Home»International»الحياة الفكرية في عهد الدولتين المرابطية و الموحدية من خلال كتاب المعجب في تلخيص اخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي ـ الجزء 3 ـ

الحياة الفكرية في عهد الدولتين المرابطية و الموحدية من خلال كتاب المعجب في تلخيص اخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي ـ الجزء 3 ـ

4
Shares
PinterestGoogle+

ثالثا: مظاهر الحياة الفكرية في العهد الموحدي: رصد و تعليق
إذا كان ما رصده المراكشي من مظاهر الحياة الفكرية على عهد المرابطين يعطي انطباعا بأن دولة المرابطين هي دولة فقهاء قضت عمرها كله في تشجيع فقه الفروع مهملة علوم النظر ـ و هي صورة مغلوطةـ فإنه يعطي بما يعرضه من المظاهر في عهد الموحدين صورة أكثر إيجابية عن دولة سادت فيها الحياة الثقافية و انطلقت فيها حرية الفكر و البحث لتعم أنواع الثقافات المختلفة ـ بالرغم مما طال فقه الفروع من مطاردة ـ كما سنعرض له ـ حتى غدت من أخصب فترات الحياة الفكرية في المغرب.
و لعل من أهم هذه المظاهر الفكرية ـ كما تستشف من كلام المراكشي ـ ما يلي:
⦁ إهتمام الأمراء الموحدين بالعلوم طلبا و تشجيعا.
فالمهدي بن تومرت ـ مؤسس الدولة الموحدية ـ كان من كبار علماء عصره، رحل في طلب العلم إلى المشرق سنة 501 هـ فانتهى إلى بغداد حيث  » لقي أبا بكر الشاشي فأخذ عليه شيئا من أصول الدين ـ علم الكلام ـ و سمع الحديث على المبارك ابن عبد الجبار و نظرائه من المحدثين » و أقام بالاسكندرية  » يختلف إلى مجلس أبي بكر الطرطوشي الفقيه » و زار الشام حيث قيل أنه إلتقى فيها بالغزالي و هو لقاء لم يجزم عبد الواحد المراكشي بحصوله، ذكره مرة وقال » و قيل إنه لقي أبا حامد الغزالي بالشام أيام تزهده، فالله أعلم » .
و ذكره ثانية بقوله:  » حكى أنه >كر للغزالي ما فعل أمير المسلمين بكتبه التي و صلت إلى المغرب من إحراقها و إفسادها و ابن تومرت حاضر ذلك المجلس فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه و ليقتلن ولده و ما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرا مجلسنا » .
و بعد أن استجمع ابن تومرت علما نزل يعلم الناس، يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مما كان سببا في نفيه في مرات كثيرة: نفي من الإسكندرية » حيث جرت له بها وقائع في معنى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أفضت إلى أن نفاه متولي الإسكندرية عن البلاد فركب البحر، و استمر على عادته في السفينة في البحر فأقام أكثر من نصف يوم في ماء السفينة و لم يصبه شيء فلما رأوا ذلك من أمره أنزلوا إليه من أخذه من البحر و عظم في صدورهم و لم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب بجاية » ، حيث أظهر تدريس العلم و الوعظ فاجتمع عليه الناس فخاف صاحب بجاية عاديته فأمره بالخروج عنها فخرج متوجها إلى تلمسان إلا أنه فصل عنها بعد أن استمال وجوه أهلها و ملك قلوبهم فخرج قاصدا فاس حيث جهر بآرائه فأشار الفقهاء على والي البلد بإخراجه لئلا يفسد عقول العوام فأشار عليه بالخروج فخرج متوجها على مراكش ليلقى نفس المصير فتوجه هو و أصحابه إلى سوس فنزل بموضع منها يعرف بتيمل حيث أقام دعوته و شرع في تدريس العلم ـ من غير أن يبدي رغبة في الملك ـ و ألف لمن اجتمع إليه من المصامدة عقيدة بلسانهم  » و لما فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له… فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه أولا في صورة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر » ، ثم أخذ يذكر لأصحابه صفات المهدي و يشوق إليه و يذكر الأحاديث الدالة عليه حتى إذا استقر ذلك في نفوسهم صرح بدعوة العصمة لنفسه و أنه المهدي المعصوم و روى في ذلك أحاديث كثيرة
فأسرع الموحدون بمبايعته ثم ألف لأتباعه تصانيف منه  » أعز ما يطلب » و عقائد في أصول الدين .
و كان عبد المومن بن علي ـ المؤسس الحقيقي للدولة الموحديةـ  » عالما موثرا لأهل العلم محبا لهم إليهم يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده بالجوار بحضرته يجري عليهم الأرزاق الواسعة و يظهر التنويه بهم و الإعظام لهم » .
و كان أبو يعقوب يوسف بن عبد المومن أيضا من كبار العلماء و  » أعرف الناس كيف تكلمت العرب و أحفظهم لأنسابها و مآثرها و جميع أخبارها في الجاهلية و الإسلام صرف عنايته إلى ذلك أيام كونه بإشبيلية واليا عليها في حياة أبيه و لقي بها رجالا من أهل اللغة و النحو و القرآن » اجتمع حوله طائفة من أعظم علماء عصره و مفكريه منهم أبو بكر بن طفيل و أبو الوليد بن رشد و أبو بكر عبد الملك بن زهر.
و كان أبو محمد عبد العزيز بن أبي يعقوب  » أرطب الناس بذكر الله و أتلاهم للقرآن لا يخل بشيء من أوراده و لا يترك وظيفة من الوظائف التي رتبها على نفسه من أخذ العلم و قراءة القرآن و أذكار رتبها على أوقات الليل و النهار » .
عموما اهتم الموحدون بالعلم و العلماء و » جرت عادتهم بالكتب إلى البلاد و استجلاب العلماء إلى حضرتهم من أهل كل فن، و خاصة أهل علوم النظر » كما يقول المراكشي.
⦁ الاهتمام بالفلسفة:
احتشد البلاط الموحدي بكبار الفلاسفة خاصة في عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن الذي سمت نفسه إلى دراسة الفلسفة و علومها. يقول المراكشي » ثم طمع به شرف نفسه و علو همته إلى تعلم الفلسفة فجمع كثيرا من أجزائها و بدأ من ذلك بعلم الطب فاستظهر من الكتاب المعروف بالمالكي أكثر مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل، ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة و أمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي  » و قرب إليه الفلاسفة » و لم يزل … يبحث عن العلماء و خاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب » و كان يجري عليهم المرتبات.
فالفيلسوف أبو بكر محمد بن طفيل و هو  » من العلماء المتفننين، واحد فلاسفة المسلمين ـ المتحققين ـ بجميع أجزاء الفلسفة » كان من المقربين للخليفة يوسف بن عبد المومن ، له مرتب كغيره من موظفي الدولة يقول المراكشي: » بلغني أنه كان يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة، من الأطباء و المهندسين و الكتاب و الشعراء و الرماة و الأجناد إلى غبر هؤلاء من الطوائف » . و قد كان الأمير شديد الشغف به و الحب له إلى درجة أنه ـ أي ابن طفيل ـ كان يقيم في القصر عند الأمير أياما ليل نهار . و قد كان ابن طفيل لحظوته عند يوسف و ثقته به « يجلب إلى الأمير العلماء من جميع الأقطار و ينبهه عليهم و يحظه على إكرامهم و التنويه بهم، و هو الذي نبه إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد، فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم » .
و كان الأمير على سعة اطلاع بعلوم الفلسفة يظهر ذلك في الحوار الذي دار بينه و بين الفيلسوف ابن رشد بمحضر من ابن طفيل.
يقول ابن رشد ـ فيما لأخبر به تلميذه أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي عبد الواحد المراكشي. » فكان أول من فاتحني به أمير المؤمنين أن قال لي : ما رأيهم في السماء ـيعني الفلاسفة ـ أ قديمة هي أم حديثة؟ فأدركني الحياء و الخوف فأخذت أتعلل و أنكر اشتغالي بعلم الفلسفة … ففهم أمير المؤمنين مني الروع و الحياء فالتفت إلى ابن طفيل و جعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها و يذكر ما قاله أرسطو طاليس و أفلاطون و جميع الفلاسفة، و يورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم ، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، فلم يزل يبسطني حتى تكلمت فعرف ما عندي من ذلك فلما انصرفت أمر لي بمال و خلعه و سنية و مركب » و هكذا أظهر الخليفة من العلم بالفلسفة ما أثار انتباه ابن رشد و دهشته و لم يفت الخليفة في نهاية هذا اللقاء أن يخص ابن رشد بالعطايا تشجيعا له. و لم يقف شغف الخليفة عند حد تعلم الفلسفة و تقريب المشتغلين بها بل شجع على تلخيص كتبها ليتسنى للناس فهمها يقول ابن رشد: » استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي : سمعت اليوم أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطو طاليس أو عبارة المترجمين عنه، و يذكر غموض أغراضه و يقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها و يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس ، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، و إني لأرجو أن تعنى به، لما أعلمه من جودة ذهنك و صفاء قريحتك و قوة نزوعك إلى الصناعة… قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطو طاليس » .
و لما كانت ولاية أبي يوسف يعقوب المنصور نالت أبا الوليد بن رشد محنة شديدة أرجع المراكشي أسبابها إلى أن ابن رشد في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو طاليس لم يلتزم جانب الأدب في الحديث عن الخليفة الموحدي حين تحدث عن الزرافة و كيف تتولد و بأي أرض تنشأ بقوله: » رأيتها عند ملك البربر »  » فكان ـ هذاـ مما أحنقهم عليه غير أنهم لم يظهروا ذلك… و استمر الأمر على ذلك إلى أن استحكم ما في النفوس، ثم إن قوما ممن يناوله من أهل قرطبة و يدعي معه الكفاءة في البيت و شرف السلف سعوا به عند أبي يوسف ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا تلك التلاخيص التي كان يكتبها فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: » فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة… » فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء و الأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة  » و سأله إن كان هذا خطه فأنكر ابن رشد فاتهمه أبو يوسف بأنه كذاب و لعن الكاذبين و طلب إلى الحاضرين أن يلعنوهم ثم أمر بإبعاده على حال سبيله و إبعاد المشتغلين بهذه العلوم و إحراق كتب الفلسفة كلها عدا ما كان في الطب و الحساب و علم النجوم .
و هكذا تراجع الاهتمام بالفلسفة و ابعد المشتغلون بها ، إلا أن هذا لم يدم طويلا، فما إن عاد الخليفة إلى مراكش حتى » نزع عن ذلك كله و جنح إلى تعلم الفلسفة و أرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه » .
⦁ الاهتمام بالمتصوفة:
عاش في المغرب الأقصى خلال هذا العهد الكثير من الصالحين و المتبتلين ممن اتخذوا التصوف بمعنى الزهد و مجاهدة النفس و الإكثار من العبادة و الأذكار ـ منهجا لحياتهم فتجمع حولهم المريدون ينهلون من علمهم و معرفتهم لكنهم لم يحضوا عند المراكشي في المعجب بذكر مستفيض اللهم إلا ما كان من إشارات خفيفة وردت في ثنايا كلامه عن الخليفة يعقوب المنصور الذي أمر أن يجمع له الصالحون و المتصوفة من جميع البلاد حتى يصحبوه في حملته الكبرى في الأندلس سنة اثنين وتسعين و خمسمائة للهجرة (592 هـ) متبركا بهم  » فاجتمعت له منهم جماعة كان يجعلهم كلما سار بين يديه » و شملهم بالرعاية و التكريم يقول المراكشي  » و انتشر في أيامه ـ أي المنصورـ للصالحين و المتبتلين و أهل علم الحديث صيت، و قامت لهم سوق و عظمت مكانتهم منه ومن الناس، و لم يزل يستدعي الصالحين من البلاد و يكتب إليهم و يسألهم الدعاء و يصل من يقبل لته منهم بالصلات الجزيلة ».
⦁ محاولة محو المذهب المالكي و الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب و السنة و الأخذ بظاهرهما:
ينقل المراكشي عمن لقوا أبا بكر بن الجد أنه قال : » لما دخلت على أمير المؤمنين ـ يعني أبا يوسف يعقوبـ وجدت بين يديه كتاب لبن يونس فقال لي : يا أبا بكر، إنا ننظر في هذه الآراء المتشبعة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا. فأي الأقوال هو حق؟ و أيهما يجب أيأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك فقال لي و قطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا و أشار إلى المصحف أو هذا و أشار إلى سنن أبي داود و كان بيمينه أو السيف » .
فإذا كان يفهم من هذا الحوارأن الاشتغال بالفروع الفقهية و الجدل الفقهي كانا سائدين في العهد الموحدي، و أن كتاب ابن يونس و غيره من كتب الفقه المالكي كانت شائعة فإن الخليفة يعقوب المنصور مع ما أبداه من كراهية لكثرة الخلافات التي امتلأت بها كتب الفروع إنما يحاول أن يجد مبررا مقنعا لمن حوله من العلماء لما هو مصمم عليه من محو المذهب المالكي و رد الناس إلى الكتاب و السنة وهي رغبة أبيه و جده إلا أنهما لم يتجرآ على تنفيذها، أو لم يظهراها و أظهرها هو.
يقول المراكشي » و كان قصده في الجملة محو مذهب مالك و إزالته من المغرب مرة واحدة و حمل الناس على محو الظاهر من القرآن و الحديث و هذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه و جده إلا أنهما لم يظهراه و أظهره يعقوب هذا » .
و في سبيل ـ تحقيق هذه الرغبة أمر بحرق كتب المذهب » فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس و نوادر أبي زيد و مختصره و كتاب التهذيب للبراذعي وواضحة ابن حبيب و ما جانس هذه الكتب و نحا نحوها » و كانت فاس ـ كغيرها من المدن ـ مسرحا لعملية الحرق هذه يقول المراكشي  » لقد شهدت منها و أنا يومئذ بمدينة فاس يوتى منها بالأحمال فتوضع و تطلق فيها النار » .
و لم يقف الأمر عند حد إضرام النار في هذه الكتب بل تجاوزه إلى التشديد على ترك الأشغال بفقه الفروع و توعد المشغلين به بالعقوبة الشديدة فكان نتائج ذلك أن  » انقطع علم الفروع و خافه الفقهاء » .
إن ما ذكره المراكشي من أن ما أقدم عليه المنصور الموحدي من إجراءات كان القصد منها  » حمل الناس على الظاهر من القرآن و الحديث » و ما جاء في بعض الكتابات من إعجاب الخليفة المنصور بان حزم قوله حين وقف على قبره » كل العلماء عيال على ابن حزم »
دفع بالكثير من الدارسين إلى نسبة الموحدين للظاهرة و أن ما قام به المنصور إنما كان بدافع ظاهريته و حزميته إلا أننا نجد من الباحثين من يرد هذا الرأي و يعتبره زعما و ادعاء ليس له ما يبرره مستندين في ذلك إلى كثير من الدلائل تدفع إلى قبول فكرة أن الموحدين لم يكونوا أبدا ظاهريين .
أما القول بأن أبا يوسف يعقوب المنصور كان يرمي إلى محو مذهب مالك و إزالته من المغرب مرة واحدة فهو » زعم لا يؤيده حجة و لا يقوم عليه دليل واحد، و هناك فرق جسيم بين العمل على صرف الناس عن حفظ مؤلفات بسيطة لا تتضمن إلا أحكاما جامدة مقتبسة من كتب المذهب المالكي و أحكام بعض فقهائه… و بين القول بأن هذا عمل القضاء على مذهب مالك . فإن أبا يوسف يعقوب المنصور كان مالكيا و لا شك و لكنه كان مصلحا لا يرضى عن كتب الفروع و المختصرات » فالأمر ليسإلا دعوة للاجتهاد، و محاولة للقضاء على طريقة التقليد الحرفي لرأي مالك و صرف الفقهاء عن كتب الفروع و ردهم إلى الأصلين الكتاب و السنة دون المس بالمذهب المالكي يقول الناصري » لقد كان عبد المومن بن علي و بنوه من بعده منعوا الناس من التقليد في الفروع و حملوا الأئمةعلى الأخذ بالأحكام الشرعية من الكتاب و السنة مباشرة عن طريق الاجتهاد المطلق و حرقوا شيئا كثيرا من كتب الفروع الحديثة التصنيف » .
و مهما يكن من الأمر فإن موقف المنصور الموحدي لم يفت عضد المالكية و لم يثن عزيمتهم عن الدفاع عن المذهب المالك، بل ظلوا يكافحون في سبيل بقائه، و نجحوا في ذلك فاستمر بذلك المذهب معهم راسخا بنيانه غير مهزوم، و ما أحرق من الكتب أعيد إحياؤه من جديد » إذ لم يصعب على الناس أن يجدوا من يستظهرها بلفظها و تكتب عنه، و هذا الشيخ أبو محمد بن عيسى التادلي الفاسي الفقيه المحصل المتوفى سنة 623 هـ يذكر المؤرخون في ترجمته أن المدونة كتبت من حفظه بعد أن أحرقها الموحدون أي في نفس الوقت تقريبا و مما لا شك فيه أن غيره كثيرون ممن كتب الكتب الأخرى المحروقة من لفظهم و حفظهم » .
المبحث الخامس: الاهتمام بالحديث:
انصرف اهتمام الموحدين بالحديث النبوي الشريف منذ بداية دعوتهم التزاما منهم بما رسمه مؤسس دولتهم المهدي بن تومرت المعروف شغفه بالحديث و طوافه بالمغرب و المشرق للرواية عن كبار المحدثين ، و جمعه الأحاديث .
و قد سار على نهجه الأمراء من بعده. فقد اهتم عبد المومن بالحديث اهتماما كبيرا و جمع لحفظه عددا من الطلبة و عنى بهم أشد عناية.
و كان الأمير يوسف بن عبد المومن حافظا لأحد الصحيحين ، أمر عند تجهزه إلى غزو الروم العلماء » أن يجمعوا الأحاديث في الجهاد تملى على الموحدين ليدرسوها… فجمع العلماء ذلك و جاءوا به إليه فكان يمليه على الناس بنفسه فكان كل واحد من الموحدين و السادة يجيء بلوح يكتب فيه الإملاء » .
و كان شغل يعقوب المنصور توجيه الناس إلى الكتاب و السنة و ترك الاشتغال بارأي يدل ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن الجد من أنه دخل على الأمير و تذاكر معه في أمر الاختلاف الفقهي و أبدى عدم رضاه على تعداد الآراء في المسألة الواحدة و أن الحل هو كما يقول  » يا أبا بكر: ليس إلا هذا، و أشار إلى المصحف و هذا و أشار إلى كتاب سنن أبي داود و كان عن يمينه أو السيف » .
و أيضا ما نقله المراكشي عن شيخ من أهل جيان أنه قال: » لما رجع أمير المومنين من غزوة الأرك … خرجنا نلقاه فقدمني أهل البلد لتكليمه فرفعت إليه فسألني عن أحوال البلد و أحوال قضاته وولايته و عماله … فلما فرغت من جوابه سألني كيف حالي في نفسي: قرأت تواليف الإمام ـ أعني بن تومرت ـ فنظر نظرة المغضب، و قال : ما هكذا يقول الطالب!
إنما حلمك أن تقول : قرأت كتاب الله و قرأت شيئا من السنة، ثم بعد هذا قل ما شئت » .
فأمر يعقوب بتجريد كتب الفقه من الحديث قبل حرقها، و كلف جماعة من المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات الحديثية ـ مجردة من أسانيدها ليسهل حفظها ـ على نحو أحاديث التي سبق لإمامهم أن جمعها في الطهارة، و كان يمليها على الناس في مجالسه و يلزمهم بحفظها و يكافئهم على ذلك. يقول المراكشي : » و تقدم إلى الناس في ترك الأشغال بعلم الرأي و الخوض فيه و توعد على ذلك بالعقوبة الشديدة و أمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة: الصحيحين و الترمذي و الموطأ و سنن أبي داود و سنن النسائي و سنن البزار و مسند ابن أبي شيبة و سنن الدارقطني و سنن البهيقي في الصلاة و ما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة، فأجابوه إلى ذلك و جمعوا ما أمرهم بجمعه … و كان يجعل لمن يحفظه الجُعَل السني من الكسا و الأموال » فكان من ثمرة ذلك  » أن انتشر هذا المجموع في جميع المغرب و حفظه الناس من العوام و الخواص » و كثر الإقبال على السنة ساعد على ذلك ـ بالاضافة إلى تشجيع الموحدين ـ ما قاموا به من استدعاء الحفاظ و المحدثين من بالأندلس و تكليفهم بدراسته، و أيضا ما أسسوه من مدارس علمية ، و ما خصوا به طلاب الحديث من حظوة و تقديم خاص زمن يعقوب المنصور الذي اعتبر نفسه ملجأهم و مهربهم » قال يوما بحضرة كافة الموحدين سمعهم ـ و قد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه و تقريب إياهم و خلوته بهم دونهم ـ يا معشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته و هؤلاء ـ يعني الطلبة ـ لا قبيلة لهم إلا أنا فمهما نابهم من أمر ملجؤهم و إلي ينتسبون، فعظم منذ ذلك اليوم أمرهم و بالغ الموحدون في برهم و إكراههم » .
و قد لمعت في هذا العهد أسماء كبيرة في هذا الميدان منهم ـ و إن كان المراكشي لم يشر إلى أحد منهم ـ :
ـ أبو الحسن علي بن عبد الملك الكتامي الفاسي المشهور بابن القطان (ت 628).
ـ أحمد بن هارون بن عات (ت 609).
ـ أبو عبد الله محمد بن أحمد اللخمي التلمساني المكناسي الشهير بابن الحجام (ت 614).
ـ أبو الحسن نجبه بن يحيى الرعيني الإشبيلي (ت 597).
ـ أبو الخطاب بن دحية السبتي.
ـ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني الصقلي الفسي.
ـ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هارون المرادي الفاسي.
ـ أبو عبد الله محمد بن حماد العجلاني الفاسي (ت 609).
⦁ الاهتمام بالكتب و المكتبات
أورد المراكشي ما يدل على عناية الموحدين بالمكتبات و جمع الكتب ساعد على ذلك كما هو معروف استقرار الكثير من العلماء و الدارسين بالمدن المغربية و تشجيع ولاة الأمر لحركة التأليف و شراء الكتب وجلبها من جميع جهات العالم الإسلامي . فالخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المومن كان يجمع الكتب من أقطار الأندلس و المغرب و يضمها إلى الخزانة الملكية أو خزانة بني عبد المومن كما سماها المراكشي حين حديثه عن كتاب  » قراضة الذهب في ذكر لئام العرب » لمالك بن وهيب حيث قال: » رأيته في خزانة بني عبد المومن » و هي الخزانة الملكية بمراكش أو الخزانة العلمية التي أنشأها خلفاء الموحدين و جعلوا لها أمينا و زودوها بمختلف الكتب و المراجع كان من جملتها كتب الفلسفة  » التي جمع ـ يوسف ـ كثيرا من أجزائها » و كتب الطب و أحكام النجوم، روى أبو محمد عبد الملك الشذوني ـ و هو أحد المتحققين بعلمي الطب و أحكام النجوم ـ قال  » كنت في شبيبتي أستعير كتب هذه الصناعة ـ صناعة الأحكام ـ من رجل كان عندنا بمدينة إشبيلية اسمه يوسف و يكنى أبا الحجاج يعرف بالمراني كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في أيام الفتنة بالأندلس، فكان يعيرني إياها في غرائر أحمل غرارة و أجيء بغرارة من كثرتها عنده، فأخبرني في بعض الأيام انه عدم تلك الكتب بجملتها، فسألته عن السبب الموجب لذلك فأسر إلي إن خبرها أنهى إلى أمير المومنين فأرسل إلى داري و أنا في الديوان لا علم لي بذلك، و كان الذي أرسل كافور الخصي مع جماعة عن العبيد الخاصة و أمره ألا يروع أحدا من أهل الدار و ألا يأخذ سوى الكتب و تعده و الذين معه أشد الوعيد إن نقص أهل البيت إبرة فما فوقها فأخبرت بذلك و أنا في الديوان فظننته يريد اصطفاء أموالي فركبت و ما معي عقلي حتى أتيت منزلي، فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب و الكتب تخرج إليه فلما رآني و تبين ذعري قال لي : لا بأس عليك و أخبرني أن أمير المومنين يسلم علي، و أنه ذكرني بخبر! و لم يزل يبسطني حتى زال ما بنفسي ثم قال لي: سل أهل بيتك هل راعهم أحد أو نقصهم شيء من متاعهم؟ فسأتهم ، فقالوا : لم يرعنا أحد و لم ينقصنا شيء.جاء أبو المسلك حتى استأذن علينا ثلاث مرات، فأخلينا له الطريق و دخل هو بنفسه إلى خزانة الكتب فأمر بإخراجها،فلما سمعت هذا القوا منهم زال ما كان في نفسي من الروع »
خاتمة:
بعد هذه الجولة مع عبد الواحد المراكشي في أرجاء كتابه المعجب يمكن القول:
ـ إن عبد الواحد المراكشي لم يخصص فصلا مستقلا لمعالم الحياة الفكرية في عهد الدولتين المرابطية و الموحدية، و لكن أمكن رصد تلك المعالم من خلال ما أورده من أخبار عن أمراء و علماء وغيرهم من الدولتين ، على أن ذلك كله لا يشكل مادة كافية تساعد على تحديد معالم الحياة الفكرية في عهد الدولتين.
ـ أننا كنا بصدد الحديث عن المظاهر الفكرية في عهد الدولتين ـ المرابطية بالخصوص ـ من وجهة نظر مؤرخ موال للدولة الموحدية عاش معظم أطوارها و التقى بكثير من رجالاتها بل كان صديقا لبعض أمرائها مما يدعو إلى التحفظ بخصوص ما ينقله عن المرابطين.
ـ أن ذلك التبث من العلماء و الأدباء ـ ممن سبقت الاشارة إليهم على سبيل الذكر لا الحصر ، أو ممن تحفل بهم كتب التراجم و الفهارس ـ الذين سطعت أسماؤهم في سماء المغرب و الأندلس في العهد المرابطي في مختلف الميادين الفكرية يحمل على القول إن الحكم المرابطي قد أسهم إسهاما كبيرا في ازدهار الحركة الفكرية و تقدمها ـ رغم قصر أمده ـ عكس ما ادعاه المراكشي.
ـ أنه آن الأوان للبحث العلمي أن ينصف دولة المرابطين و يصحح ما وقر في أذهان الدارسين من أن المرابطين كانوا حربا على كل العلوم خلا علم الفروع، و ذلك باعتماد كتب التراجم و الفهارس إلى جانب كتب التاريخ و الأدب و غيرها…
ـ أن اهتمام الموحدين انصرف منذ البداية إلى الحديث النبوي الشريف.
ـ إذا كنا نعلم أن الفكر عموما لا يحتضر باحتضار السلطة و لا يزول بزوالها فإن العلوم التي ازدهرت في العهد الموحدي لابد أن تكون جذورها قد ترسخت في العهد المرابطي ـ و أن كثيرا من العلماء ممن نبغ في العهد الموحدي عاشوا بعضا من حياتهم في العهد المرابطي تلقوا من شيوخ عاصروا الدولة المرابطية و نهلوا من معينهم … بل إن مؤسس الدولة الموحدية نفسه و المشهور طوافه في البلاد للرواية و الأخذ عن كبار المحدثين عاش في العهد المرابطي و مات فيه.
===============================
لائحة المصادر و المراجع
1. « تاريخ الفكر الأندلسي » أنجل جنثالث بالنثبا، مكتبة النهضة المصرية ، الطبعة الأولى ـ 1955.
2.  » الحضارة المغربية عبر التاريخ » الحسن السائح، دار الثقافة ، الطبعة الأولى ـ 1975.
3.  » دولة المرابطين في المغرب و الأندلس » د. سعدون عباس نصر الله ، عهد يوسف بن تاشفين » دار النهضة العربية ـ 1985.
4.  » الدولة الموحدية و أثر العقيدة في الأدب » حسن جلاب، منشورات الجامعة ، الطبعة الثانية ـ مارس 1985.
5.  » الدولة الموحدية بالمغرب » عبد الله علي علام.
6. شجرة النور الزكية » محمد بن محمد مخلوق ، دار الكتاب العربي ـ بيروت طبعة جديدة عن الطبعة الأولى سنة 1349 هـ .
7. لابن بشكوال، تقديم و ضبط، د. صلاح الدين الهواري،  » الصلة في تاريخ علماء الأندلس » المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت. الطبعة الأولى 1423/ 2003.
8.  » عصر المرابطين و الموحدين في المغرب و الأندلس » محمد عبد الله عنان ، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر ، القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ 1964.
9.  » الغنية » القاضي عياض تحقيق الدكتور علي عمر ، مكتبة الثقافة الدينية 1323 هـ / 2003.
10. في حوار حول الحاضر بالماضي عبر الأندلس ، د. رشي فكار ، المكتبة الجامعية ، الطبعة الثانية ـ 1992.
11.  » محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي » د. عمر الجيدي، منشورات عكاظ.
12.  » مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي » عبد الهادي أحمد حسيسن، 1402 هـ 1982.
13.  » مشاهير رجال المغرب و الأندلس » عبد الله كنون، مكتبة المدرسة و دار الكتاب اللبناني للطباعة و النشر ـ بيروت.
14.  » المغرب عبر التاريخ » ابراهيم حركات ، دار الرشاد الحديثة ، الطبعة الثالثة ـ 1993.
15.  » النبوغ المغربي في الأدب العربي » عبد الله كنون، الطبعة الثانية.
=======================
الفهرس:
مقدمة
الفصل الأول: ترجمة عبد الواحد المراكشي و موضوع مؤلفه و دواعي تأليفه
المبحث الأول: ترجمة المؤلف
المبحث الثاني: موضوع المؤلف
المبحث الثالث: دواعي تأليفه
الفصل الثاني: مظاهر الحياة الفكرية في عهد المرابطين
المبحث الأول: رصد مظاهر الحياة الفكرية
المبحث الثاني: تعليق
الفصل الثالث: مظاهر الحياة الفكرية في عهد الموحدين
المبحث الأول: اهتمام الأمراء الموحدين بالعلوم طلبا و تشجيعا
المبحث الثاني: الاهتمام بالفلسفة
المبحث الثالث: الاهتمام بالمتصوفة
المبحث الرابع: محاولة محو المذهب المالكي و الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب و السنة و الأخذ بظاهرهما
الملحث الخامس: الاهتمام بالحديث
المبحث السادس: الاهتمام بالكتب و المكتبات
خاتمة
لائحة المصادر و المراجع
الفهرس

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *