Home»National»رحلة المرارة

رحلة المرارة

0
Shares
PinterestGoogle+

محمد شحلال
تعتبر باديتنا من الربوع التي يتوقف فيها العيش على عنصرين أساسيين: الزراعة المعيشية،وتربية الماشية،خاصة قطعان الماعز التي تتأقلم مع التضاريس والمناخ القاسيين.
وهكذا،فإن السواد الأعظم من الشباب هناك،كان مجبرا على ممارسة الرعي الذي يندرج في خانة البطالة المقنعة.
لقد كان على راعي الغنم أن يفني سنوات من عمره وراء القطيع دون مقابل،مما يضطره لتعلم مصنوعات محلية، يتولى أبوه تصريفها في السوق الأسبوعي مع خصم الضريبة على عائدات زهيدة !
كان المسكين يحتاج إلى ادخار طويل الأمد لهذه العائدات الزهيدة حتى يتمكن من توفير شراء عمامة ،أو نعل أو قطعة لباس تحل محل بقايا أسمال يسترها جلباب صوفي.
وإذا كان هذا المسار قد عمر طويلا،فإن بعض الشباب قد تمردوا عليه، بعدما ترعرعت شواربهم وهم لا يعرفون النقود إلا بالسماع في كثير من الحالات.
لقد كان المتمردون من هؤلاء يتوجهون رأسا نحو قبيلة،،الحديين،،التي تشتهر بتربية قطعان الماعز،وهناك يمتهنون الرعي مقابل عائدات عينية متوافق بشأنها،وهي عبارة عن مجموعة من صغار الماعز يطلق عليها،،إعلاش،،فضلا عن بعض ،،اللوجيستيك،،المتمثل في جلباب صوفي غير مصنف، وزوج من نعال صالحة لكل التضاريس ،ثم عمامة أو ما يقوم مقامها ،على ألا تقل صلاحية هذا العتاد عن سنة !
لقد كانت ظروف العيش هناك مكلفة،لكن الرعاة المهاجرين،كانوا يتحملونها صاغرين ليعودوا بعد سنة أو أكثر وقد نما رصيدهم،فيعبرون منطقة،،عياظ،، في طريق العودة، مزهوين بقيادة قطيع معتبر(ثاسرعوفث)يسمح لهم بإعادة الاعتبار في الأسرة التي تبادر إلى التكفير عن تفريطها في(لعمارث نوخام)بتزويجه عبراستثمار العائدات (الرفد)الذي يحتفظ برؤوس منه، على سبيل ما يصطلح عليه في البادية ب،،ثامنيحث،، التي قد تكون وسيلة لتكاثر القطيع وبناء الثروة !
والواقع أن بعض الأسر،لم تتمكن من امتلاك قطيعها إلا من خلال اغتراب أحد أبنائها لمدد متباينة،فتحسنت أحوالها بعدما تناسلت رؤوس،،الرفد،،وامتلأت الزريبة !
في ظل الظروف التي سادت يومئذ،وبدافع من الرغبة في بعض الاستقلال المادي،خاض أحد أقاربي تجربته في الهجرة نحو معقل،،إحدوين،،كما يعرفون بالأمازيغية.
انطلق ش.م.صباح يوم من أيام خريف 1965 نحو ،،الوادي الحي،،(زا)قبل أن يتوقف بعاصمة ،،دادة علي،،(الرواضي).
صادف رجلا يشتغل بحقله،فدله على الماء،ثم دعاه لالتقاط ما تبقى من حبات التين في شجره.
تزود ش.م. بالمعلومات الضرورية،ثم استأنف السير ليستوقفه رجل آخر في الطريق، وسرعان ماكشف له عن وجهته وهدفه.
دعاه الرجل إلى بيته ليقضي الليلة في ضيافته،على أن يرافقه في اليوم الموالي إلى السوق ليختار له ،،رب عمل مناسب،، !
يروي المغامر أنهما وصلا إلى الخيمة بعد أن نال منه التعب،وما إن رمقتهما ،،صاحبة الخيمة،،التي كانت غارقة في نسج الحصير،حتى تجهم وجهها،وكان الضيف ثقيلا عليها لحلوله -ربما- في وقت غير مناسب،ولذلك لم يتأخر أسلوب امتعاضها.
أعدت لوازام الشاي بعد مقدمة خصام ظاهرة،ثم طفقت تقذف حممها كلما طالب الزوج بمزيد من السكر الذي تخفيه في صندوق بمجرد انتزاع قطعة يتيمة ،لتعود إلى إدارة قطعة خبز على النار ،ولسانها لا يكف عن اللوم ومشتقاته في غلظة فجة مما يبرع فيه صنف من بنات حواء.
كان الزوج من تلك الطينة التي لا تستغني عن عمل الزوج فتقبل المهانة الأبدية،لذلك ظل يتوسل إلى زوجته وكأنه أسير وقع بين يدي عدو لا يرحم !
يروي ش.م.بأنه ابتلع طعام الضيم-على بساطته-وكأنه يتجرع دواء مرا،ثم سلمت له قطعة حصير لينام على بقايا نؤي فصل الشتاء.
لم يسمح له شريط الأحداث بأن ينام ملء جفونه،وما إن حل الهزيع الأخير من الليل،حتى دعاه مضيفه للانطلاق نحو السوق.
كانت المسافة معتبرة،وكان الباحث عن مصادر الثروة يتضور جوعا،حينما انقشع الظلام وتراءئ له السوق.
عقل الرجل دابته ،ثم طلب من الشاب أن ينتظره بمدخل السوق،ليعود بعد انتظار طويل برفقة المشغل الذي يندس وسط قائمة من الملابس الصوفية،وعلى وجهه لحية سوداء ،لعلها تحيل على لحى تيوسه التي تنتظر القائد الجديد.
اجتمع الثلاثة على حصير مقهى شعبي،وشرعوا يتناولون الشاي بموازاة التفاوض حول عقد العمل.
اكتشف ش.م. بأن مضيفه هو في الواقع شخص يمارس مهنة الوساطة،بعدما تابع سير المفاوضات،لذلك فإن دعوته للمبيت لم تكن من باب إكرام عابر السبيل،وإنما هي صفقة جاء بها حظه من قبيلة وراء النهر.
أفضت المفاوضات إلى إبرام عقدة عمل ،تمتد لسنة قابلة للتجديد وفق شروط ومواصفات استعرضها المتفاوضان،ثم تسلم الوسيط أتعابه،بينما انطلقت الرحلة نحو مقر العمل.
يتذكر ش.م.وبمرارة،كيف أنه وصل إلى الوجهة الجديدة بعيد العصر،ليشاهد الطلائع الأولى لقطيع يملأ جنبات الأرض.
وصل قائد القطيع الذي هو أحد أبناء المشغل، وكان رجلا كهلا يتولى الرعي ريثما يصل قائد جديد.
رحب الرجل بالضيف،ثم شرع يحدد له المسارات التي يتعين أن يسلكها، والضوابط التي ينبغي التقيد بها،بما فيها أوقات الخروج والعودة،كما دله كذلك على مورد القطيع.
في صباح اليوم الموالي،استيقظ ش.م. مبكرا فوجد الشاي وقطعة من خبز الشعير جاهزين،ثم استلم رغيفا من جنس الأول، وضمنه جرابا كبيرا وتوكل على الله لتبدأ رحلة الأحلام.

رافق الرجل خلال معظم الطريق،ثم عاد أدراجه بعد تقديم آخر التعليمات.
وجد ش.م. نفسه خلف قطيع يصعب التحكم فيه، وسط ربوع تختلف عما تعوده،فراح يتبع مئات الرؤوس من الماعز، وهو غير واثق من قدرته على تأمينها،وانتابه سيل من الهواجس ،يطفو عليها شعور بالندم على هذه الخطوة غير المحسوبة العواقب،ولم يقطع عليه حبل الشرود إلا مرور رجل لا تظهرعليه علامات البداوة،فبادره ش.م.ببعض الأسئلة حول المكان ومميزاته.
أجاب الرجل بتلقائية عن كل التساؤلات ،فلما علم بحكاية الراعي الجديد،لم يخف تأثره وعطفه على تهوره،فخاطبه:
(شك ذوعمر؟روح أوليدي أتعلفذ الشربون أم لهلنش ذيجرادة،ما ثاسرحا ذا غير أوشاس التيساع مايلا ثساعفذيي ، نتش ذامزوار ملي ثلا ثنفع )!والمعنى التقريبي:)أنت من أولاد عمرو؟أنصحك يابني بالانضمام إلى أبناء عمومتك الذين يبتلعون الفحم الحجري بجرادة،أما الرعي هنا،فاقطع معه، ولك واسع النظر،لأني أولى بها منك لو كانت مجدية)!
انصرف الرجل إلى حال سبيله،بعد أن وصلت رسالته،فاستأنف ش.م. سيره وهو لا يقاوم رغبة جامحة في فسخ العقد من جانب واحد،لذلك انتظر الى ما بعد منتصف النهار،فجعل القطيع يسير في اتجاه المسكن،ثم علق جرابه على غصن شجرة، وأطلق ساقيه للريح !
لم يعد يعنيه أمر القطيع ولا مصيره مع الذئاب المنتشرة يومئذ،بقدر ما شغله اقتراح الرجل البديل عن الرعي.
عاد إلى الأهل من جديد ،وبرر غيابه،ثم جمع أغراضه ليتوجه نحو جرادة التي استهل فيها العمل أواخر عام 1965 ،إلى أن توقفت الشركة،حيث هاجر إلى اسبانيا التي حصل فيها على تقاعد مريح،قبل أن يعجل الأجل المحتوم بوفاته وهو يتهيأ لتحقيق العديد من الأحلام التي هيأ شروطها،لكن القضاء أراد غير ذلك.
رحم الله ش.م.وتجاوز عنه ،فقد كان كلما اجتمعنا ،إلا واستجاب لإلحاحي في إعادة قصة رحلته ،فيرويها بتفاصيلها الدقيقة،لأنه عاشها بكل جوارحه.
أما أنا،فكثيرا ما أتوجه إلى مسقط الرأس عبر طريق لا تبعد كثيرا عن مسرح الحادث،ولكن في غياب بطل القصة الذي بوسعه أن يحدد كل محطاتها قبل الاختيار النهائي الذي انضاف إلى سجل ذكريات تستدعي دمعة حرقة.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. Aissa
    18/04/2020 at 14:59

    يالها من ذكريات جميلة، فيها البراءة،والحرمان، والفقر، كما أن فيها النضج في زمن مبكر ،الذي يتجلى في الاعتماد على النفس، والتعامل مع الأسباب المشروعة في الحصول على الرزق، دون تصنع أو مراوغة… النبش في هذه الذكريات الجميلة:الأولى أن تضم وتجمع في كتاب يستفيد منه الجيل الناشئ لتتواصل المسيرة :خير خلف لخير سلف. رحم الله هذا الفقيد: ش م الذي حقق شيئا وبقيت أمور معلقة… حال بينها الأجل المحتوم. شكرا للكاتب الكريم أولا وأخيرا، شكرا لوجدة سيتي وقرائها، حفظ الله وطننا من هذه الجائحة، وأهل علينا رمضان بالنفحات والرحمات.

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *