التفكير بالألوان: مساهمة في ترشيد عملية الفهم.الجزء(6)
التفكير بالألوان: مساهمة في ترشيد عملية الفهم.الجزء(6)
بقلم:د خالد عيادي
التفكير في القرآن:
من المثير للانتباه أن لا يبدأ الوحي الإلاهي مشروعه المقدس ، لتطهير الإنسان المدنس بفعل الأمر: « وحد »، أو « صل »، أو »صم »، أو « لا تشرك ».. في أمة دأبت على الشرك والضلال منذ أمد بعيد. القرآن يتجه وجهة مغايرة، كي لا يكون مطلعه ، أو لنقل بلغة أهل الأدب:عنوانه آية « إقرأ »، ردة فعل على ما هو سائد.وفي ذلك إشارة ثمينة،لألا يكون تفكيرنا أسيرا لردود أفعال فقط، فينصرف عن الإبداع ، والمبادرة ، والجرأة، والاقتحام،.ألا ترى أن القرآن رفض طريقة تفكير سيدنا « أبي بكر »(رضي الله عنه) ،لما قبض يده عن « مسطح »، الذي كان ينفق عليه لقرابته وفقره، في حادثة إفك أمنا « عائشة » (رضي الله عنها) ،: »فأنزل الله تعالى: « ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى »، إلى قوله « ألا تحبون أن يغفر لكم »، فقال « أبو بكر »(رضي الله عنه): « والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كانت عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا »([1]) .
الله جل جلاله يأمر البشرية في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم): » بالقراءة.وقد وردت مادة »ق ر أ » في القرآن الكريم، من خلال ثلاث صيغ:اسمية، ومصدرية، وفعلية، تكون في مجموعها سبعة وثمانون موضعا.([2]) وسواء كان هذا الأمر بالقراءة في الكتاب المسطور: »القرآن » ،أوالكتاب المنظور: »الكون »، فإن التفكير يظل من أهم مقتضيات القراءة .القراءة في الدراسات النقدية والأدبية الحديثة، تقتضي القارئ، والمقروء، والتأويل ، ثم تولد الدلالة. فالقراءة إذن ليست مجرد أصوات طبقا لمخارج الحروف، بل تعني إدراك جملة من المعاني المتداخلة فيما بينها بشكل معقد، فالقراءة تعني عددا من القضايا منها: التلقي الايجابي للمقروء، ومعرفة الكيفية التي تشكل بها الأسلوب ، إذ الأسلوب بصمة لا نظير لها. ثم إن القراءة بناء يحاور النص من أجل التوصل، إلى ما يشكل تفرده وتميزه عما سواه من النصوص، وبالتالي معرفة سر خلوده، والاهتمام به على مر العصور.وليست القراءة ذات اتجاه واحد، أي من النص إلى القارئ. بل ينبغي النظر إليها في اتجاهين متبادلين، ليس أحدهما بأهم من الآخر، أي من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص، في إطار علاقة جدلية وتفاعلية.([3])
وحينما يقرأ المسلم الآية الكريمة : »ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب »([4]) .فإنه في واقع الأمر، يدرب على التفكير بالألوان . ومن يفكر بالأبيض والأسود، يصعب عليه فهم هذا الحكم القضائي. ولهذا يرفضه الكثير، بدعوى أن النتيجة من تطبيق القصاص هي: مقتولان، بدل قاتل واحد. وقديما قال الإنسان العربي، ناطقا بلغة عربية بسيطة وعفوية، لكنها مبينة: « القتل أنفى للقتل ».ومع ذلك يضع المشرع هذا الحد على شفا جرف هار سرعان ما يسقط عن المتهم في الإسلام ، لمجرد تطرق الشك.فالشك في القضاء الإسلامي، يفسر لصالح المتهم ، وهذه فكرة حسنة صفراء فاقع لونها تسر المتهمين ،وتحيي النفوس بعد موتها.
وإذا كان هناك خلاف فقهي بين المذاهب: هل الشك يزيل اليقين أو لا يزيله ?.فإنه في الذمم و الحدود يزيله قولا واحدا لقوله(صلى الله عليه وسلم) : »إدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج ،فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو ، خير له أن يخطئ في العقوبة. « ([5]) وهذا الحكم الشرعي صادر عن تفكير من له نوايا سمحة و حسنة . الناس عنده برآء حتى تثبت في حقهم الإدانة([6])،كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية:إذ الأصل في الأشياء الإباحة،وفي الذمم البراءة .
………………………………………………………………….
[1] ) أسباب النزول – أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسبوري- ت – 468 ه- المكتبة الثقافية- بيروت- لبنان – بدون طبعة- سنة-1989 ص.185
[2] ) تم الاعتماد في هذا الإحصاء على ما ورد في مقال مفهوم القراءة في القرآن الكريم – دة – نعيمة لبداوي – الترتيل – مجلة علمية محكمة متخصصة تعنى بالدراسات القرآنية-المملكة المغربية-عدد-2-2014-.ص-131.
[3] ) يراجع مبحث « القراءة » في : « الشعر الجاهلي بين مقصدية الشاعر ومحصلة القارئ ». لصاحب المقال – مطبعة بلال- فاس- المغرب-بدون سنة ولا طبعة- ص:89 وما بعدها- توزيع دار الأمان بالرباط – المغرب.
[4] ) سورة البقرة-آية 179.
[5] ) أخرجه الترمذي من حديث عائشة. في كتاب الحدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. »باب ماجاء في درء الحدود »
[6]) الواجب دفع الحدود بالشبهة التي توجب الشك في ثبوت الحد. فإذا لم يثبت عند القاضي الحد ثبوتاً واضحاً لا شبهة فيه فإنه يسقطه، ويكتفي بالتعزيرات، ولا يقام الحد الواجب كالرجم في حق الزاني المحصن، والجلد مائة جلدة في حق الزاني البكر، وقطع اليد في حق السارق إلا بعد ثبوت ذلك ثبوتاً لا شبهة فيه، ولا شك فيه بشاهدين عدلين لا شبهة فيهما، فيما يتعلق بالسرقة، وبأربعة شهود عدول فيما يتعلق بحد الزنا . وعلى ولاة الأمر أن يدرأوا الحد بالشبهة التي توجب الريبة والشك في الثبوت.والمتدبر في هذه الشروط الصعبة ،تحصل لديه قناعة بصعوبة تطبيق هذه الحدود، إلا فيما ندر.وهذا من رحمة الإسلام.
Aucun commentaire