاة العراة الذين نال منهم الجوع حتى غدوا كصغار الماعز.
مرت ثلاث ليال لم يطه فيها طعام،فعمد الأعرابي إلى عصب بطنه كما يصنع الجوعى يومئذ،لكنه كان على موعد مع مفاجأة محرجة،ذلك أن ضيفا قد وفد على الأسرة البئيسة قبيل حلول
الظلام ،وهي أسرة يتضور أهلها جوعا،ولكن لا يسوغ لهم التفريط في واجب الضيافة !
رق الأطفال لحال والدهم الذي يوشك أن يفقد ماء وجهه،فعرض عليه أحدهم أن يضحي بنفسه ليكون عشاء للضيف فتسلم سمعة الأب !
تأثر الأب،وتوجه إلى الله أن يخرجه مما هو فيه،
ثم حمل كنانته وربض قرب الماء الذي ترده الوحوش.
ابتسم الحظ أخيرا،حين أقبل قطيع من حمر الوحش التي أمهلها حتى ارتوت،ثم أصاب أجود ما فيها،وعاد يجر عشاء ثمينا يسعد الضيف والعيال،ويصون ماء الوجه ، فحق لهذا الأب أن يظل أبا،ويحتفظ الحطيئة بمقامه بين كبار شعراء العرب.
يقول الحطيئة:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الإنس وحشة
يرى البؤس فيها من شراسته نعما
وأفرد في شعب عجوزا إزاءها
ثلاثة أشباح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة
ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما
رآى شبحا وسط الظلام فراعه
فلما رآى ضيفا تشمر واهتما
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى
بحقك لا تحرمه تا الليلة اللحما
وقال ابنه لما رآه بحيرة
أيا ابت اذبحني ويسرله طعما
ولا تعتذر بالعدم عل الذي طرا
يظن لنا مالا فيوسعنا ذما
تروى قليلا ثم أحجم برهة
وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما
فبينا هما عنت على البعد عانة
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
عطاشا تريد الماء فانسل نحوها
على أنه منها إلى دمها أظما
فأمهلها حتى تروت عطاشها
فأرسل فيها من كنانته سهما
فخرت نحوص ذات جحش سمينة
قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما
فيا بشره إذ جرها نحو قومه
ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمى
وبات أبوهم من بشاشته أبا
لضيفهم والأم من بشرها أما
وباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم
وماغرموا غرما وقد غنموا غنما
إنها قصة مكتملة العناصر وفق فيها الشعر لتناول قضايا اجتماعية وإنسانية هامة، لا شك أن كل متأمل سيستخلص منها ما يحرك أحاسيسه،ويجعله يعود إلى أجواء البداوة التي يظل أهلها مخلصين للأعراف الأنيقة !
الطوى:الجوع
*
العانة: القطيع من حمر الوحش
الملة:نوع من الخبز الذي يعد في الرماد
المسحل:قائد القطيع
النحوص: أنثى حمار الوحش،وتقابلها الأتان بالنسبة لأنثى الحمار العادي.
القرى:طعام الضيف
كلمها:جرحها
Aucun commentaire