جائحة كورونا مسبار حجم الوعي في المجتمعات البشرية
جائحة كورونا مسبار حجم الوعي في المجتمعات البشرية
محمد شركي
الوعي لغة هو الانتباه من غفلة أو نوم أو إغماء ، ويطلق أيضا على الفهم وسلامة الإدراك ، وفي اصطلاح علم النفس هو شعور الإنسان بذاته وإدراكها وإدراك ما يحيط به ، ويقابله اللاوعي وهو مكمون النفس البشرية من رغبات وميول ومشاعر لا تفصح عن نفسها ، أو تكون خارج دائرة الوعي .
ويطلق الوعي عادة على قدر معين من المعرفة تجعل تصرفات وسلوكات ومواقف الإنسان محمودة في مجتمعه ومنسجمة مع قوانينه وأعرافه . ويتوقف تطور المجتمعات البشرية على مقدار أرصدة شعوبها من الوعي الذي هو عند التأمل عبارة عن عملة صعبة.
ومع أنه لا يغيب عادة حديث الناس في مختلف المجتمعات عن هذا الوعي إلا أن الانتباه إليه يكون أكثر عندما تدعو الحاجة إليه بسبب حوادث من شأنها أن تكون مهددة لحياتهم ، وتقتضي أن يقع إجماع والتزام منهم على مواجهتها بالشكل الذي يحد أو يقضي على مخاطرها .
فحوادث السير على سبيل المثال لا الحصر ، والتي تقض مضجع البشرية في عموم المعمور ، لا ينقطع الناس عن الحديث عما يقلل منها ويجنبهم ويلاتها حتى أنهم أصبحوا يطلقون عليها عبارة » حرب الطرق « ، وهي بالفعل حرب بالمعنى الحقيقي لما تزهقه من أرواح يوميا . وحديث الناس هذا إنما يتعلق بالوعي بمخاطر هذه الآفة ، وهو ما يفرض عليهم سلوكات معينة أثناء ركوب ما يركبون من مراكب المختلفة الأحجام في الطرق والشوارع . وما قيل عن حوادث السير يقال عما يهدد البيئة الحاضنة لهم من مخاطر تعتبر تهديدا مباشرا لحياتهم .
وكحوادث السير ومخاطر تدمير البيئة الأمراض على اختلاف أنواعها والأوبئة الواسعة الانتشار بسبب العدوى ، فالناس يستحضرون الوعي بخطورتها أثناء أحاديثهم عنها لأن غياب هذا الوعي عندهم يلعب دورا كبيرا في فتكها بهم .
فإذا كان غياب الوعي في ركوب المركبات يتجلى من خلال سلوكات معينة كالإفراط في السرعة أوعدم احترام علامات المرور أوالسياقة في حال السكر أوعدم الاحتياط في إصلاح المركبات … وما شابه ذلك ، و إذا كان أيضاغياب الوعي في التعامل مع البيئة يتجلى في تدميرها يشكل أو آخر بما يتسبب في اختلال توازنها ، فإن غياب الوعي في صحة وسلامة الأبدان يتجلى من خلال تهور الإنسان في صيانتها إما بسوء تغذية أو بتعاطي المخدرات والمسكرات أو بترك الوقاية والعلاج … وغير ذلك مما يعرضها للخطر .
ومع حلول جائحة كورونا، وهي وباء فتاك حصد العديد من الأرواح البشرية في عموم المعمور في ظرف قياسي بلغت درجة وعي البشرية بخطورته أعلى ما يمكن أن تبلغه ، وانعكس ذلك على سلوكات البشر الذين اعتمدوا أقصى ما يمكنهم من وقاية تمثلت في الحجر ، ولبس الأقنعة الواقية ، واعتماد المعقمات ، ووسائل النظافة ، وترك الاختلاط فيما بينهم ، والإحجام عن الاحتكاك المباشر بينهم … إلى غير ذلك من السلوكات التي غيرت مجرى حياتهم الذي كان سائدا قبل حلول الجائحة .
واختلف وعي الأمم في التعامل مع هذه الجائحة حسب أرصدتها منه ، وهي أرصدة تعود إلى قدر معارفهم . ومع أن جميع دول العالم فرضت إجراءات الوقاية منها بقوة القانون بما في ذلك استعمال الإكراه البدني لفرض الحجر على الناس ، فإن وعي هؤلاء يبقى هو الإجراء الفعال لمواجهة مخاطر الجائحة .
وعلى قدر هذا الوعي اختلف تعامل الشعوب مع الحجر ، ومع باقي الاحتياطات التي فرضتها عليهم دولهم ، ففي حال ضعف هذا الوعي لدى بعض الشعوب اعتبر فرض الحجر عليها مساسا بحريتها ،وهو ما لم يفسر كذلك لدى شعوب أخرى لديها وعي أقوى .
ومع أن الشعوب الإسلامية لديها رصيد من هذا الوعي تنهله من دينها إلا أنها مع شديد الأسف وبسبب إعراضها عنه لم تكن السباقة إلى إجراء الحجر عند نزول الجائحة بل كان غيرها السباق إلى ذلك وكانت هي مقلدة له . وبالرغم من حصول القناعة التامة لدى عموم شعوب المعمور بجدوى إجراء الحجر وما يستتبعه من إجراءات احترازية أخرى ،فلا زال في الشعوب الإسلامية مع شديد الأسف من لم يصل درجة الوعي بخطورة الجائحة ، ويتجلى ذلك من خلال تصرفات وسلوكات تنم عن التهور والمجازفة بالأرواح ، ولا زال الكثير من أفرادها لم يقتنعوا أو لم يصدقوا أن هذه الجائحة خطر عليهم . ولا يمكن تفسير السلوكات الخارقة لإجراء الحجر وغيرها من الإجراءات لديهم من قبيل التجمهر والاحتكاك في أماكن التبضع وغيرها من الأماكن الأخرى التي تقضى فيها المآرب … ومن قبيل رفض التقنع بالأقنعة الواقية والخروج من الحجر دون أسباب ضرورية … إلى غير ذلك من السلوكات إلا بهزالة أرصدتهم من الوعي.
ولقد كانت الجائحة مسبارا حقيقيا لقياس الوعي في الأمم ، ويمكن إعادة تصنيف الأمم في سلم التطور والتقدم على ضوء ما كشفت عنه الجائحة من أرصدة الوعي لديها إذ لم يغن التطور المادي والتكنولوجي عن هذه الأرصدة شيئا ، ولم يغن كبر الحواضر العالمية وما فيها من رفاهية عيش ومن تعقيدات حياة عنها أيضا ،لأن عدد الإصابات وعدد الوفيات أصبح مؤشرا على حضور أو غياب الوعي.
والوعي الحقيقي هو الالتفات إلى قيمة حياة الإنسان المستخلف في الأرض كما أراد له ذلك خالقه سبحانه وتعالى ، وليس الوعي هو الاستباق في مجال التسلح ، واستعراض القوة العسكرية، وإشعال الحروب المدمر للإنسان والعمران والبيئة ،وتقسيم البشر إلى أقوياء وضعفاء وأثرياء وفقراء ، وأحرار يتحركون في كل بقاع العالم كما يحبون ، وسجناء لا يمكنهم مغادرة أوطانهم إلا بشق الأنفس بسبب تعقيدات إجراءات وقوانين التنقل والحركة .
ولقد سبرت جائحة كورونا وعي الأمم المصنفة في أعلى سلم التقدم، فكانت النتيجة هي الكشف عن افتقارها إلى أرصدة الوعي التي لم تصل درجة أرصدتها من العملة المادية الصعبة، فلم يسعف بعضها بعضا حتى بأقنعة واقية من انتشار الوباء ، وهي التي كانت تفخر بانضوائها تحت اتحادات اقتصادية عالمية قوية ، كما هدد زعيم أقوى دولة ماديا وعسكريا في العالم بمنع ما كانت تمنحه بلاده لمنظمة الصحة العالمية ، وذلك في عز انتشار الوباء وحصده للأرواح البشرية ،بينما كانت مواقف بعض الدول الضعيفة مشرفة حيث قدمت ما استطاعت من دعم لغيرها ،فعكس ذلك ما لديها من أرصدة الوعي التي افتقرت إليها دول عظمى .
وأمام هذا الوضع لا بد أن يعاد النظر في تصنيف الدول حسب أرصدتها من الوعي لا حسب أرصدتها من المادة ، فهل سيحصل ذلك؟ أم أن العالم سيعود إلى إهمال وتجاهل الوعي من جديد بعد رحيل الجائحة ؟ ذلك ما سيثبتهه مستقبل الأيام ، وهو ما توقعه كثير من المفكرين والفلاسفة والخبراء . وما أشد بؤس العالم إذا ما عاد من جديد إلى تجاهل القيمة الحقيقية للوعي ، وما أشقى الإنسان في العالم إذا فرط في وعيه ، وصار يفعل بنفسه ما يفعل العاقل بعدوه ، ولقد فعلت الجائحة وهي عدو شرس للبشرية بها ما فعلت لضعف أرصدتها من الوعي بدءا بالذين تشير إليهم الأصابع من علماء المخابر الجرثومية ، ومرورا بغيرهم ممن دفعوا الثمن غاليا ،وانتهاء بمن تنتهي إليهم الأمور وقد عجزوا عن مواجهة هذا العدو بالرغم مما لديهم من ترسانات حربية وأسلحة دمار شامل لم تنفع مع شديد الأسف في مواجهة هذا العدو وهي توجه للقضاء على هذه البشرية التي يعتبر هلاك فرد واحد منها بمثابة هلاكها كلها كما ينص على ذلك القرآن الكريم مصدر قمة الوعي التي يمكن أن يصل إليها البشر .
Aucun commentaire