في الحاجة إلى مرصد وطني للتراث اللامادي الصوفي نبش في سؤال الأهلية والتحقق
نحوشرفة معرفيةٌ مُتميّزة على روحانيةِ الإسلام
د. بلقاسم الجطاري
أضحى الرأسمال الروحي كشكل من أشكال التراث اللامادي، في ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العالم، مفتاحا رئيسيا لترسيخ ونشر القيم الأخلاقية الفاضلة في النفوس والمجتمعات، بما يعود على الإنسانية جمعاء بانتشار الخير والفضيلة والسلم ، ويؤدي إلى استتباب الهدوء والسكينة والأمان. فبالرغم مما راكمته البشرية ، في العقود الأخيرة، من معارف وخبرات وعلوم وتجارب ووسائل تكنولوجية، لم تستطع أن تحد من مظاهر النزاع والحروب، أو توقف أشكال سوء التفاهم وانعدام التواصل والحوار، إذ ما تزال الصراعات الدامية ، والتفاوتات الاجتماعية الصارخة، متقدة في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد وجبهة، سواء داخل المجموعة الأممية الواحدة، أو بين أمم من أطياف شتى دينيا وعرقيا وطائفيا وإيديولوجيا.
وإذا كانت العديد من النزاعات والشقاقات مطبوعة بالفهم الخاطئ للدين الإسلامي، الذي يغذي أشكال الكراهية والعنف والتطرف، ففي المقابل فقد أسهم التمثل الصحيح والسليم لهذا الدين، عبر مراحل التاريخ المختلفة، في أن يكون مصدرا للتعايش والأمن والسلام. والإسلام، كدين عالمي حضاري يزخر في مقاصده وتعبيراته، بقيم السلام والتعارف بما فيه خير الجميع. وقد استطاع المغاربة، منذ اعتناقهم هذا الدين أن يتشربوا منه قيم المحبة والتعاطف والأخلاق الحميدة، ويصوغوا منها معالم نظريات وحركات روحية صوفية أثمرت العديد من الأشكال الاجتماعية من رباطات وزوايا، نتج عنها انتشار الإسلام الوسطي المعتدل.
غير أن هذا الأمر لن يحول بينا وبين طرح مجموعة من الأسئلة المحرجة من قبيل:
هل يستطيع الباحث في التراث اللامادي الصوفي أن يباشر عمله دون أن يضطركل مرة إلى تبرير خياراته البحثية؟ أي دونما حاجة إلى بيان النفع الذي يرتجيه من الخوض في هذه التعبيرات؟ الحقيقة الساطعة هي أنه لا يستطيع ذلك.فهو ملزم، على خلاف الباحث في التراث المادي، بقياس الجدوى وعرض الغايات وبيان أثر إنتاجه العلمي على مشاريع تنمية المجالات وتأهيلها.
إن أولى تحديات البحث في قضايا التراث اللامادي الصوفي ليست من صميم الإشكاليات الموضوعية التي تستوجبها الشروط العلمية، ولكنها تحدي جانبي إضافي يقضي بتوفير السند الغائي الذي يوجه عمل الباحثين في هذا المضمار، مع ما يتطلبه ذلك من جهد حجاجي لإقناع المؤسسات الراعية للبحث، وجهد ثان للإيجاد شركاء ومتدخلين لا يمكن الاستغناء عن مساهمتهم في هذا الباب، اعتبارا للطابع العَرْضَاني المميز لقضايا التراث الصوفي في عموميته.
سنحاول عبر هذه الورقة الموجزة بيان الجدوى من إعداد مرصد وطني للتراث اللامادي الصوفي، ووضع الأصبع على الآثار الإيجابية التي يمكن أن تترتب عن ذلك، حال أسبغت على المشروع عنايةُ مؤسسيةُ ملائمة، وحال تَمّ وضع المشروع ضمن ورش بحثي-تنموي وطني. لكننا سنستعرض، قبلا، الشروط التي يجب توفرها لإنجاز المشروع، ووضعه على سكة النجاح؛ تخطيطا وإنجازا وتتبعا وتقويما.
شروط لازمةلإنجاح المشروع:
سيعمل المرصد الوطني للتراث اللامادي الصوفي على ترسيخ معاني وقيم السلم والسمو والعتالي، والتمكين لها اجتماعيا وثقافيا في مواجهة تيارات العنف والتطرف والكراهية، ويتجلى ذلك من خلال المستويات الآتية:
على مستوى التدين: انخراط المؤسسة التربوية الصوفية في مناهج وبرامج تدبير الشأن الديني التي يضعها المغرب، والتي أصبحت تصدر إلى العديد من البلدان الإفريقية والأوربية وغيرها، بما أثبتته من نجاعة في اقتلاع الجذور الفكرية والسلوكية للتطرف والإرهاب، وقدرتها على صياغة الشخصية المسلمة المتسامحة.
على مستوى السلوك الفردي: فنظرا للعلاقة الروحية التي تجمع شيوخ التصوف بمريدهم وأتباعهم، تمتلك المؤسسة التربوية الصوفية، أدوات التأثير المعنوي الأقدر على تطهير الروح والقلب من الأخلاق السيئة، وغرس القيم والفضائل الروحية السامية؛ لكون المريد يكون في اتصال روحي وثيق بشيخه، ممتثلا لتوجيهاته وإرشاداته.
على مستوى العلاقة مع الآخر: تركز الطرق الصوفية، على تحقيق مبدإ التعاون والانسجام مع الآخرين، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم ومذاهبهم وقبائلهم ومستوياتهم الاجتماعية؛ ومن هنا، فهي تبني رباطا روحيا قويا يقود الجميع بروح المحبة. كما أن سلطتها الروحية والأخلاقية تحقق قدرا كبيرا من التناغم والتعايش تحول دون اندلاع الصراعات المدمرة.
على مستوى العلاقات الاجتماعية الداخلية: تعد التنظيمات الصوفية بمثابة خلايا اجتماعية تقوم بتنظيم الأداء الاجتماعي للمنتسبين إليها، وتوفر لهم، على اختلاف درجات انتمائهم، مستوى معينا من الأمن الطمأنينة، وتنظر في احتياجاتهم الوقتية وأوضاعهم الاجتماعية. ويساهم القيمة الاعتبارية والروحي لمشايخ الطرق الصوفية في تيسير سبل التفاوض الاجتماعي مع باقي القوى الاجتماعية (ومنها الحاكم والمحكوم والأحزاب فيما بينهاوفعاليات المجتمع المدني والقبائل..)؛ من أجل فرض النظام، وحفظ السلام المجتمعي.
على مستوى التقويم والتقييم: ضرورة هيئة تتكون من شيوخ وأطر فاعلة في مختلف الطرقِ والزوايا ذات كفاءةِ ونزاهةِ خُلقية وعِلمية لتقويموتقييم الواقع الصوفي الراهن.
على مستوى الارتباط بروح العصر: من أهم تجليات الفاعلية الاجتماعية لدى التصوف المغربي، رغبته في إقامة السلم الاجتماعي، وعمله المستمر على جلب المنافع ودفع المضار، وحسم أي نزاع باللجوء إلى آليات الوساطة والتحكيم والشفاعة، إضافة إلى التركيز على الأعمال ذات النفع العام. كما أن للتصوف أربابه اليوم أهمية وشأنا أكبر في التنمية الروحية للمجتمعات؛ بحيث يمكن الاستفادة من رصيده الروحي في ترسيخ أخلاق التعاون والتضامن بما يقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كما أن لهذا الرصيد دورا فاعلا في الحفاظ على صحة الإنسان، وحماية المنظومة البيئية من عمليات التخريب المستمر، التي تفرضها قوى الجشع المادي، مستغلةً تقنيات التكنولوجيا الحديثة.
إذاً فالسؤال المطروح هو: كيف تستطيع أن تساهم المؤسسات التربوية الصوفية، بشكل ناجع، في تحويل مبادئ التصوف ومفاهيمه عن السلوك السلمي التصالحي إلى مواقف وقناعات حاصلة تربويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا؟
ومن هذا السؤال المركزي تنبثق تساؤلات فرعية هي: ما هي معالم نظرية السلم الاجتماعي في تصوف الطرق الصوفية؟ وكيف استثمرت قيمها ومعانيها على صعيد التربية الصوفية؟ وكيف مكنت لها اجتماعيا، وحولتها إلى سلوكات وتقاليد ضابطة للسلوك الفردي والاجتماعي؟ وماذا حققت من نتائج على صعيد ترسيخ السلم الاجتماعي والتنمية الروحية ؟ وما هو دورها في العلاقات الديبلوماسية الروحية والثقافية المغربية- الاوروبية / الإفريقية؟
إن نجاح مشروع من هذا القبيل يتوقف على جملة من الشروط التي يمتزج فيها الثقافي بالسياسي، والفردي بالجماعي، والتاريخي بالجغرافي، على نحو يستدعي معه وعيا جماعيا بالسياقات الوطنيةوالدولية ، وبمستلزمات التنسيق والعمل الجماعي.
وهكذا فإن دور وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي والأوقاف والشؤون الإسلاميةثابت في هذا الباب؛ لأن الأمر يتعلق بمشروع علمي ديني يجب أن تتكاثف فيه المجهودات والنتائج والخبرات المؤسسية الأكاديمية، وأن تستعرض فيه المشاريع المنجزة؛ تقييما وتقويما. والحديث هنا عن دور المؤسسة الجامعية يجرنا إلى مساءلة مستويات العمل التشاركي والتعاوني الوطني، ونعني درجات التنسيق بين المؤسسات الجامعية في مجالات البحث المختلفة.
نحن إزاء وضع يقل فيه التعاون البين-جامعي الوطني في شتى المناحي والمستويات، لذا فإن إنجاز المرصد موضوع هذه الورقة، يقوم، أساسا، على تطوير صيغ الشراكة والتعاون بين المؤسسات الجامعية ، أي أن أول شروط إنجاح المشروع هو تشبيك العلاقات الأفقية بين المؤسسات الجامعية، وابتداع آليات للعمل المشترك، باستغلال الوسائط والتطبيقات المعلوماتية التي يتيحها التطور التقني الجاري راهنا في الجامعات الغربية.
يسعى هذا المشروع إلى تحقيق الأهداف التالية:
إبراز دور مؤثرات النموذج الإسلامي المغربي تاريخا وراهنا في توجيه المؤسسات التربوية الصوفية نحو اتخاذ منهج السلم التصالحي في مناهجها التربوية وسلوك أتباعها العلمي الفردي والجماعي؛
استخلاص دور القيم الروحية لهذه المؤسسات التربوية الصوفية، وفاعليتها في تنظيم الحياة الاجتماعية ، وصياغة السلوك الفردي والجماعي وفقا لقيم الذوق الصوفي والسلم الاجتماعي؛
إدراك أهمية هذا النهج السلمي التصالحي للطرق الصوفية في وقاية المجتمع من العنف المادي والرمزي، والتصدي لمظاهر التطرف والكراهية والإرهاب؛
إعادة الاعتبار لمراكز الجذب والإشعاع العلمي والروحي للمراكز ذات الصدى العابر للحدود القطرية كما تمثلها المؤسسات التربوية الصوفية؛لأن من شأن ذلك تعضيد العلاقات،وتشبيك المصالح،وإشاعة جو التعاون والتآخي؛
إدماج المؤسسات التربوية الصوفية ضمن برامج ومشاريع الديبلوماسية الروحية والثقافية المغربية، بالنظر إلى دورها في إشاعة النماذج الوسطية في التدين،والتي يمثلها النموذج المغربي القائم على الثوابت الدينية والروحية،المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف المستمد من سلوك الإمام الجنيد.
الآمال والمآل:
سنعرض في هذا المحور الآفاق الواعدة المرجوة من هذا المشروع، وكذا النفع العميم الذي يمكن أن يمس عددا من مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية بالمغرب حال تم احتضان المشروع من قبل دوائر القرار بالمؤسسات السياسية والاقتصاديةالوطنية.
إن أول ما سيوفره هذا المرصد هو التوثيق المتطور للمادة التراثيةللرأسمال الروحي، أي أنه سيتيح قاعدة بيانات ورقية وإلكترونية ونَوَيَاتٍ معلوماتية دقيقة، باعتماد واصفات (مصطلحات) وتسميعات وتبصيرات (ثابتة ومتحركة) توثق المادة التراثية الصوفية الغنية.
– توثيق المادة التراثية على هذا النحو سيتيح للهيئات والمؤسسات المحلية والوطنيةتوفيرمادة مرجعية غنية للباحثين والمبدعين الذين يعنيهم اعتماد الموروث الثقافي الصوفي أساسا لخلق مشاريع إبداعية وطنية وعالمية جديدة.
-مرصد التراث اللامادي الصوفي يمكن أن يكون فرصة لإعادة توطين كثير من اشكال التعبير الثقافي اللامادي الديني ، كما سيوفر للباحثين فرصا للغوص إلى عمق الأشكال التعبيرية، وعقد مقارنات بينية تضع الأصبع على التقاطعات الثقافية، بشكل يفترض فيه أن يفتح العيون أمام غنى المشترك الثقافي المغربي .
-المشروع واعد لدواع أخرى كثيرة ذات صلة بالجانب العلمي الأكاديمي، إذ يفترض فيه أن يكون معينا وثائقيا دقيقا ومأرشفا متعدد اللغات، لذا سيقدم خدمة كبرى للمؤسسات البحثية الأكاديمية الجامعية ، في شتى مناحي المعرفة الإنسانية. وسيعبد الطريق أمام الباحثين المنشغلين في شجون الإنسانيات الروحانية ، كما سيمكن من تقليص الكلفة المادية التي يستوجبها البحث العلمي في قضايا التراث الصوفي ،وبخاصة إذا استحضرنا ضعف الإمكانيات المالية المرصودة للبحث العلمي بالجامعات المغربية.
ختاما، ينبغي التنويه إلى أن الأمر يتعلق بورقة نظرية، في شكل مرافعة موجزة، غايتها بيان الأسس والجدوى، وأن مشروعا من هذا القبيل يحتاج إلى احتضان مؤسسي من قبل هيئة وطنية ذات صلاحيات ونفوذ اعتباري وسياسي. كما تجدر الإشارة إلى لزوم تقييم التجارب الأجنبية الجارية في هذا المضمار، رغم قلتها، حتى يتيسر للمؤسسات الراعية للبحث العلمي تقديم مقترحات ملائمة، في أفق تجميع التصورات، وبلورة خطة عمل واضحة، تتضمن الشروط المادية والتنظيمية والعلمية المختلفة.
Aucun commentaire