سينما التعاطف مع المجرمين
أحمد الجبلي
غزت سوق الفن السابع في السنوات الأخيرة موجة سينمائية خطيرة تتجلى في الضغط على قلوب المشاهدين ابتغاء استمالتها للتعاطف مع المجرمين والقتلة ومصاصي الدماء.
لقد جرت العادة عبر تاريخ السينما، ومنذ أن كانت صامتة، وإلى حد قريب، أن يتعاطف الجمهور مع أبطاله الذين يتميزون بأخلاق نبيلة ويملكون شجاعة ناذرة، يكرهون الظلم، يحكمون بالعدل، ويدافعون عن الضعفاء والمستضعفين، لا ينقضون العهود، ولا يصنعون المكائد والدسائس، ليسوا بماكرين ولا محتالين ولا يتصفون بصفات الخبث والخديعة والخيانة، هذا ما عودتنا السينما عبر العصور فجعلتنا نتعاطف مع كل بطل، هذه سماته ومميزاته وأخلاقه، تماما كما تعاطفنا مع ويليام والاس في القلب الشجاع، ومع ماكسيموس في المحارب، ومع كونتا كينتي في فيلم الجذور لكونه مظلوما مغلوبا على أمره مورست عليه أبشع أنواع العبودية والرق والنخاسة، وفي سينما السبعينات تعاطفنا مع كلين إستوود في جميع أفلامه لكونه مثل صوت العدل والحق، كما تعاطفنا مع كل رجال الشرطة عندما تكون مهمتهم نبيلة تطهيرا للمجتمعات من الجريمة والمخدرات والقتل بشتى أنواعه، كما أحببنا كولومبو وكوجاك وسلسلة المستعجلات لكونها تمثل كل القيم التي وجب أن يتحلى بها الطبيب من أجل إنقاذ الأرواح أفقا للعيش والحياة. كما أحببنا فتعاطفنا مع كل الأفلام والمسلسلات الحربية التي أبطالها مجاهدون طردوا المستعمر من أراضينا كعمر المختار، معركة الجزائر، ودار السبيطار، والأفيون والعصا، كما تعاطفنا حتى مع الحيوانات الأبطال عندما يتعرضون للظلم والقهر في سياقات حكائية لا تريد بذلك إلا التلميح للإنسان تماما كما فعل ابن المقفع.
لعل مسلسل صراع العروش، الذي أصبح يعتبر من المسلسلات الجديدة التي حضيت بملايين المشاهدات واحتلت صدارة في الشاشات، من المسلسلات الجديدة التي حافظت على النمط القديم الذي هو تعاطف الجمهور مع البطل العادل والشهم وذي القيم والأخلاق، حيث دفع السيناريو بالجمهور بشكل كبير إلى التعاطف مع جميع أبناء نيد ستارك على اعتبار أنهم تلقوا تربية حسنة جعلتهم كأبيهم ينفرون من الظلم ويميلون حيث كان الحق والصواب، يرفضون المؤامرات والتحالفات السرية الخسيسة، وعلى الخصوص منهم البطل جون سنو لما يتميز به هذا البطل من أخلاق وشهامة وشجاعة ونبل وحكمة.
وعلى غرار مسلسل صراع العروش، الذي صار مدرسة تسربلت بلباس فني جديد غير معهود من قبل في عالم السينما، كما يقول النقاد، ستندفع سلسلة من المسلسلات والأفلام إلى ساحة الفن السابع، على رأسها الفيكينغ ولاكاسا دوبابيل، ومسلسلات أخرى مثل بريكينغ باد وغيره.
ولكن الاختلاف الموجود بينهما هو أن هذه المسلسلات الثلاثة الأخيرة التي كسبت قاعدة شعبية مثيرة، وحضيت بجوائز ثمينة، جاءت بمنهج جديد تجلى في البراعة في قلب أذواق وقيم وأخلاق الجماهير، حيث ستجعلها تتعاطف مع المجرمين وبائعي المخدرات واللصوص، بعدما كانت هذه الجماهير، كما سلف وذكرنا، تملك ذوقا رفيعا ينسجم مع القيم الانسانية التي بفطرتها تكره الظلم والجريمة والعدوان.
ففي مسلسل الفيكينغ نجد قبيلة كاملة بكبارها وصغارها برجالها ونسائها تعيش على القتل وسفك الدماء والنهب والسطو، أي قبيلة همجية لا يمكن تصور شلالات الدماء التي أغرقوا الناس فيها، تماما كما هي الحقيقة التاريخية التي تسجل الرعب والوحشية التي كالها الجرمانيون وقراصنة اسكندنافيا لسواحل أوربا. ولكن الصنعة السينمائية والتكنولوجيا الحديثة وسياقات السيناريو فرضت على المشاهد نوعا من الحب يكنه للبطل المجرم ويتعاطف مع عائلته وقبيلته، وذلك عن طريق إبراز البطولة والشجاعة والقوة وهي سمات يعشقها الجمهور، ولكن تم تلبيسها وتغليفها بالظلم والقتل والسطو فطغت حالة البطولة والشجاعة وبرزت في أعين المشاهد، ومنه المشاهد العربي، فنسي الظلم والطغيان والنهب والسلب الذي تتعرض له قرى وقبائل بريئة وشعوب مسالمة. كما أن السيناريو يعمل على موقعة البطل المجرم في حالات من الضعف أحيانا أو ضمن وضعيات اجتماعية في العائلة أو بين الأصدقاء مما يجعل المشاهد يقترب أكثر فأكثر من البطل فيصبح قريبا منه ويعرف عنه كل شيء، فيحصل بذلك أن البطل عندما يقع في مأزق ما يبدأ المشاهد لا إراديا في التفكير في حلول من أجل إنقاذه.
وفي بريكينغ باد سيتم توظيف الوضع الاجتماعي والعائلي والحالة الصحية لأستاذ الكيمياء والتر وايت من أجل الضغط على الجمهور لتحقيق التعاطف والتأييد. فبمجرد أن يكون البطل أستاذا وعالما في الكيمياء، ويعاني من مرض مميت، في واقع يعرف التأمين فيه انحطاطا كبيرا وتخلفا، وبعدما ساهم في بناء شركة من أنجح الشركات سيتعرض لخدعة غامضة تجعله خارج الأرباح، فضلا عن كون زوجته حاملا أي عما قريب سيحمل في حضنه طفلة صغيرة وجميلة بريئة، وابنه شاب معوق له آمال وأحلام، كما له زوجة محبة يتمناها أي رجل. كل هذه المبررات حتى يصير السؤال مطروحا في ذهب كل مشاهد: ألا أجد بعضا من عذر بأن الطريق السريع الوحيد الذي أمام وايت نظرا لقرب أجله من أجل الربح السريع لينقذ أسرته هو صناعة الميث؟؟
فالرجل يعاني من مرض السرطان، ولم يبقى من عمره إلا القليل، ولذلك لجأ إلى صناعة المخدرات » الميث الأزرق » حتى يترك لعائلته ثروة تدبر بها شؤونها بعد وفاته، لهذا استحق كل هذا التعاطف رغم كونه في عين القانون مجرما خطيرا يعمل على الاغتناء على حساب الأطفال والشباب كما أنه اضطر إلى القتل أحيانا في حالات كثيرة، فكون الفيلم قد حصد 16 جائزة دولية وترشح لأزيد من 58 منها، ولكونه اعتبر من ضمن أحسن المسلسلات في تاريخ السينما العالمية، قد زاد من التعاطف مع البطل المجرم، وقد اعتمد المخرج على الحالة الاجتماعية البئيسة والظروف الصحية المتردية للبطل ليخلق نوعا من المبررات والاقتناع لدى الجمهور، وهذه الحقيقة يؤكدها مدى كره الجمهور لزوجة البطل لكونها كانت دائما تثنيه عن مبتغاه وبعد جهد جهيد اضطرت لتسايره حفاظا على أبنائها، ولكنها في الأخير لما علمت أنه تغلغل في عالم الجريمة وصار قاتلا أبعدته عن أبنائها الذين يحبهم إلى حد الجنون، مما سيعزز التعاطف مع مستر وايت ويحول من زوجته وحشا لا يرحم، ولذا فإن الأجهزة الأمنية الأمريكية اضطرت إلى توفير الحماية للسيدة سكالر وايت خوفا عليها من الجمهور الذي كرهها وكره دورها كسيدة عارضت ما كان يقوم به بطل الفيلم المجرم الخبير في صنع الميث الصافي بنسب قياسية.
كما كان من النتائج السلبية لهذا المسلسل لجوء أباطرة المخدرات في أمريكا وأمريكا الجنوبية، تحديدا، إلى إضافة المادة الزرقاء إلى المخدرات اقتداء وتقليدا لما كان يصنعه أستاذ الكيمياء في الفيلم، مما جعل المادة تلقى رواجا أكبر مما كانت عليه قبل عرض المسلسل.
أما عن المسلسل الإسباني لاكاسا دو بابيل الذي اعتبر أشهر مسلسل إسباني عالمي، فقد حقق هدف التعاطف مع اللصوص بشكل لا يوصف، بل حتى السيناريو نفسه تضمن عملية التأثير في الجمهور لتحقيق هذا التعاطف، وقد نجح سواء في الفيلم أم في الحقيقة، إذ أصبح الأستاذ، المخطط لأكبر عملية سرقة في إسبانيا، هو رمز الذكاء والقدرة على التخطيط، كما عرف الفيلم بأغرب توظيف للحب حيث إن أول قانون سطره الأستاذ للصوصه هو عدم الارتباط وعدم الحب، ولكن من العجب أن يجعل السيناريو الحب هو المنقذ، فتجلى ذلك في السيدة راكيل التي كانت تقود عملية التحري في عملية سرقة دار السكة الإسبانية كمحققة، حيث بارتباطها بالأستاذ وتعلقها به نجا ونجا جميع اللصوص، كما يتجلى ذلك في علاقة مونيكا ولورينتي والتي تحولت بفضل الحب من رهينة إلى لصة تحمل الرشاش وتقتل الشرطة حماية لزملائها الجدد.
كما يظهر التعاطف مع اللصوص بشكل واضح في الموسم الأول حيث ستوكل مهمة مخاطبة الصحافة والجمهور للأديب والفيلسوف والمثقف برلين والذي سيوفق في استمالة الجماهير بتوظيف مرضه وظروفه وسيمنحهم كل المبررات التي تجعل الشعب يوافق على عملية سرقة هذه الأموال. وفي الموسم الثالث تقوم الجماهير الغفيرة بمظاهرات حاشدة دفاعا عن اللصوص، مما جعلها تشكل درعا وحماية لها، فتحولت هذه الشعبية وهذا التعاطف إلى نقطة محورية في الصراع، ولذلك فمن ذكاء المحققة إليسا سييرا ( الممثلة الأردنية العربية نجوى نمري) أنها وعت أن هذه الشعبية وهذا التعاطف إن تم ضربهما ستكون قد حققت خطوة هامة في هزيمة اللصوص وإرباك خطتهم. ولذلك قامت بعملية تمويه مدروسة توحي بموت الشرطية راكيل، في الوقت نفسه أعطت أوامرها لعملية الاقتحام باستعمال المركبات، فجعلت الأستاذ يفقد توازنه ويعطي أوامره بقصف تلك المركبات أمام الجماهير المتعاطفة، حتى يتبين لتلك الجماهير بما لا يدع مجالا للشك بأن هؤلاء ليسوا أبطالا يستحقون التعاطف بل مجرد لصوص ومجرمين لا يتوانون في قتل الشرطة والأبرياء بدون أي مبرر. وإذا كان هذا المشهد هو آخر مشهد توقف عنده الموسم الثالث، فمن المرجح أن يحمل الموسم الرابع العديد من العمليات والتكتيكات التي سوف تكيلها المحققة البارزة إليسا محاولة دائما الإطاحة بشعبية اللصوص وإعادة الأمر إلى طبيعته أي لا تعاطف مع المجرمين، ولا يوجد أي مسوغ يمنح الحق لأي أحد أن يعتدي على أملاك الغير حتى ولو كانت أملاك الدولة الظالمة.
ولكن ما نخشاه هو أن ترتد كل تلك العمليات الناجحة التي قامت بها المرأة الحديدية المحققة إليسا لضرب التعاطف الشعبي مع اللصوص، فيمنح المخرج نجاحات أخرى لإبراز قوة ذكاء الأستاذ استرجاعا للتعاطف الجماهيري الذي فقده في نهاية الموسم الثالث.
Aucun commentaire