الحريــة في منظور الإسلام
الحريــة في منظور الإسلام
الدكتور عبد القادر بِطار*
الحرية كلمة عظيمة الشأن، جليلة القَدْرِ، خالدة الذكر، وهي سر وجود الإنسان في الأرض، وأساس سعادته في السماء، ناضل من أجلها الأنبياء، والمصلحون، ورجال الفكر، والأدب والسياسة، عبر مختلف الأزمنة والعصور.
الحرية هي الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان، وهي الأصل الذي يتقاسمه جميع بني آدم، مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وأديانهم، وهي صفة ملازمة لماهية الإنسان، بها يتميز ويسمو عن سائر الكائنات.
فإذا كان الإنسان يشترك مع غيره من الكائنات الأخرى في صفتي الوجود والحياة، فإنه يتميز عنها، بكونه كائنا حراً مريداً مختاراً. وبمقتضى هذه الحرية التي فُطِر عليها النوع الإنساني، وهذه الإرادة الحرة، اختار الإنسان أمانة تبليغ تعاليم السماء، إلى بني جنسه على صعيد كوكب الأرض.
وهذه المسؤولية الدينية والأخلاقية التي أنيطت بها الأمانة في أسمى معانيها هي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ [الأحزاب:72]
الأمانة هنا تعني تعاليم الدين وقيمه السمحة، فقد تحمل الإنسان أمانة تبليغ هذه التعاليم إلى بني جنسه بمحض إرادته وحريته واختياره وقوة استعداده، لأنَّ عرض الأمانة في الآية الكريمة عرض إشفاق واختيار، لا عرض إلزام واضطرار.
كلمة الحرية في لغتنا العربية الجميلة، تحمل عدة معان شريفة، تتصل جميعُها بكل ما هو جميل وحسن وشريف، اتصالَ الناظر بالسواد، والعقل بالفؤاد، ومن أسمى معانيها أنها ضد العبودية لغير الله عز وجَلَّ، لأنَّ العبودية لله عز وجَلَّ هي قِمَّةُ الحرية للبشرية، وأساس السعادة الأبدية.
كما تطلق الحرية، هذه الكلمة الجميلة على الإنسان الشريف، وعلى الجيد والخالص من كل شيء، وما برئ من العيب والنقص، وعلى الفعل الحسن أيضا.
قال طرفة بن العبد:
لا يَكُنْ حبَّكِ دَاءً قَاتِلاً * لَيْسَ هَذَا مِنْكِ، مَاوِيَّ، بِحُرّ
الحرية في منظور الإسلام:
اعتبر الإسلام الحرية الفردية أساسا لجميع ما شرعه للناس من أحكام وتعاليم وسنن، كما أقر الشرع الحكيم حق الكرامة، وحق الحرية، وحق التفضيل، لجميع بني الإنسان، مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وأديانهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]
كما اعتبر الكتاب العزيز المساواة بين جميع بني آدم في أصل الحقوق والواجبات حقا طبيعيا مستحقا بمقتضى الفطرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
يقول الشيخ محمد أبو زهرة (ت1394هـ) في تقريب مضامين هاتين الآيتين الكريمتين: « بهذه الروح السامية فرض القرآن من الحقوق الإنسانية للمخالف بمقدار ما فرض للموافق، أيا كان لون المخالفين، وأيا كان دينهم، وأيا كان جنسهم. » (أصول الفقه، ص:97، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة).
الحرية حق طبيعي لجميع بني الإنسان:
لقد اتجه الإسلام في أحكامه وتشريعاته إلى القضاء على الرِّق في مجتمع جاهلي، يجعل من الرِّق أساسا لتدبير شؤونه الاقتصادية والاجتماعية. فشرع أحكاما وتشريعات عديدة تتصل اتصالا وثيقا بتضييق دائرة الرق من جهة، وتوسيع دائرة العتق والحرية من جهة أخرى.
كما ضمنت هذه الأحكام للرقيق حقوقا كثيرة لم يكن يتمتع بها من قبل، ومن أّجَلِّ تلك الحقوق وأعظمها الحقوق المدنية، التي لم يكن لها أي معنى في الأعراف الجاهلية بالنسبة للرقيق.
فقد كانت القاعدة العامة قبل الإسلام -كما يذكر الدكتور علي عبد الواحد وافي- « أن الرق مناف لجميع الحقوق المدنية، فكانا كالنقيضين لا يجتمعان. فلم يكن الرقيق أهلا لإجراء أي عقد، ولا لتحمل أي التزام، ولا لتملك عقار أو منقول، وكل ما كان يقع في يده عن طريق ميراث أو وصية أو هبة أو غير ذلك كان ينقل بطريق آلي … أما الإسلام فقد اعترف بإنسانية الرقيق، ومنحه طائفة من أهم الحقوق المدنية التي ينعم بها الأحرار… »(حقوق الإنسان في الإسلام، ص: 164 نهضة مصر للطباعة والنشر الطبعة التاسعة.2008).
وفي كتب الفقه الإسلامي مادة علمية غنية حول أحكام العتق، وهو من أفضل الأعمال، وأعظم القربات نفاذاً، يشهد لنفوذه الكتاب والسنة والإجماع، كما يقول الإمام جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس (ت616هـ) (عِقْدُ الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، 3/1184 تحقيق د. حميد لحمر، طبعة دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1423ه/2003مـ).
مبدأ الحرية الدينية في الإسلام:
أقام الإسلام أحكامه وتشريعاته على مبادئ إنسانية سامية، تضمن لغير المسلمين من أهل الكتاب التمتع بكامل حقوقهم الدينية والمدنية. فقد تعايش غير المسلمين مع المسلمين، وأسهموا إلى جانب المسلمين في تطوير العلوم والصناعات والحضارات الإنسانية.
فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس أول دولة في الإسلام، وثيقة نبوية خالدة، وهي بمثابة دستور تضمن مبادئ دولة الحق والعدل والرحمة، كما أقر قيما إنسانية عالية، وتسامحا دينيا كريما مع غير المسلمين من أهل الكتاب.
من بين تلك المبادئ السامية، التي هي بمثابة إعلان عالمي لحقوق غير المسلمين في المجتمعات المسلمة، التي أقرها الإسلام، كما جاء في سيرة ابن هشام: » أن لغير المسلمين دينهم وأموالهم، لا يجبرون على دين المسلمين، ولا تؤخذ منهم أموالهم ». (سيرة ابن هشام، تأليف أبي محمد عبد الملك بن هشام البصري:1/ 143 تحقيق عمر عبد السلام تدمري، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت » الطبعة الثالثة: 1410هـ/1990م).
تقوم الحريـة الدينية في الإسلام على أسس عقدية راسخة، هي أسمى ما يمكن أن يصل إليه أي تشريع في مجال حرية الأديان والمعتقدات، في عصرنا الحاضر، منها.
أولا: عدم إرغام أحد من أهل الكتاب على ترك دينه واعتناق الإسلام:
وهذا المبدأ مقرر في الكتاب العزيز، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة:256] وقوله أيضا: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:99]
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرحمة المهداة، حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الحق عز وجَلَّ أن ذلك مرتبط بمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى من ناحية، وبإرادة الإنسان وكسبه واختياره من ناحية أخرى.
ثانيا: مبدأ الحوار الحضاري والتسامح الديني:
وهو مبدأ جليٌّ وراسخ في الحضارة الإسلامية، أقره القرآن الكريم في أكثر من موضع، وبينت السنة المطهرة آدابه وقِيمَّه. كما مارسه المسلمون مع غيرهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبر مختلف العصور إلى يوم الناس هذا.
في تاريخ المغرب الـمُشْرِق، تَعايَشَ علماء من أتباع الأديان الأخرى، مع علماء الإسلام، حتى إن بعض العلماء في العصر الحاضر اقتبسوا من تراث غير المسلمين في الدفاع عن أخطر قضية وأقدسها، وهي إثبات وجود الله عز وجَلَّ.
فقد ألف الحكيم الفيلسوف موسى بن ميمون، القرطبي الأندلسي اليهودي (ت603هـ)، كتابه » دلالة الحائرين » باللغة العربية وبالخط العبري، حيث بسط القول في جزئه الثاني عن وجود الله ووحدانيته وتنزهه، وما يتصل بالذات المقدسة من وجهة نظر عبرية.
وقد استفاد هذا الفيلسوف الكبير من علماء الإسلام وفلاسفته، وأخذ عنهم، وتأثر بهم غاية التأثر، من أمثال: ابن الأفلح، وأبي الوليد بن رشد وابن طفيل.
وأكثر المقالات الإلهية والفسلفية التي أثارها موسى بن ميمون في كتابه »دلالة الحائرين » ليست سوى صدى لآراء الفلاسفة المسلمين، وعلماء الكلام، ولاسيما الأشاعرة والمعتزلة.
لقد أعجب بعض علماء الإسلام بالمقدمات العقلية التي اعتمدها موسى بن ميمون وأودعها في الجزء الثاني من كتابه « دلالة الحائرين » وعددها خمس وعشرون مقدمة، تتعلق بإثبات وجود الله عز وجل، ووحدانيته، وتنزهه سبحانه وتعالى من أن يكون جسما أو قوة في جسم.
حتى إن بعض المراجع العربية تشير إلى إسلام موسى بن ميمون على الرغم من ضعف هذه الرواية. (موسى بن ميمون حياته ومصنفاته، تأليف الدكتور إسرائيل ولفنسون »أبو ذئب »، مع مقدمة لفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق، ص: 30، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى: 1426هـ/2005م.)
وقد شرح تلك المقدمات العقلية، المتعلقة بإثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسما أو قوة في جسم، الحكيم البارع والرئيس أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التبريزي (ت618هـ) أحد رجال الفكر في منتصف القرن السابع الهجري، وأشهر تلامذة الإمام أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسن فخر الدين الرازي (ت 606هـ). كما وضع لهذا الشرح مقدمة مهمة العلامة الكبير الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت1371ه/1952مـ) وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية، وقد طبع هذا الكتاب في مصر على يد محمد نجيب الخانجي.
نستحضر في هذا السياق أيضا شخصية يهودية مرموقة في القرن السادس الهجري، تأثرت بأخلاق المسلمين، ودخلت في دين الله، ويتعلق الأمر بالفيلسوف والطبيب أبي البركات هبة الله بن علي بن مَلْكا البغدادي، الملقب بأوحد الزمان، (ت547هـ) صاحب كتاب: » الـمُعْتَبَر في الحكمة والعِبَر ».
وقد استفاد الخطاب السلفي الذي شيده تقي الدين بن تيمية (ت728هـ) في نقد نظرية التحديد المنطقي من آراء أبي البركات البغدادي، في نظرية التصور التي اتجه فيها اتجاها اسميا واقعيا.
فقد اعتبر أبو البركات البغدادي « الحدود المنطقية حدوداً بحسب الأسماء، والأسماء أسماء بحسب الحدود، بل ذهب إلى القول: إن الأسامي إنما هي بحسب المعاني، والمعاني معان لها وبحسبها، والمعاني فهي للموجودات… » (المعتبر في الحكمة والعبر،1/110 دار ومكتبة بيبليون، جبيل –لبنان، 2012.).
وقد اعتبر ابن تيمية أبا البركات البغدادي أكثر توفيقا من أرسطو في بعض الآراء الفلسفية، في أكثر من موضع في كتابه الرد على المنطقيين. (الرد على المنطقيين، تأليف تقي الدين بن تيمية، تقديم وضبط وتعليق، الدكتور رفيق العجم، الجزء الأول:244، الجزء الثاني:269، دار الفكر اللبناني بيروت، الطبعة الأولى: 1993).
ثالثا: مبدأ حريـــة التفكير والرأي:
وهما حَقَّانِ ملازمان لأحوال الإنسان والعمران، ومبدآن راسخان في الحضارة الإسلامية، لهما ارتباط وثيق بقدسية العقل ومنزلته في الإسلام، وبمفهوم العلم عند المسلمين الذي تُرَدُّ إليه جميع الفضائل الإنسانية.
لقد ذم الإسلام التقليد، واعتبره غير لائق بالإنسان، الذي يمتلك عقلا من مقتضياته حرية النقد والتفكير والتعبير.
والتقليد في مجال العقائد سلوك ليس له مزية سوى كثرة العدد، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي (ت333هـ) (كتاب التوحيد ص،3 تحقيق الدكتور فتح الله خليف، طبعة دار المشرق، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية).
ومعضلة التقليد واجهت الأنبياء والمرسلين، في دعوتهم إلى التوحيد المحرر للإنسان، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23]
كما أن مبدأ حرية التفكير والتعبير عرف اختلالا في فترة من فترات التاريخ، بسبب التعصب المذهبي، والجمود الفكري، والجهل العلمي، حيث امتد هذا العداء للعلم والعلماء إلى بعض العلوم التنويرية والسلوكية، كعلم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف.
ومن جرائم العلم في الأندلس ما قام به أبو عامر، حاجب هشام بن المؤيد بالله، من إحراق جميع كتب الحكمة والمنطق والفلك، وهي واقعة أليمةفي تاريخ العلم، أرَّخَ لها صاعد الأندلسي (ت462هـ) بحرقة شديدة، فقال: »… وولي بعده ابنه هشام المؤيد بالله، وهو يومئذ غلام لم يحتلم بعد، فتغلب على تدبير ملكه بالأندلس حاجبه أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر المعافري القحطاني، وعمد أول تغلبه عليه إلى خزائن أبيه الحَكَم، الجامعة للكتب المذكورة وغيرها وأبرز ما فيها، من ضروب التواليف بمحضر خواصه … فأمر بإحراقها وإفسادها، فأحرق بعضها، وطرح بعضها في آبار القصر، وهيَّل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير، وفعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الخليفة الحكم عندهم، إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم، مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل مَنْ قرأها متهما عندهم بالخروج عن الملة، مظنونا به الإلحاد في الشريعة. (طبقات الأمم، تأليف صاعد الأندلسي،ص:163، تحقيق حياة العيد بوعلوان، دار الطلعة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى1975).
وقد تطوع للرد على هذه القضايا الزائفة، جمهور العلماء الفضلاء الراسخين في العلم، من مختلف التخصصات العلمية.
فقد تولى الإمام المجدد أبو الحسن الأشعري (ت324هـ) تفكيك دعاوى الخطاب الحشوي، وبيان فساد مقالات الحشوية، وهو -رحمه الله- من أوائل العلماء الذين دافعوا عن علم الكلام الإسلامي، باعتباره علما شرعيا مقصوده حماية العقائد الإيمانية للأمة، فألف رسالة لطيفة سماها: »رسالة استحسان الخوض في علم الكلام » افتتحها بقوله: » أما بعد، فإن طائفة من الناس جعلوا الجهلَ رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد، وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والأوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عز وجل بدعة وضلالة، وقالوا: لو كان ذلك هدى ورشاداً لتكلم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه وأصحابه… » (رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، ص:2 دار الحديث الكتانية، المصورة الأولى 1433هـ/2012م).
وقد بيَّن الإمام أبو الحسن الأشعري بحجج عقلية ومنطقية تهافت هذه الدعاوى الزائفة، معتمداً منهجاً جدلياً، من تجلياته: « قلب السؤال عليهم، بأن يُقال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل أيضا: إنه مَنْ بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبدعا ضالا، فقد لزمكم أن تكونوا مبدعة ضلالا، إذ قد تكلمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضللتم مَنْ لم يضلله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ». (رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، ص:2).
أما علم المنطق، باعتباره صناعة نظرية تساعد على إدراك الحقائق التصورية والتصديقية، فقد اعتبره علماء الإسلام – إلا مَنْ شَذَّ منهم- من جملة العلوم العقلية النافعة في العمران، وأنه امتداد للمنطق الفطري الملازم لطبيعة الإنسان.
يقول ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) في معرض رده على المعارضين لعلم المنطق: » فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا ؟ قيل له هذا العلم مستقر في نفس كل ذي لُبٍّ، فالذهن الذكيُّ واصلٌ بما مكنه الله تعالى فيه من سعة الفهم إلى فائدة هذا العلم، والجاهل متسكع كالأعمى حتى يُنبه عليه ». (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، لابن حزم الأندلسي. ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي 4/94 تحقيق الدكتور إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،الطبعة الأولى: 1983) .
أما التصوف فهو تجربة روحية، وهو من جملة العلوم الشرعية، ومقصوده: السمو بأخلاق المسلم في علاقته بربه ونفسه ومحيطه، بحيث لا يكون منه شر تجاه أحد من الناس، وهو العلم الذي يُظهر الجانب الجمالي في تدين المسلمين.
يقول العلامة سيدي أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني (ت1224هـ) -رحمه الله-: »علم التصوف هو سيد العلوم ورئيسها، ولباب الشريعة وأساسها، وكيف لا وهو تفسير لمقام الإحسان، الذي هو مقام الشهود والعيان، كما أن علم الكلام تفسير لمقام الإيمان، وعلم الفقه تفسير لمقام الإسلام.( معراج التشوف إلى حقائق التصوف، تأليف العلامة سيدي أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، ص:25، الطبعة الأولى:1402هـ/1982م).
أما الفلسفة فهي مجال للتفكير والتأمل الحر، وهي في عمقها لا تتعارض مع جوهر الدين وقيمه السمحة.
وصفوة القول: إن الحريـة في الإسلام لها قدسيتها وحرمتها، وهي حق من الحقوق الملازمة لهوية الإنسان، وهي من جملة الضروريات التي اتجهت الشريعة الإسلامية إلى حفظها وحمايتها.
وبفضل حرية الرأي والتفكير والاجتهاد والتجديد، ازدهرت العلوم في الحضارة الإسلامية، وامتدت بظلالها الوارفة على الحضارات الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، ونفعتها أجَلَّ النفع.
* – الدكتور عبد القادر بِطار، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي في جامعة محمد الأول بوجدة.
Aucun commentaire