حديث الجمعة : لماذا رفع الله عز وجل من شأن ليلة القدر
حديث الجمعة : لماذا رفع الله عز وجل من شأن ليلة القدر
محمد شركي
يحتفل ويهتم المسلمون بشهر رمضان أيما احتفال واهتمام ، وهم أكثر احتفالا واهتماما بليلة القدر بسبب تعظيم وتشريف الله عز وجل لها كما جاء في قوله تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ))
وقوله أيضا : (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )) . ففي سورة القدر يفهم تشريفه وتعظيمه لها في قوله تعالى : (( وما أدراك ما ليلة القدر )) ، ذلك أن عبارة » وما أدراك » تقال لتفخيم الشيء وتعظيمه ،بمعنى أي شيء يدريك أو يعرفك ما هو شأن أو قدر هذه الليلة ؟ أما في آية سورة الدخان، فيفهم تعظيم ليلة القدر من وصفه سبحانه وتعالى لها بالمباركة ، والبركة زيادة فضل وخير وغير ذلك مما استأثر بعلمه الله عز وجل وهو من رفعة الشأن والقدر . ومما يدل على تعظيم تلك الليلة تكرارها مضافة إلى القدر ثلاث مرات خروجا عن مقتضى الظاهر الذي هو الإضمار أي عوض الإشارة إليها بضمير يعود عليها تكررت ، والاسم إذا ما تكرر أكثر من مرة كان ذلك إشارة إلى أهميته ، والداعي إلى إظهار ليلة القدر بدل الإضمار هو التعبير عن تعظيمها وتشريفها . ومما يدل أيضاعلى تعظيمها وتشريفها ليلة أنها تنزّل الملائكة فيها ،وهي مخلوقات نورانية مكرمة منزهة ، لا تنزل إلى الأرض إلا لعظائم الأمور كما جاء في قوله تعالى في سورة القدر وغيرها كقوله تعالى : (( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون )) ، وقوله أيضا : (( وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين )). ومن ضمن هؤلاء الملائكة جبريل أمين الوحي عليه السلام ، كل ذلك يدل على عظمة شأن تلك الليلة المباركة .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل السبب وراء كل ذلك التعظيم والتشريف ألا وهو نزول القرآن الكريم فيها ، فشأنها وقدرها وعظمتها من شأنه وقدره وعظمته ،فهو نعمة الله عز وجل المهداة إلى الخلق ، والتي لا تضاهيها نعمة حيث تفضل سبحانه وتعالى بآخر كلامه على العالمين رحمة بهم ، وذلك لإنقاذهم من سوء المصير الذي قد يواجهونه وهو خسارة الحياة المنعمة الأبدية إذا ما تنكبوا الصراط المستقيم الذي يهدي إليه القرآن الكريم ،فنعمة بهذا القدر جعل الله ليلة تكرمه بها على الخلق تفضل ألف شهر من الزمن الطبيعي ، وقد قال أهل العلم أن الألف ههنا لا تدل على وقت محدد بل أريد بها الكثرة والله أعلم . ولئن كانت ليلة القدر من حيث طبيعتها ومن حيث مدتها الزمنية كباقي الليالي فقد شرفت بنزول القرآن الكريم فيها لشرفه وعظمته وجلال قدره.
والمؤمنون يحيون قيام تلك الليلة لربهم بالقرآن الكريم يتلونه كما تلي في أول ليلة نزل فيها ، والملائكة وعلى رأسهم جبريل عليه السلام يشهدون ذلك القيام العظيم المشهود الذي يستمر حتى مطلع الفجر من تلك الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم مصداقا لقوله تعالى : (( فيها يفرق كل أمر حكيم )) ، وجاء في تفسير هذه الآية أن الأمر يتعلق بمصائر الخلق حياة وموتا وحظوظا والله تعالى أعلم . وفيها تلقي الملائكة السلام على القائمين بالقرآن تلاوة وتبركا وتدبرا ، هو أيضا نعمة من نعم رب العالمين إذ يدل سلام الملائكة على رضا الخالق سبحانه وتعالى عليهم .
ولمّا كان المؤمنون يقومون كل ليالي شهر الصيام الذي أنزل فيه القرآن، فإنهم بفضل الله تعالى يدركون فضل قيام تلك الليلة التي أخفاها الله عز وجل لحكمة يعلمها، ولا علم للخلق بها ، كما أخفى ساعة استجابة الدعاء يوم الجمعة لحكمة أيضا ، وهو إخفاء من شأنه أن يبعث في النفوس المؤمنة الحرص على إدراكها طلبا لفضلها وخيرها وأجرها العظيم الذي يعد خيرا من أجر عمل ألف شهر . وسواء كانت في العشر الأواخر من رمضان أو في أواسطه ، فإنه بقيام ليالي رمضان تدرك الليلة المباركة لا محالة بمشيئة الله تعالى . ولا يمنع ذلك من الأخذ بعين الاعتبار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتماسها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان .
وحري بمن يطلب فضل تلك الليلة المباركة ، وقد عرف سر مباركة الله عز وجل لها أن يولي كل الاهتمام لكتاب الله عز وجل ، وألا يقتصر إقباله عليه في تلك الليلة فقط أو في ليالي شهر رمضان على أبعد تقدير بل لا بد أن تنشأ بينه وبين هذا الكتاب المبارك الذي بوركت به ليلة نزوله علاقة وطيدة ، وأن يجعل هواه تبعا لما جاء في من هدي رباني ، فلا يصدر عن فعل أو قول إلا وهو مرشده وموجهه . وعرض الإنسان المؤمن نفسه على القرآن الكريم ليلة القدر خصوصا وباقي ليالي رمضان عموما يعني عرضها على التصحيح والتقويم الإجمالي السنوي لتلزم الصراط المستقيم الذي قد تكون زاغت عنه خلال الحول، ولتتجنب السبل المتفرقة عنه ، ذلك أنه كلما مرت به آية من آياته فيها أمر أو نهي أو وصف ،وجب أن يقيس مدى التزامه بذلك ، أو يقيس المسافة التي تفصله أو تقربه أو تبعده عن المطلوب منه أمرا أو نهيا في هذه الرسالة الموجه إلى العالمين فردا فردا .ويتعين أن يتعامل كل واحد مع هذه الرسالة كأنها قد أنزلت عليه خصيصا . وبانضباط الجميع لتوجيهات هذه الرسالة يحصل مجتمع المؤمنين أو أمة الإسلام التي رفع الله تعالى من قدرها بالقرآن الكريم كما رفع من قدر ليلة نزوله، وقد قال فيهم جل شأنه : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) ، كما قال سبحانه : (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ))
إن حيازة شرف الخيرية والشهود تفضلا على الناس إنما يكون بالتخلق بخلق القرآن الكريم الذي تصب آياته البيّنات في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما به يتحقق إحقاق الحق الذي به يستقيم أمر الخلق ، ويبطل الباطل الذي به يفسد أمرهم.
ويجدر بالمؤمنين أن يعطوا ليلة القدر وما نزل فيها ما يستحقان من إجلال وتقدير وألا يقتصر ذلك على أقوال دون أفعال . وإذا كان السعي الحسن له من الأجر في هذه الليلة ما يصل إلى حد إسقاط ما تقدم من ذنب عمن قامها إخلاصا لله تعالى وإيمانا واحتسابا ، وهو أعظم جائزة يعطاها الإنسان ، فإن سوء السعي فيها من أعظم الذنب ، ويكفي ألا يستفيد الإنسان من فرصة إسقاط ما تقدم من ذنبه ليكون من الخاسرين ، فما باله إذا سولت له نفسه إتيان الموبقات في هذه الليلة المباركة من قبيل تعاطي السحر والشعوذة من أجل إيذاء الغير ظلما وعدوانا أو النيل منه أو مخادعته ، وهو أمر يلاحظ مع شديد الأسف حيث ينشط المشعوذون والسحرة والدجالون في هذه الليلة المباركة ، ويعبثون بعقول السذج والمغفلين من العوام ، فيصرفونهم عن إحيائها مع كتاب الله عز وجل إلى الدجل والشعوذة والسحر وهو من الكبائر .
ومما يصرف به الشيطان لعنه الله الناس عن إحياء الليلة المباركة أيضا وساعاتها محدودة تنتهي عند مطلع الفجر كما جاء في كتاب الله عز وجل الاشتغال بزيارة المقابر وإشعال الشموع فوقها بناء على خرافات وأكاذيب يلقيها بين الناس كذابون يفترون الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله . والأجدر بمن يضحي بوقت ليلة القدر الثمين في زيارة المقابر علما بأن زيارتها تكون للاعتبار والترحم على أموات المسلمين أن يلزم بيت من بيوت الله عز وجل أو يلزم بيته في ظرف هذه الجائحة يعتبر بقراءة أو سماع القرآن الكريم وهو أكبر واعظ ، ويترحم حيث هو على أمواته ، الذين لا حاجة لهم بأضواء الشموع الباهتة ، وقد نوّر الله عز وجل قبول المتقين منه بنوره الساطع الذي يخطف الأبصار.
ولا يجدر بالمؤمن والمؤمنة أن يصرفا وقتا غاليا في الحركة والتنقل بين بيوت الله عز وجل راجلين أو راكبين بذريعة الرغبة في تحصيل الأجر من خلال كثرة التردد على أكبر عدد من المساجد، ذلك أن مسجدا واحدا يسعهم ، ويضمن لهم مع إخلاصهم في إحياء الليلة لله تعالى أجرها كاملا غير منقوص ، أما التنقل بين المساجد فهو من وحي التكاسل والتراخي في القيام ، وفيه مضيعة للوقت .
ولا يليق ببيوت الله عز وجل في هذه الليلة المباركة التي يشهدها الروح والملائكة أن تتحول إلى مطاعم تقدم فيها صحون الكسكس أو كؤوس الشاي مع أنواع الحلويات ، فيكون إقبال كثير من الناس عليها بغرض الأكل والشرب لا بغرض القيام وتدبر ما يتلى من آيات الذكر الحكيم .
ومناسبة حديث هذه الجمعة هو التذكير بما تستوجبه ليلة القدر من تعظيم وإجلال ، وما يستوجبه كتاب الله عز وجل الذي به شرفت من تقدير وإقبال عليه ترتيلا ،وتبركا، وتدبرا وخشوعا ، وتخلقا ، والتنبيه إلى ما قد طرأ على سلوك بعض الناس من بدع في هذه الليلة المباركة من خلال إهدار وقتها الذي لا يقدر بثمن في الأوهام والخرافات والخزعبلات وما حرّم الله عز وجل وما أمر بإنكاره .
اللهم إنا نسألك أن تبلغنا ليلة القدر ، وأن تعيننا وتوفقنا لإحيائها كما تحب وترضى ، وأن تعيننا على ذلك فأنت نعم المعين ، وأن تتفضل علينا بأجرها فضلا منك ونعمة ، وترحم فيها أمواتنا ، وتشفي فيها مرضانا ، وترفع بالذي باركتها به عنا الوباء الخبيث الذي حلّ بالخلق ، ولا تجعل فجرها يطلع إلا وقد أذهبت عنا رجس هذه الجائحة بجودك ورحمتك وعطفك ،فأنت ربنا العظيم المنان، وخالقنا الغفور الرحيم، نواصينا بيدك ، وقلوبنا بين إصبعيك تقلبها كيف تشاء . اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما يفعله السفهاء منا ، ولا تكلنا إلى أنفسنا ، اللهم وزكّها أنت خير من زكاها، أنت سيدها ومولاها . اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا ، وصدقاتنا ، وشفع فينا الصيام والقيام يوم يعز الشفعاء ونحن في المحشر بين يديك نرجو رحمتك ، ونستجير من عذابك ، اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire