مقنعة السائل عن المرض الهائل:مكاشفة سوسيوثقافية الجزء(2)
مقنعة السائل عن المرض الهائل:مكاشفة سوسيوثقافية الجزء(2)
بقلم:د خالد عيادي
وفيما يخص المقالة، قيد الكشف والتأمل، فهي من الناحية التاريخية ، وثيقة علمية هامة،ودراسة طبية طيبة،عالجت معظم ما يتعلق بالطاعون الجارف الذي عم بلاد الأندلس، وسائر دول الحوض المتوسط مع مستهل القرن الثامن الهجري. وقد اختار لها « ابن الخطيب »هذا العنوان المثير للمساءلة و الإعجاب:والعنوان كما يتضح حمال أوجه لغوية، وتلك الأوجه تتماهى و خطورة المرض، وما يجلبه من توجس وترقب ، وشدة وفزع .
و إذا رجعنا إلى مادة « ه ول » في لسان العرب لابن منظور، تبين أن المؤلف قد اختار هذه الصفة عن وعي تام بمدى صعوبة الوضع الصحي للمجتمع. فقد جاء في لسان العرب أن : « الهول المخافة من الأمر، لا يدري ما يهجم عليه منه، كهول الليل وهول البحر » . وكذلك مرض الطاعون، فخطره غير مرتقب ولا مأمون، ولا يدري أحد أيان ولا أين يهجم، وهذا معنى دقيق.ونحن في هذا العصر مع هذا الوباء في غير مأمن، رغم الحيطة والحذر، ذلك أن هذه الطواعين مردها إلى « فيروسات » مجهرية يصعب تفاديها ،وفي صفة « الهائل » وعي تام بما كان حاصلا، لكن العلم المتداول يومئذ لم يكن يسمح إلا بإصدار أحكام انطباعية و مخيفة.و يضيف ابن منظور: »وهالني الأمر…أفزعني… الهول وهو الخوف والأمر الشديد « . وكذلك هو الحال مع مثل هذه الأوبئة الجالبة لأنواع من الروع و الفزع. « ويضيف أيضا: »هيل السكران يهال إذا رأى تهاويل في سكره فيفزع لها ».وكأنها إشارة من ابن الخطيب لما تحدثه الحمى، الناتجة عن الطاعون، في صاحبها من تهاويل مفزعة، وهلوسات منكرة.
للعنوان ظلال نفسية وأخرى اجتماعية وثقافية. ولما كان العنوان صادما، وهو في اعتبارنا أمر مقصود، كان التأثير على النفسيات غالبا .إذ ليس يخفى أننا في أواسط القرن الثامن الهجري،حيث يستعد العالم الإسلامي في الدخول في ظلمات عصور الانحطاط الحضارية. وبناء على هذا، لك أن تتصور معي موقف العوام من جدية الموقف، بالنظر إلى اعتقاداتهم القاصرة، و تصوراتهم الفاسدة، في أمر القضاء والقدر. ومما يؤكد هذا الوجه: اختيار لفظة « مقنعة » في العنوان، وفيه إشارة إلى فشو اللامبالاة، وعدم الاكتراث، بدواعي الجهل.وهنا يقف لسان الدين ابن الخطيب ليعطينا فكرة من صلب الواقع، وهو ينتقد بحرارة ما يجلبه الجاهل، لمفهوم « الاستعداد » أي « ضعف المناعة » في أعرافنا الطبية المعاصرة ، على نفسه من الهلاك قال: »والجهل بهذا المعنى »أي الاستعداد » غلط الناس، وعدد مصارعهم، ولله در القائل من السريع »:
« ما يَبلغ الأعداء من جاهل ***ما يُبلغ الجاهل من نفسه »([1])
فالمجتمع، بشهادة المؤلف وهو المؤرخ اليقظ المنتبه الحساس، يومئذ، وكما في عصرنا بنسبة قد تتفاوت قليلا، في حاجة إلى إقناع ثم إقناع بخطورة الوضع.تماما كما تفعل أجهزة الإعلام في عصرنا،وذلك أن الطاعون هو بالفعل مرض خفي الأسباب، احتيج معه إلى إقناع الخواص فضلا عن العوام ، وهو حقا مرض « هائل » جمع بين الاستغراق المجالي و الجغرافي والبشري..
………………………………………………………………………………………………………………….
[1] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- لسان الدين بن الخطيب- تحقيق وتقديم- حياة قارة.
2 Comments
إضاءات ماتعة كما عودنا الدكتور خالد.
بالمزيد إم شاء الله!
السلام عليكم ورحمة الله.
أجد مشكله في إرسال تعليق، المرجو الوضيح وشكرا