وقفة تدبر مع أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة :
وقفة تدبر مع أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة
محمد شركي :
فيما يلي الخطبة قبل الوقفة :
الخطبة الأولى :
(الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأُعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلّة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنوّ من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضلّ ضلالاً بعيداً.
أوصيكم بتقوى الله، فإنّه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة، وأنّ يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه، وإنّ تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربّه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلاّ وجه الله، يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما كان من سوى ذلك يودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد.
والذي صدّق قوله ونجّز وعده لا خلف لذلك فإنّه يقول (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)، فاتّقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلاني، فإنّه من يتّق الله يكفّر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، ومن يتّق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإنّ تقوى الله توقّي مقته، وتوقّي عقوبته، وتوقّي سخطه، وإنّ تقوى الله تبيّض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرّطوا في جنب الله، فقد علّمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله اليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، هو إجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بينة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنّ من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأنّ الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم..»
الخطبة الثانية :
«إنّ الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إنّ أحسن الحديث كتاب الله تبارك والله، قد أفلح من زيّنه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، وإختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنّه أحسن الحديث وأبلغه. أحبّوا ما أحبّ الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملّوا كلام الله وذكرَه، ولا تَقْسُ عنه قلوبكم، فإنّه من كلِّ ما يخلق الله يختار ويصطفى، قد سمّاه الله خِيرتَه من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالَح من الحديث، ومن كلّ ما أُوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإتقوه حقّ تقاته، وأصدُقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابّوا بروح الله بينكم إنّ الله يغضب ان يُنكَث عهده، والسلام عليكم.)
أما الوقفة ، فلا بد من ذكر ما دعا إليها ،وهو أن كثيرا من الناس لا يرضون عن خطب الجمعة مهما بذل الخطباء من جهد فيها ، وأظن أن مثل هؤلاء لو أخفي عنهم أمر نسبة هذه الخطبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلمت من نقدهم وملاحظاتهم .
إن هذه الخطبة باعتبارها أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وفي فترة بداية التشريع ، تعتبر بلغة العصر خريطة طريق أو مرجعا لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يتلقى الوحي من الله عز وجل ، وما جاء في خطبته هذه إنما هو مما أوحي إليه .
إنها خطبة جامعة مانعة جمعت بين جمال الشكل وجلال المضمون ، ولا مندوحة لخطيب في كل عصر ومصر مهما علا كعبه علما وبلاغة وفصاحة عن الانطلاق منها واتخاذها نبراسا يهتدي به.
فمن حيث الشكل تتكون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جزأين أو خطبتين أولى وثانية ، الأولى أطول نسبيا من الثانية ، وهذا أمر يلزم كل خطيب في كل زمان .وتبدأ كل خطبة بحمد الله والثناء عليه، والاستغفار، والاستهداء، والتعوذ بالله عز وجل من شرور النفس وسيء العمل ، ويلي ذلك توحيد الله عز وجل والبراء من كل شرك . وهذا مما يلزم كل خطيب في الخطبتين أيضا وإن اختلفت صيغ الخطباء، فلا مندوحة لهم عن حمد الله عز وجل والثناء عليه ، والاستغفار، والاستهداء، والتعوذ من شرور النفس وسيء العمل، وإعلان كلمة التوحيد ،ونبذ الشرك.
والملاحظ في الخطبة الأولى ذكر ظرف بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وهو ظرف ساد فيه ضلال الناس، واقتربت فيه الساعة ، وهذا ما يلزم الخطباء التذكير به دائما حين يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدور مضمون هذه الخطبة على وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله عز وجل وبتقواه وهو خير ما يوصي به مسلم مسلما مع الإشادة بمزايا التقوى ففيها إصلاح ما بين العباد وبين خالقهم، وفيها خيرهم في عاجلهم وآجلهم مع التحذير مما حذر منه الله عز وجل من ترك التقوى و التحذير من الندم على ذلك في الآجل، كما يدور مضمونها على تصديق كلام الله عز وجل الذي لا تبديل له ثم العودة من جديد للتذكير بمزايا تقوى الله لما فيها من تكفير للسيئات، ووقاية من مقت الله عز وجل وسخطه وعقابه ، وما فيها من رضاه ومن أجر وفوز عظيمين، ومن رفعة في الدرجات ، ومن بياض الوجوه في الآجل .
ومن مضامين هذه الخطبة أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بالأخذ من الدنيا بحظ دون تفريط في جنب الله عز وجل الذي أنزل الكتاب ،ونهج فيه الصراط المستقيم ليعلم صدق الصادقين ، وكذب الكاذبين . وفيها أيضا أمر بإحسان الناس إلى بعضهم مقابل إحسان الله عز وجل إليهم ، وفيها أمر بمعاداة من يعادي الله عز وجل، و فيها دعوة إلى الجهاد في سبيله مع التذكير بنعمة اجتبائه للمسلمين وتسميتهم ، وفيها أيضا تذكير بحياة عن بينة بطاعته أو هلاك عن بينة بمعصيته . وانتهت الخطبة بالحوقلة .
أما مضمون الخطبة الثانية، فيدور حول التذكير بكلام الله عز وجل ،وهو أحسن الحديث وأبلغه مع الإشادة بمن زيّنه الله عز وجل في قلبه ، وبمن أدخله الله في الإسلام بعد كفره . وأمر صلى الله عليه وسلم بألا يمل من كلام الله عز وجل ومن ذكره ، وحذّر من قسوة القلوب عنه، وهو الذي اصطفاه الله عز وجل على ما خلق ، وجعله خير الأعمال على الإطلاق لما فيه من هداية إلى الحلال، وتحذير من الحرام . وفي هذه الخطبة أيضا أمر بمحبة الله عز وجل، وبحب ما يحب ، ويجب أن يكون ذلك من صميم القلوب وبكل صدق . وتختم بالتذكير بتقوى الله عز وجل مرة أخرى، وعبادته دون شرك مع الأمر بالصدق معه سبحانه وتعالى في القول والفعل، فضلا عن الأمر بالمحبة بين المسلمين في الله عز وجل مع التحذير من نقض العهد معه .وكانت نهايتها سلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحضور .
ومما تقتضيه هذه الوقفة الإشارة إلى أن هذه الخطبة الأولى في المدينة المنورة اقتضتها ظروف الدعوة الإسلامية في الفترة المدنية، الشيء الذي يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ لنا سنة تناول خطب الجمعة أحوال وأوضاع وظروف الناس ، وليس من السنة ألا يلتزم الخطباء بهذه السنة .
ومما تقتضيه الوقفة أيضا أن مضامينها تعتبر منطلقات أو قضايا كبرى لما يجب أن تتناوله خطب الجمعة مع مراعاة أحوال وظروف الناس ، ومن تلك القضايا أوالمنطلقات ، قضية تقوى الله عز وجل وما يترتب عنها من استقامة ، وقضية القرآن الكريم وضرورة معاشرته على الدوام من أجل ملازمة الاستقامة ، وقضية الأخذ بحظ من الحياة لكن دون التفريط في جنب الله عز وجل ، وقضية الإحسان بين المسلمين ، وقضية المحبة بينهم ، وقضية معاداة من يعادي الله عز وجل ، وقضية الجهاد في سبيل الله .
هذه القضايا أو المنطلقات الكبرى تتفرع عنها قضايا شتى تكون مواضيع خطب الجمعة عبر العصور إلى قيام الساعة ، يختار منها ما يمس واقع الناس وظروفهم وأحوالهم لتعرض على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة الرائدة التي نهجت لكل خطيب النهج الذي يجب أن يسير عليه في خطابته .
وأخيرا نأمل أن تكون هذه الوقفة موفقة إن شاء الله تعالى بتوفيق منه ، وأن تكون قد أدت وظيفتها بالنسبة للذين لا ترضيهم خطب الجمعة مهما اجتهد الخطباء في بلوغ السداد فيها ،علما بأنهم لن يستطيعوا الخروج عما جاء في توجيهات أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام بعد الهجرة من مكة وهي يومئذ دار كفر . ومن حاد من الخطباء عن هذا النهج النبوي في الخطابة ، وخاض فيما لا يدخل ضمن قضايا ومنطلقات خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه وغيرها من الخطب التي تلتها، يكون مخلا بسنته ،ويحق لمن ينتقده انتقاده ويكون نقده حينئذ في الصميم ، أما من التزم بسنته في الخطابة، فإن نقده يكون ظلما وعدوا يجدر بمن يقع فيه أن يستغفر ربه وأن يعود إلى رشده .
ونأمل أخيرا أن يعيد القراء الكرام قراءة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه لإدراك ما فيها من عمق على قصرها ، وما فيها من بلاغة وفصاحة ، والنظر فيها عبادة والتماس للبركة ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
وقفة تدبر مع أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة
محمد شركي :
فيما يلي الخطبة قبل الوقفة :
الخطبة الأولى :
(الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأُعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلّة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنوّ من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضلّ ضلالاً بعيداً.
أوصيكم بتقوى الله، فإنّه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة، وأنّ يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه، وإنّ تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربّه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلاّ وجه الله، يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما كان من سوى ذلك يودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد.
والذي صدّق قوله ونجّز وعده لا خلف لذلك فإنّه يقول (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)، فاتّقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلاني، فإنّه من يتّق الله يكفّر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، ومن يتّق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإنّ تقوى الله توقّي مقته، وتوقّي عقوبته، وتوقّي سخطه، وإنّ تقوى الله تبيّض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرّطوا في جنب الله، فقد علّمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله اليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، هو إجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بينة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنّ من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأنّ الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم..»
الخطبة الثانية :
«إنّ الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إنّ أحسن الحديث كتاب الله تبارك والله، قد أفلح من زيّنه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، وإختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنّه أحسن الحديث وأبلغه. أحبّوا ما أحبّ الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملّوا كلام الله وذكرَه، ولا تَقْسُ عنه قلوبكم، فإنّه من كلِّ ما يخلق الله يختار ويصطفى، قد سمّاه الله خِيرتَه من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالَح من الحديث، ومن كلّ ما أُوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإتقوه حقّ تقاته، وأصدُقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابّوا بروح الله بينكم إنّ الله يغضب ان يُنكَث عهده، والسلام عليكم.)
أما الوقفة ، فلا بد من ذكر ما دعا إليها ،وهو أن كثيرا من الناس لا يرضون عن خطب الجمعة مهما بذل الخطباء من جهد فيها ، وأظن أن مثل هؤلاء لو أخفي عنهم أمر نسبة هذه الخطبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلمت من نقدهم وملاحظاتهم .
إن هذه الخطبة باعتبارها أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وفي فترة بداية التشريع ، تعتبر بلغة العصر خريطة طريق أو مرجعا لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يتلقى الوحي من الله عز وجل ، وما جاء في خطبته هذه إنما هو مما أوحي إليه .
إنها خطبة جامعة مانعة جمعت بين جمال الشكل وجلال المضمون ، ولا مندوحة لخطيب في كل عصر ومصر مهما علا كعبه علما وبلاغة وفصاحة عن الانطلاق منها واتخاذها نبراسا يهتدي به.
فمن حيث الشكل تتكون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جزأين أو خطبتين أولى وثانية ، الأولى أطول نسبيا من الثانية ، وهذا أمر يلزم كل خطيب في كل زمان .وتبدأ كل خطبة بحمد الله والثناء عليه، والاستغفار، والاستهداء، والتعوذ بالله عز وجل من شرور النفس وسيء العمل ، ويلي ذلك توحيد الله عز وجل والبراء من كل شرك . وهذا مما يلزم كل خطيب في الخطبتين أيضا وإن اختلفت صيغ الخطباء، فلا مندوحة لهم عن حمد الله عز وجل والثناء عليه ، والاستغفار، والاستهداء، والتعوذ من شرور النفس وسيء العمل، وإعلان كلمة التوحيد ،ونبذ الشرك.
والملاحظ في الخطبة الأولى ذكر ظرف بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وهو ظرف ساد فيه ضلال الناس، واقتربت فيه الساعة ، وهذا ما يلزم الخطباء التذكير به دائما حين يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدور مضمون هذه الخطبة على وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله عز وجل وبتقواه وهو خير ما يوصي به مسلم مسلما مع الإشادة بمزايا التقوى ففيها إصلاح ما بين العباد وبين خالقهم، وفيها خيرهم في عاجلهم وآجلهم مع التحذير مما حذر منه الله عز وجل من ترك التقوى و التحذير من الندم على ذلك في الآجل، كما يدور مضمونها على تصديق كلام الله عز وجل الذي لا تبديل له ثم العودة من جديد للتذكير بمزايا تقوى الله لما فيها من تكفير للسيئات، ووقاية من مقت الله عز وجل وسخطه وعقابه ، وما فيها من رضاه ومن أجر وفوز عظيمين، ومن رفعة في الدرجات ، ومن بياض الوجوه في الآجل .
ومن مضامين هذه الخطبة أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بالأخذ من الدنيا بحظ دون تفريط في جنب الله عز وجل الذي أنزل الكتاب ،ونهج فيه الصراط المستقيم ليعلم صدق الصادقين ، وكذب الكاذبين . وفيها أيضا أمر بإحسان الناس إلى بعضهم مقابل إحسان الله عز وجل إليهم ، وفيها أمر بمعاداة من يعادي الله عز وجل، و فيها دعوة إلى الجهاد في سبيله مع التذكير بنعمة اجتبائه للمسلمين وتسميتهم ، وفيها أيضا تذكير بحياة عن بينة بطاعته أو هلاك عن بينة بمعصيته . وانتهت الخطبة بالحوقلة .
أما مضمون الخطبة الثانية، فيدور حول التذكير بكلام الله عز وجل ،وهو أحسن الحديث وأبلغه مع الإشادة بمن زيّنه الله عز وجل في قلبه ، وبمن أدخله الله في الإسلام بعد كفره . وأمر صلى الله عليه وسلم بألا يمل من كلام الله عز وجل ومن ذكره ، وحذّر من قسوة القلوب عنه، وهو الذي اصطفاه الله عز وجل على ما خلق ، وجعله خير الأعمال على الإطلاق لما فيه من هداية إلى الحلال، وتحذير من الحرام . وفي هذه الخطبة أيضا أمر بمحبة الله عز وجل، وبحب ما يحب ، ويجب أن يكون ذلك من صميم القلوب وبكل صدق . وتختم بالتذكير بتقوى الله عز وجل مرة أخرى، وعبادته دون شرك مع الأمر بالصدق معه سبحانه وتعالى في القول والفعل، فضلا عن الأمر بالمحبة بين المسلمين في الله عز وجل مع التحذير من نقض العهد معه .وكانت نهايتها سلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحضور .
ومما تقتضيه هذه الوقفة الإشارة إلى أن هذه الخطبة الأولى في المدينة المنورة اقتضتها ظروف الدعوة الإسلامية في الفترة المدنية، الشيء الذي يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ لنا سنة تناول خطب الجمعة أحوال وأوضاع وظروف الناس ، وليس من السنة ألا يلتزم الخطباء بهذه السنة .
ومما تقتضيه الوقفة أيضا أن مضامينها تعتبر منطلقات أو قضايا كبرى لما يجب أن تتناوله خطب الجمعة مع مراعاة أحوال وظروف الناس ، ومن تلك القضايا أوالمنطلقات ، قضية تقوى الله عز وجل وما يترتب عنها من استقامة ، وقضية القرآن الكريم وضرورة معاشرته على الدوام من أجل ملازمة الاستقامة ، وقضية الأخذ بحظ من الحياة لكن دون التفريط في جنب الله عز وجل ، وقضية الإحسان بين المسلمين ، وقضية المحبة بينهم ، وقضية معاداة من يعادي الله عز وجل ، وقضية الجهاد في سبيل الله .
هذه القضايا أو المنطلقات الكبرى تتفرع عنها قضايا شتى تكون مواضيع خطب الجمعة عبر العصور إلى قيام الساعة ، يختار منها ما يمس واقع الناس وظروفهم وأحوالهم لتعرض على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة الرائدة التي نهجت لكل خطيب النهج الذي يجب أن يسير عليه في خطابته .
وأخيرا نأمل أن تكون هذه الوقفة موفقة إن شاء الله تعالى بتوفيق منه ، وأن تكون قد أدت وظيفتها بالنسبة للذين لا ترضيهم خطب الجمعة مهما اجتهد الخطباء في بلوغ السداد فيها ،علما بأنهم لن يستطيعوا الخروج عما جاء في توجيهات أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام بعد الهجرة من مكة وهي يومئذ دار كفر . ومن حاد من الخطباء عن هذا النهج النبوي في الخطابة ، وخاض فيما لا يدخل ضمن قضايا ومنطلقات خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه وغيرها من الخطب التي تلتها، يكون مخلا بسنته ،ويحق لمن ينتقده انتقاده ويكون نقده حينئذ في الصميم ، أما من التزم بسنته في الخطابة، فإن نقده يكون ظلما وعدوا يجدر بمن يقع فيه أن يستغفر ربه وأن يعود إلى رشده .
ونأمل أخيرا أن يعيد القراء الكرام قراءة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه لإدراك ما فيها من عمق على قصرها ، وما فيها من بلاغة وفصاحة ، والنظر فيها عبادة والتماس للبركة ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
Aucun commentaire