جولة في جديد قاسم رابح واعمر
بعدما خصص السيد قاسم إصداره الأول لفترة حياته بمسقط الرأس التي توالت فيها الانكسارات، وأبت ،، الشهادة الابتدائية،، أن تستسلم له إلا بعد ثلاث سنوات كاملة نالت من جهده ونفسيته، بعد ذلك كله، ظهر الجزء الموالي من هذا المشروع البيوغرافي الذي يتقاسم محنه مع جيل بأكمله.
كانت حياة الكاتب قد انطبعت بكثير من الحركة في جنبات الأرض بمسقط الرأس، حيث شارك في كل الأنشطة التي يعيش منها السكان، إلى درجة أنه جرب أشكالا من التجارة المتعبة أطلق على إحداها،، طريق الشوك،، على غرار طريق الحرير والذهب اللذين أتيحا لغيره، ولم يعد أمامه إلا شوك الصبار والحلفاء ليكون سائر جسمه حقلا يجرب فيه كل صنوف المعاناة!
كانت جرادة هي المحطة الموالية التي ينزل فيها ولد يافع تخلص لتوه من غول،، الشهادة،، التي أوقفت مسيرة العديد من المتعلمين ليلتحق بالتعليم الثانوي منتصف الستينات.
كانت فرحة التلميذ الذي استعاد شيئا من الدعة بعدما انتقل الى طور اعلى قصيرة، ذلك أن مشاكل عديدة ستطفو على السطح من جديد لتؤكد له مرة أخرى بأن الوصول الى أحلامه ما زال بعيد المنال.
وصل التلميذ قاسم الى المدينة العمالية في الفترة الزاهية للتعليم المغربي، حيث كانت كل مرحلة تؤهل صاحبها ليحتل مكانا ما في المجتمع يسمو به كلما كان مستواه أعلى!
وبالنسبة لجرادة، فقد اشتهرت بنباهة تلاميذها ونجابتهم التي لعب فيها الفرنسيون دورا هاما من خلال الحوافز التي اشار الكاتب الى بعضها، واكثر من كل ذلك فإن نسبة التلاميذ الموجهين نحو الشعب العلمية كانت دائما هي الراجحة، والدليل على ذلك أن كثيرا من المهندسين في المعادن الذين عملوا بمنجم الفحم هم من ابناء البلدة المتفوقين.
بعدما تأقلم الكاتب مع أجواء المدينة- على علاتها-وجد طريقا جديدة للإقبال على الحياة من خلال البحث عن مصادر المعرفة المتاحة ليصبح متعلما تظهر عليه مخايل الرغبة في التحصيل وتظهر إرهاصات مواهبه الأدبية.
وللتاريخ، وعندما وصلت بدوري الى جرادة لمتابعة دراستي الثانوية بذات المؤسسة اليتيمة يومئذ، وجدت أصداء معظم التلاميذ النجباء من أصول مختلفة قد ملأت الافاق، وكان الكاتب واحدا منهم.
وهكذا دفعني الفضول للاطلاع على بعض مواضيعه الإنشائية التي كان التلاميذ يتحدثون عنها، وأذكر أني تسلمت موضوعا خصص له كناشا من 12 صفحة يتحدث فيه عن فقير.
لقد انبهرت بإبداع التلميذ وانبهرت اكثر بملاحظة أستاذه الذي اتى على ذكره في المؤلف.
لقد كانت ملاحظة الأستاذ:
(لست اشكرك على ابداعك في تناول الموضوع فقط، ولكن كذلك على استعدادك الكبير لكتابة القصة)كذا!
كان أستاذان أنيقان ومثقفان قد حلا بثانوية جرادة قادمين من تطوان، وكان الرجلان منحة الهية للراغبين في التعلم شاءت الاقدار أن يدرس الكاتب اللغة العربية على يد أحدهما.
جازى الله الرجلين عنا كل خير.
وجد الفتى معالم الطريق فانتظم عطاؤه سريعا ليصبح الكتاب غذاءه الثاني لينسى الطعام الا ما يسد الرمق واللباس الا ما يستر الجسم.
لكن حياة معظم الناس ومنهم الكاتب لا تكاد تستقيم حتى يصيبها الشرخ فجأة وكأني بها تسقيهم المرارة في انتظار مفاجأة ما لا يعرفون وقتها!
بدأت الافاق الفكرية تتسع في مدينة يعيش أهلها على الصراع مما جعله يستجمع خيوط التاريخ التي سمحت بميلاد مدينة ، وهو ميلاد حصل بفعل الصدفة وتفاعل الإنسان والحيوان حتى اكتست النشأة طابع الأسطورة التي لن تجسدها إلا سواعد فرسان الأعماق الذين توسع الكاتب في تشخيص معاناتهم وسوريالية حياتهم.
لقد تمكن الكاتب من كشف بعض أسرار جرادة الاجتماعية والسياسية بعدما انخرط بطريقته في الأنشطة النقابية التي بصمها الزعيم الراحل الطيب بن بوعزة، كما لم يغفل مأساة اليهود التي حصلت تزامنا مع نكبة فلسطين.
لم تغب الحياة الاجتماعية وتعقيداتها عن اهتمام الكاتب الى درجة أنه تجاوز شرنقة المدينة التي تعج بالمتناقضات لينهل مما كانت تزخر به الطبيعة الغنية، مما جعله يدخل في نوبات تأمل جرب فيها مقروءاته الفكرية/ الصوفية التي استحوذت على عقله خلال فترة البحث عن الذات التي يمر بها كل طالب علم، وهي فترة قد تدخل صاحبها في متاهات لا يجد عنها محيدا إلا بالانغماس في الموبقات التي يرى فيها متنفسا مؤقتا سرعان ما يجعله في مواجهة المجهول!
ومعلوم أن طالب العلم كلما تدرج في مستويات الدراسة، إلا وحاول أن يشيد لنفسه نسقا فلسفيا يعززه بما تغلي به الساحة الدولية خاصة في ذلك الوقت من تيارات فكرية وتنظيرات لخلاص العالم!
لم يسلم صاحبنا من هذه العواصف التي تعبث بالمعتقدات الموروثة التي يتركها جانبا ويستعيض عنها ببدائل سرعان ما يخبو أوارها لأنها منتوج بشري لا يصمد أمام شرائع الخالق التي نستصغرها في فترات من حياتنا لنعود اليها ذات يوم وقد بلغ بنا الندم والحسرة مداهما!
كانت سنوات التحصيل بجرادة حافلة بالرجات التي أثرت على نفسية الكاتب، فأبى إلا أن يعيد تشكيلها انتقاما لنفسه ومنها كذلك، فقد استطاع أن يصور معاناته بدقة بالغة لا يتصنع فيها شيئا.
لقد كان مجهود الكاتب واضحا في هذا الإصدار الذي تجاوز السرد البيوغرافي ليتحول الى قيمة فكرية مضافة سيجد فيها القارىء متعة ومعلومات قيمة حول جرادة وتفاصيل الحياة فيها، إلى جانب إحاطات تطلبت كثيرا من البحث والتتقيب.
في الختام، أترك للقارىء أن يكتشف الجزء الثاني من حفر السيد قاسم رابح واعمر في ماض نقاسمه فيه اشياء عديدة، إذ يمكن اعتباره، وبدون مبالغة وثيقة سيسعد القارىء بالتجول في صفحاتها ، وبأسلوبها الذي كان على المقاس.
وإلى بقية الأجزاء في القريب إن شاء الله.
Aucun commentaire