محمد بوجمعة: تاريخ وذاكرة -7- لعبة » سريللو ما بان »
أحمد الجبلي
من الإبداع أن يخترع أطفال الزمن الجميل ألعابا شتى، بعضها يلعب صباحا، وبعضها يلعب مساء، بعضها يلعب عند الغروب، والآخر يلعب ليلا. كما أبدعوا ألعاب تناسب الفصول فلعبة الصيف تختلف عن لعبة الشتاء ولعبة الخريف تختلف عن لعبة الربيع. كما كانت هناك ألعاب متناغمة مع طول الليل أو قصره.
فمن ألعاب الليل لعبة مشوقة محبوبة، وهي، كلعبة، يكاد ينساها العديد من أطفال ذاك الزمن الذين أصبحوا الآن رجالا لهم أبناء ومسؤوليات.
هذه اللعبة العجيبة اسمها « سريلو » واسم « سريلو » مشتق من فعل سرى يسري وهو السير ليلا، ومنه قوله تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وأسراه: سيره ليلا، وأسرى الشيء عنه: نزعه منه وألقاه.
إن كل هذه المعاني اللغوية تجتمع في لعبة « سريللو » إذ هي لعبة يسير فيها الأطفال ليلا في مكان يكون قد جن فيه الليل وأغشاه الظلام، فيأخذ أحد الأطفال شيئا بيده فيسريه عنه أي يلقيه في جنح العتمة.
قبل أن نتحدث عن ماهية اللعبة واستراتيجيتها، لابد أن نذكر بأن الأطفال مجبرون على اختيار مكان مظلم مناسب ومنسجم مع طبيعة اللعبة، وفي حي محمد بوجمعة كانت زنقة سبتة هي الأنسب لكونها تشتمل على جميع المواصفات المطلوبة. أي كانت زنقة مظلمة، من ناحية، وكانت حبلى بالعديد من الأحجار والأشياء المبعثرة مما يجعل اللعبة مسلية وناجحة.
بعدما يتفق الأطفال على عظم أو جزء منه، وفي حالة عدم التوفر عليه يمكن الاستعانة بأي شيء كعود أو ما شابهه، فيلمسه ويتعرف عليه جميع الأطفال، حينها ينقسمون إلى قسمين ثم يقترعون من يبدأ أولا، أي من يلقي ب « السريلو » (العظم) في الظلام. يختار الفريق بطلا منهم ذا تجربة وذكاء حيث سيقوم برمي العظمة « سريلو » في الظلام بطريقة معينة لا يسمع لها حسيس ولا يتحسسها حدس ولا يدركها بصر ولا يتخيلها عقل، بعدما يغمض الجميع أعينهم حتى لا يروا الاتجاه الذي سيلقي فيه اللاعب العظم ثم ينطلق أصحابه ينشدون قائلين « سريلو ما بان كلاه الدبان » كناية منهم على أن العظم لبراعة الرامي قد اختفى ومن الممكن أن يكون قد أكله الذباب. وهي حرب نفسية الهدف منها تيئيس الخصم وإحباط عزائمه حتى يفقد الأمل في العثور على العظم. كما أن من ذكاء اللاعب الرامي أن يتجه في اتجاه يخالف المكان الذي ألقى فيه العظم تمويها منه للفريق الخصم، لأن الأعين تترصده وترقبه وتتبعه لكونه الوحيد الذي يعلم الاتجاه الصحيح للسريلو.
حينها تبدأ عملية البحث، البحث في الظلام، فيرتفع منسوب اليقظة والحذر، وكل واحد يبحث عن العظم وفي نفس الوقت يتحسس من هو قريب منه، ففي حالة تم التقاط أي شيء يمكن أن يتم الانقضاض عليك وكشفك بأن العظم معك وحينها تقف اللعبة لانكشاف الأمر والعثور على العظم.
فاللاعب إذا عثر على العظم، عليه أن يتمهل ويتماهى مع القوم في صمت، يمثل دور الذي لا علم له، دور التائه الذي يتخبط في الظلام، في نفس الوقت سيبدأ في التقدم نحو الأمام بذكاء، إلى أن يجد الفرصة سانحة للفرار والاتجاه نحو الانطلاقة الأولى. ليس من السهل القيام بكل هذه الحيل لأن جميع أعضاء الفريق الخصم يتحسسون إن كان هناك من يقوم بهذه الحيل ويقترب أكثر إلى الأمام، يعتبر هذا اللاعب بطلا مغوارا يفرح به فريقه أيما فرح لأنه سجل هدفا صعبا في شباك الخصم من زاوية تكاد تكون مستحيلة.
هذه اللعبة كما حاولت أن أتذكرها، وأن أكون أمينا في نقل حيثياتها، من شأنها أن تعلم الأطفال العديد من الأشياء، أولها: الحيطة والحذر، ثانيها: تقوية وظائف الحواس كالسمع والبصر، ثالثتها: تدريب العقل على القيام بأشياء متعددة في وقت واحد، أي البحث وتحسس الخصم والتفكير في الاتجاهات وسبل الفرار لتحقيق الفوز، رابعها تنمية الذكاء الاجتماعي وروح التعاون.
Aucun commentaire