خدمة المرأة لزوجها بين العرف والشرع
التقيت بصديقي الأستاذ مصطفى الرجل الطيب الذي كرس حياته كلها في تربية الأجيال وتعليمهم، رفقة زوجته السيدة المجاهدة التي كرست حياتها في الوعظ والإرشاد والتوجيه وتحفيظ القرآن الكريم في المساجد والجمعيات، وبعدما سألته عن صحته، التفت إليها لأسألها عن أنشطتها وأعمالها المعهودة، وإذا بها تجيبني قائلة: « لقد أوقفت كل شيء منذ مرض السي مصطفى لأنه أولوية بالنسبة لي ».
لا أنكر أن كلمتها هذه زلزلت في عقلي ما عرفته عن أفكار ومعتقدات العديد من النساء اللائي لا يمكن على الإطلاق أن يجعلن أزواجهن أولوية في حياتهن.
والبعض منهن لا تنقصهن لا الثقافة الشعبية ولا الثقافة الدينية ولا الدراية بالأعراف فيما له علاقة بأولوية الزوج في الأسرة بالنسبة للمرأة. والعديد منهن لازالت تفهم بأن خدمة المرأة لزوجها ليست مطلبا شرعيا، وهي ليست مجبرة على خدمته، وقد كرس هذا الفكر بعض الخطباء والوعاظ وحاولوا جادين نشره في الأسر الآمنة التي كانت تدبر أمورها وفق ما تلقته عرفا وتبعا لما فعله الأجداد والجدات والأمهات تحديدا، فالمعروف عرفا كالمشروط شرطا.
ولدحض هذا المنطق الفارغ نذكر بأن المودة والرحمة التي جعلها الله تعالى بين الأزواج تتجاوز الاعتبار الحقوقي، فتتحول خدمة الآخر من الرحمة التي تخلق المودة، وأي مودة ستحل في هذا البيت لو أصبح منطق الأنانية والذاتية هو سيد الموقف والذي سيحول الأسرة ـأو العلاقة بين الأزواج كأنهما جيران كل واحد يدبر شؤونه، ولعل هذا سيدفع بالكثير من الرجال إلى العزوف عن الزواج على اعتبار أن الوضع ما قبل الزواج لن يتغير بعده، كما أن الرجل سيعلم مسبقا بأن مصيره مستقبلا سيكون دار العجزة لعلمه بأن زوجته تعتقد بأنها ليست مجبرة على خدمته.
ومن الغريب أن العديد من النساء النشيطات في مؤسسات العمل المدني أو في المساجد ودور الثقافة والتنمية والرعاية الاجتماعية يقدمن آلاف الخدمات للأجانب وهو مطلب شرعي حميد، ولكن كيف يعقل أن تعتبر خدمة الآخرين مطلبا شرعيا يجازى عنه، وخدمة الزوج بعيدة عن الشرع الذي جعل الرابطة بينهما ميثاقا غليظا.
إن في سورة آل عمران آية تشكل مفصلا في فهم هذه القضية وهي قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المومنين مقاعد للقتال) فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم كقائد مباشرة من بيته إلى ساحة القتال يدل بما لا يدع مجالا للشك على الدور المهم الذي يلعبه البيت في توفير الاستقرار التام للقائد لأن وجود بيت يعج بالصراعات والاهتمامات الفردية النرجسية لا يمكن أن يسهم في توفير أجواء الدعوة والعمل بالنسبة للرجل.
وإذا أردنا أن نعالج الأمر من حيث العرف، فإن العرف مصدر من مصادر التشريع ما دام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، والعرف الذي ساد طيلة أزمنة في تعاطي الأمهات والجدات مع أزواجهن فيه كثير من المفاسد حيث تعرضت العديد من النساء إلى ظلم الأزواج ومن ذلك استثناؤهن من الميراث، أو تقديم الذكر عليهن في المعاملات أكلا ولباسا وتعليما، ومثل هذه الأمور تعتبر من العرف الفاسد الذي لا يأخذ به التشريع الإسلامي. ولكن تمة الكثير مما يحمد وكان له النصيب الأوفر في استثباب واستقرار الأسر منه حرص المرأة على خدمة زوجها وأبنائها والسهر على أن يكون البيت بيت راحة وأمن، كما كانت المرأة تعمل على رفع شأن زوجها فلا تعصي له أمرا مما جعل الأبناء ينحون هذا المنحى وبالتالي جعلهم يشبون على احترام الأب وتقديره وطاعته فانعدمت بذلك كل الانحرافات والسلوكات غير السوية التي أصبحت تطال العديد من شباب اليوم في الأسر التي ارتجت فيها مكانة وقيادة الأب والزوج.
وحتى لا نجعل المرأة في كبد وضنك أبدا، فلابد من المساعدة والتخفيف عنها بعض الأعباء تشجيعا لها وتقديرا على ما تقوم به من صنيع، اعترافا لها بالمجهودات الجبارة التي تبذلها والأعمال الكثيرة التي تقوم بها، وذلك يكون بتعليم الأبناء مثلا كيف لا يكونون معوقين عالة على والدتهم في كل شيء وأبسط الأمور، وحتى لا يشب على اعتقاد فاسد هو أن والدته خادمة من جهة وحتى لا يشب على الكسل والاتكالية في كل شيء من جهة أخرى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله ويخيط ثوبه، وهو الذي قسم الأعباء الاجتماعية بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، فجعل فاطمة تتكفل بأعباء البيت داخليا وعليا يتكفل بكل ما هو خارجي كالعمل وكسب الرزق.
إن للفقهاء آراء كثيرة في المسألة وما يهمني هنا هو ذكر ما يؤيد خدمة المرأة لزوجها وفي بيتها كراعية ومسؤولة عن رعيتها، مما يمنح الأسر بعضا من الاستقرار الذي بدأ يفتقد، فمن ذلك قولهم بلزوم الخدمة على المرأة إذا جرت العادة به، وتزوجت دون أن تشترط عدم الخدمة، لأن زواجها ضمنيا يحمل قبول الخدمة، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا.
وقد ذهب ابن تيمية إلى القول بوجوب الخدمة بالمعروف، وحدد طبيعة الخدمة حسب الظروف أي جعل خدمة القوية تختلف عن خدمة الضعيفة، وخدمة القروية تختلف عن خدمة البدوية.
وقال ابن القيم بوجوب الخدمة واستدل بقصة فاطمة حيث قال: « حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمة البيت، وحكم على علي بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب المالكي، يقول ابن القيم: » والخدمة الباطنة: العجين، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كله.
وإذا كانت تمة أقوال أخرى تقول بعدم وجوب الخدمة، فإن وجود الخلاف يستوجب العمل بالأحوط الذي يكون العمل به أكثر اطمئنانا بعدم المخالفة.
ومن غريب ما يثار في هذا الموضوع هو أن البيوت كانت مستقرة منذ قرون وقد تعارفت على خدمة المرأة لزوجها وأبنائها، والمرأة بذلك مطمئنة تبتغي الأجر عند الله، فجاء أناس أرادوا تأليب المرأة على ما ساد من عرف فرفعوا أصواتهم من فوق المنابر بالقول بعدم وجوب خدمة المرأة في بيتها، فأرادوا بذلك إيقاظ فتنة وإشعال الحرب في بيت الزوجية، الذي يعد اللبنة الأهم في صناعة القادة عندما يستثب فيه الاستقرار والأمن والسكينة.
Aucun commentaire