الحياة الفكرية في عهد الدولتين المرابطية و الموحدية من خلال كتاب المعجب في تلخيص اخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي ـ الجزء 2 ـ
ثانيا: مظاهر الحياة الفكرية في العهد المرابطي: رصد و تعليق
رصد مظاهر الحياة الفكرية
بالرجوع إلى كتاب « المعجب » لرصد معالم الحياة الفكرية و مظاهرها في عهد المرابطين نجد ما يدل على اهتمام المرابطين بالعلم عموما ، إلا أن ما يسجل لهم أكثر انصرافهم في معظم دولتهم إلى التشجيع فقه الفروع و أهله من فقهاء المذهب المالكي حتى نسي النظر في كتاب الله و سنة رسوله،و منعهم الاشتغال بعلم الكلام و الأصول…
و فيما يلي عرض لذلك:
ـ اهتمام المرابطين بالعلم: تمثل ذلك في استقدامهم العلماء من الأندلس و تقريبهم إليهم »فانقطع إلى أمير المسلمين ـ يوسف بن تاشفين ـ من الجزيرة أهل كل فحوله حتى اشبهت حضرته بني العباس في صدر دولتهم »
ـ اهتمامهم بالآداب : إذ حفل بلاطهم بطبقة من كبار كتاب الأندلس و أدبائها و أعلام البلاغة في ذلك العصر » « فاجتمع ـ ليوسف بن تاشفين ـ و لابنه من أعيان الكتاب و فرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار » و لم يزل ـ على بن يوسف بن تاشفين ـ من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس و صرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك » .
و من أشهر من كتب لهم:
ـ المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القصيرة « أحد رجال الفصاحة و الحائز على قصب السبق في البلاغة » .
ـ أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال » و هو واحد ممن انتهى إليه علم الآداب و له مع ذلك في علم القرآن و الحديث و الأثر و ما يتعلق بهذه العلوم الباع الأرحب و اليد الطولى » ، و أخوه أبو مروان بن أبي الخصال
ـ أبو محمد عبد المجيد بن عبدون » أحد كتاب المغرب ممن جمع منهم فضيلتي الكتابة و الشعر، على أنه مقل في النظم و لم يثبت له يسير بالنسبة إلى غزارة آدابه و نباهة قدرهّ » يقول عنه الوزير أبو مروان عبد الملك بن زهر » هذا أديب الأندلس و إمامها و سيدها في علم الآداب ، أيسر محفوظاته كتاب الأغاني و ما حفظه من ذكاء خاطره و جودة قريحته؟ »
ـ أبو القاسم بن الجد المعروف بالأحدب » أحد رجال البلاغة » .
ـ أبو بكر محمد بن محمد المعروف بابن القبطرنة .
ـ اهتمامهم بالفقه : » اشتد إيثار ـ على يوسف بن تاشفين ـ كما يقول عبد الواحد المراكشي ـ لأهل الفقه و الدين و كان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء فكان إذا ولى أحد من قضاته كان يعهد إليه ألا يقطع أمرا و لا يبث حكومة في صغير من الأمور و لا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء فبلغوا في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس و لم يزل الفقهاء على ذلك و أمور المسلمين راجعة إليهم و أحكامهم صغيرها و كبيرها موقوفة عليهم طول مدته فعظم أمر الفقهاء و انصرفت وجوه الناس إليهم فكثرت لذلك أموالهم و اتسعت مكاسبهم » .
فكان من نتائج هذا الاهتمام كما جاء خلال المعجب :
أ ـ نبذ ما سوى كتب الفقه.
ب ـ إهمال النظر في كتاب الله و حديث رسوله » فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعني بهما كل الاهتمام » .
ج ـ جهل أهل المغرب لعلوم النظر و معداتهم لمن يشتغل بها حتى أن ابن تومرت لما قدم إلى المغرب » وجد جوا خاليا و ألفى قوما صياما عن جميع العلوم النظرية خلا علم الفروع » .فلم يقدر علماء فاس ولا مراكش على مناظرته، و لم يكن فيهم من يعرف من يعرف ما يقول إلا مالك بن وهيب ، بل أكثر من ذلك كان المغاربة » ينافون هذه العلوم و يعادون من ظهرت عليه شديد أمرهم في ذلك » .
د ـ تكفير الخوض في شيء من علوم الكلام.
هـ ـ الأمر بنبذ الاشتغال بعلم الكلام باعتباره بدعة و ذلك بعد أن » قرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام و كراهة السلف له و هجرهم من ظهر عليه شيء منه، و إنه بدعة في الدين ربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد حتى استحكم في نفس الأمير بغض علم الكلام و أهله… فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه و توعد من وجد عنده شيء من كتبه « .
و ـ إحراق كتب الغزالي لما دخلت إلى المغرب بأمر من أمير المسلمين بل » تقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم و استئصال المال من وجد عنده شيء منها و اشتد الأمر في ذلك » .
التعليق
هذه إذن جل مظاهر الحياةالفكرية ـ في عهد المرابطين ـ كما يرسمها عبد الواحد المراكشي : اهتمام بعلم الفروع حتى نسي النظر في كتاب الله و حديث رسوله ، و إهمال لعلوم النظر… وهي مظاهر تدعونا إلى أن نقف عندها لنتبين حقيقة ما يدعيه المراكشي خاصة و أنه يبخس المرابطين جهودهم في تشجيع العلوم.
لقد استطاعت الدولة المرابطية بفضل حزم ولاتها توحيد راية الإسلام في سماء المغرب الممتد من شواطئه غربا و شمالا حتى تونس شرقا و السودان جنوبا ثم زحفت إلى بلاد الأندلس لإنقاذها مما كان يحذق بها من أخطار النصارى ، و يتهددها من الفرقة و التمزيق بسبب ملوك طوائفها الذين اقتسموا البلاد و الألقاب بعد ذهاب الخلافة الأموية عنها سنة ست و عشرين و أربعمائة للهجرة ، ولعل أبا علي الحسن بن رشيق كان محقا حين وصفهم بقوله:
مما يزهدني في أرض الأندلس أسمـــاء معتمـــد بهــا و معتضــد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
و عن ضعف ملوك الطوائف يقول آنخل جنثالث بالنثبا » بيد أن انتشار عقد الأندلس و تفرق أمره في دول الطوائف ، كان في ذاته سبب ضياع أمره.لأن هذه الدويلات الصغيرة كانت على حال من الضعف لم تستطع معها أن تثبت لهجات النصارى الذين انتهجوا خطة تختلف عما كان عليه المسلمون إذ ذاك و اتجهوا إلى توحيد قواهم أمام المسلمين الذين لم تتوقف الخصومات بينهم أبدا بل لقد أصبح ألفونسوا السادس بعد ااستلائه على طليطلة (478 هـ) فييمركز مكن له من أن يعين بعض ملوك الطوائف على بعض ، و يتدخل في شؤون مملكة بلنسية و عظمت قوته و اشتد خطره على المسلمين حتى خافه المعتمد و دخل في ولائه وزوجه إحدى بناته. »
و يصور المراكشي ما انتهت إليه أحوال الأندلس في عهد هؤلاء بقوله: » و لم يزالوا كذلك و أحوال الأندلس تضعف و ثغورها تختل و مجاوروها من الروم تشتد أطماعهم و يقوى تشوفهم إلى أن جمع الله الكلمة و رأب الصدع و نظم الشمل و حسم الخلاف و أعز الدين و أعلى كلمة الإسلام، و قطع طمع العدو، بيمن نقيبة أمير المسلمين و ناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله، ثم استمر على ذلك ابنه علي ، و أعادا إلى الاندلس معهود و نضارة عيشها فكانت الاندلس في أيامهما حرما آمنا »
فتمكن المرابطون ـ و يكفيهم هذا فخرا ـ من توحيد العدوتين المغرب و الأندلس و توطيد العلاقة بينهما فكريا وسياسيا فتهيأت بذلك الظروف لتقدم الحياة الثقافية و نهضة العلوم و الآداب، و ما نقله المراكشي ـ مما ذكرته ـ لأكبر دليل على ذلك و بخاصة زمن استقرار هذه الدولة في عهد يوسف و ابنه علي و إلا ما الفائدة من أن ينقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله لو لم يستشعر هؤلاء العلماء نية صادقة لدى الأمراء المرابطين للنهوض بالفكر أو لو لم يجدوا منهم تشجيعا للعلم و العلماء.
» كان للأمراء المرابطين اهتمام كبير باللغة ز الأدب و النثر خاصة و يعتبر العصر المرابطي العصر الذهبي للنثر الفني في المغرب و الأندلس ففي ذلك العصر ظهر فطاحل الناثرين و كتاب الرسائل » ممن سبق ذكرهم و لكن للأسف نجد من الدارسين من ينكر على المرابطين صنيعهم هذا و يأبى إلا أن يتهمهم بتخليهم عن تشجيع الآداب من أمثال عبد الله عنان بقوله: » و لم تكن الدولة المرابطية سواء بالمغرب أو الأندلس سوى دولة دينية عسكرية قبل كل شيء و لم تكن بطبيعتها البدوية الخشنة تميل إلى الأخذ بأساليب التمدن الرفيعة أو تتجه إلى رعاية العلوم و الآداب » .
و لقد اتهم المراكشي المرابطين بأنهم كانوا فروعيين يهتمون فقط بفروع الفقه المالكي و يهملون النظر في الصول من قرآن و حديث و هي تهمة مفتعلة ـ على ما يبدو ـ لا يمكن مجاراته فيها بتبنيها أو الترويج لها خاصة إذاعلمنا أنه كان مؤرخا مواليا للدولة الموحدية الشديدة العداء للمرابطين ، عاش معظمهم أطوارها و التقى بكثير من رجالها، بل كان صديقا لبعض أمرائها ، و فوق ذلك كانت تعزوه الدقة أحيانا كثيرة كما يعترف هو به و يعتذر عنه في مقدمة مؤلفه.
إلا أننا سنجد لهذه التهمة و غيرها حضورا قويا في كتابات المستشرقين ـ الحاقدين ـ ممن شنعوا على المرابطين أمثال دوزي DOZY القائل : » في نحو أواخر القرن الحادي عشر حينما استبدلت الأندلس أمراءها الوطنيين بمملكة افريقية جاءت كحليفة ثم انتهت بأن فرضت سيادتها، حدثت في هذا البلد ثورة سريعة محزنة فقد حلت البربرية مكان التمدن و حل التخريف مكان الذكاء و حل التعصب مكان التسامح و أضحت البلاد تئن تحت النير المرهق الذي يفرضه رجال الدين و الجند،فلم يعد يسمع مكان المناقشات العلمية الروحية في المعاهد و أحاديث الفلاسفة العميقة و أناشيد الشعراء سوى صوت الفقهاء الرتيب و ضجيج السيوف تجر على الإفريز » .
كما نجدها في كتابات كثير ممن سار في ركب المستشرقين و تبنى ـ إن من قريب أو بعيد ـ طروحاتهم يقول: حسين مؤنس » و من أسف أن بعض مؤرخينا اليوم ما زالوا يرددون كلام دوزي غير متفطنين إلى ما وراء كلامه من كراهة للإسلام و ما يقصد إليه » ،بل إن من الدارسين من يذهب إلى حد القول بممارسة المرابطين للارهاب الفكري و مطاردة البحوث الكلامية و الفلسفية و بأنهم كثيرا ما كانوا حربا على المعرفة ،مع أن الدولة المرابطية بدلت رعايتها لطائفة كبيرة من الأدباء و العلماء و أن معظم أعلام الفلسفة و الفلك و التنجيم و الطب هم ممن عاشوا في هذا العصر أو نبغوا بعده بقليل كأبي الصلت أمية بن عبد العزيز الداني (459 ـ 528 هـ) و ابن السيد البطليوسي (444 ـ 521 هـ) و مالك بن وهيب (453 ـ 525 هـ) و يكفي هذا العصر فخرا ظهور المفكر العظيم و الفيلسوف أبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المشهور بابن باجة … و في الطب لمعت أسماء من أشهرها ابن زهر .
» ان اصطناع الدولة لنوع خاص من العلوم ـ كما يقول الأستاذ عبد الله كنون ـ كثيرا ما كان ظاهرة ملحوظة في غير ما دولة من دول الشرق و الغرب فلم يعب عليها بل اعتبر من أسباب نهضة ذلك العلم و خيرا و بركة على رجاله و المشتغلين به »
والمعجب حفل بنماذج تدل على اصطناع الأمراء لنوع خاص من العلوم و تقريبهم لأهله من ذلك و ما كان » من بني المظفر ملجأ أهل الآداب » و من أبي القاسم بن عباد المعتمد على الله الذي اقتصر من العلوم على علم الأدب و ما يرتبط به فاجتمع له من الشعراء و أهل الأدب الكثير ، ربما دفعهم إلى ذلك ميلهم إلى الأدب و شغفهم به فكان دفعة قوية لهذا اللون من الفن و لم يعب عليهم ذلك كما لا يجب أن يعاب على المرابطين اهتمامهم بالفقهاء لأن لذلك ما يصوغه من وجوه عدة:
الأول : إن عبد الله بن ياسين مؤسس الدولة المرابطية كان مالكيا صرفا ميله إلى علم الفقه أقوى منه إلى علم آخر فغلب ذلك على الدولة و من ثم كان احتضانها لفقهاء المالكية دون غيرهم من أرباب المعارف الأخرى برغم كثرة الواردين عليها من العلماء و الفلاسفة من جراء فتح الأندلس و توحيدها مع المغرب .
الثاني : تشبع المرابطين بالروح السلفية المتسامحة و عدم مجاراتهم الخلافات المذهبية و البدع و الأهواء التي كانت حينئذ تنخر جسم الوحدة الإسلامية بالشرق،و هنا لابد من التذكير بفضل المرابطين في القضاء على المذاهب المنحرفة من برغواطية و غمارية و ما إليها،و على آثار المذهبين الاباضي و الصفري… و فضلهم في الوحدة العقائدية السنية التي تميز بها المغرب طوال تاريخه بعد ذلك .
الثالث : تبنى المغاربة للمذهب المالكي و اختيارهم له منذ دخوله بلدهم و ما تطلب ذلك من دراسة لهذا المذهب و استخراج أحكامه و تطبيقها على الحياة الاجتماعية ما كان لهذا الاختيار من الفائدة التي لا مراء فيها و المتمثلة في توحيد البلاد فكريا و تشريعيا.
الرابع : أن الفقه كان عاملا حاسما في قرارات المرابطين الحربية و السياسية و الاجتماعية بل هو قانون البلاد و دستورها، وهو جزء لا يتجزأ من الاسلام الدين الذي استلهم المرابطون مبادئه فاستطاعوا بفضل ذلك و فضل إيمانهم أن يحققوا تلكم الانتصارات
أن الاهتمام بالفقهاء لم يكن اضطهادا فكريا ينال غيرهم بل إن غاية ما في الأمر أن مهام الدولة القضائية بالخصوص كانت من نصيب الفقهاء و فيما عدا ذلك فإن العلماء كانوا يمارسون نشاطهم الفكري دونما اضطهاد أو متابعة بل بتشجيع من الأمراء مما أدى إلى نشاط عدد كبير من المدارس بمجموعة من المدن المغربية و حدها و تقدمت حركة التأليف و التدريس تقدما ملحوظا .
و إذا كانت المشورة للفقهاء فإنها لم تصل إلى حد التأثير في قرارات أمير المسلمين بدليل ما أورده المراكشي من سعي الفقهاء، و على رأسهم مالك بن وهيب ـ إلى أمير المسلمين بقتل ابن تومرت حين ناظرهم بمراكش في حضرة الأمير . يقول » و لما سمع ـ مالك بن وهيب ـ كلام ابن تومرت استشعر حدة نفسه و ذكاء خاطره و اتساع عباراته فأشار على أمير المسلمين بقتله و قال : هذا رجل مفسد لا تؤمن غائلته و لا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه و إن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كثير فتوقف أمير المسلمين في قتله و أبى ذلك عليه دينه… فلما يئس مالك مما أدراده من قتل ابن تومرت أشار عليه بسجنه حتى يموت. فقال أمير المسلمين: علام نأخذ رجلا من المسلمين نسجنه و لم يتعين لنا عليه حق؟ و هل السجن إلا أخو القتل؟ و لكن نأمره أن يخرج عنا من البلد و ليتوجه ألى حيث شاء » .
فلو كان للفقهاء ما يدعيه خصوم المرابطين من السلطة لما توانى الأمير في قتل ابن تومرت الذي كانت دعوته تهدد الوجود المرابطي بل هو من سيؤسس الدولة الموحدية التي سيضعف وجودها دولة المرابطين.
أما قضية إحراق الاحياء للغزالي في عهد يوسف بن تاشفين فيجب أن ينظر إليها من جانبين:
الأول : أن علم الكلام عموما لم يحظ باهتمام المرابطين لأنهم كانوا يتخذون طريقة السلف منهاجا لهم مع أنه وجد في عهدهم من درس هذا العلم كأبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي (ت 489) يقول عنه بشكوال » كان رجلا نبيها بالفقه، إماما في أصول الدين و له في ذلك تواليف حسان مفيدة » و تلميذه أبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير (ت 520) » كان من أهل النحو و التقدم في علم التوحيد و الاعتقاد و هو آخر أئمة المغرب فيه أخذه عن أبي بكر المرادي و كان مختصا به » .
الثاني : « إن هذا الكتاب لما وصل إلى المغرب نظر فيه رجال الفقه و الدين فوجدوه محشوا بما لا عهد لهم به من آراء المتكلمين و مذاهب الصوفية وقد تداوله خاصة الناس و عامتهم فقرروا مجافاته ظاهر الشريعة و سادج العقيدة و حذروا الناس من مطالعته و النظر فيه،فما كان من الدولة إلا أن أمرت بجمعه و إحراقه بالرغم من موالاة الغزالي للمرابطين » فعلوا ذلك احتراما للقانون و سلطته التي كان يمثلها الفقهاء و منهم القضاة، و هنا يجدر التنبيه إلى أهمية خطة القضاة في عهد الدولة المرابطية و استقلاليته عن السلطة النتفيذية .
لقد كان القضاة يعينون من كبار الفقهاء ـ أمثال ابن رشد و ابن حمدين و عياض السبتي و عبد الملك المصمودي ـ رغبة في تحقيق العدالة و تطبيق تعاليم الإسلام ـ بمرسوم من أمير المسلمين يوصي فيه القاضي بأن يكون عادلا حازما لا تأخذه في الله لومة لائم … كما كان عزلهم أيضا بمرسوم أميري يرسل ألى أهل المدينة التي عزل قاضيها ليطلعوا على الأسباب التي دفعت إلى عزله. و كان القضاة يحكمون وفق المذهب المالكي و لكل قاض أربعة مستشارين يختارهم من أهل مدينته يشاورهم قبل إصدار الأحكام و كان من حقه أن لا يعمل برأيهم كما كانت لهم رواتب يحصلون عليها من بيت المال حفاظا على استقلال القضاء و سمعة القضاة فكثرت ـ ربماـ لذلك أموالهم و اتسعت مكاسبهم.
و مهما يكن فإن علم الفقه على مذهب الإمام مالك ـ الذي أصبحت الأصول تغذيه بمادة خصبة بالإضافة إلى الحديث ـ عرف نشاطا كبيرا فبرز من الفقهاء الكثير منهم:
أ ـ أبو عبد الله محمد بن فرج مولى محمد بن يحيى البكري يعرف بابن الطلاع (ت 497 هـ) . كان فقيها عالما حافظا للفقه على مذهب مالك و أصحابه حاذقا بالفتوى مقدما في الشورى عارفا بعقد الشروط و عللها مقدما، ذاكرا لأخبار شيوخ بلده و فتاويهم.
ب ـ أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن أحمد اللواتي يعرف بابن الفاسي (ت 513) .
ج ـ أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد(ت 520) .
د ـ أبو محمد عبد المنعم بن عبد الله بن غلوش المخزومي الطنجي (ت 524) .
أما الحديث و علومه فقد عرف نشاطا ملحوظا في عهد المرابطين ـ عكس ما يدعيه المراكشي من إهمال النظر في كتاب الله و حديث رسوله ـ يظهر ذلك من خلال ما كان يدرس من الكتب في هذا العصر و حسبي هنا أن أشير إلى بعض ما ذكره القاضي عياض في الغنية مما تلقاه عن شيوخه:
ـ موطأ الإمام مالك رواية يحيى بن يحيى الليثي.
ـ صحيح البخاري.
ـ صحيح مسلم.
ـ سنن أبي داود.
ـ شرح غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام.
ـ كتاب إصلاح الغلط على أبي عبيد لأبي محمد بن قتيبة.
ـ كتاب غريب الحديث لأبي سليمان أحمد البستي الخطابي.
ـ كتاب علوم الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري.
ـ كتاب الطبقات لمسلم بن الحجاج.
ـ كتاب الضعفاء و المتروكين لأبي عبد الله النسائي.
ـ كتاب الطبقات لأبي عبد الله النسائي.
ـ الملخص لمسند الموطأ للأبي الحسن القابسي.
ـ التقصي لمسند الموطأ لأبي عمر بن عبد البر.
ـ مسند الموطأ لأأبي القاسم الجوهري.
ـ لكن العبرة ليست بالكتب وحدها بل بالعلماء الذين يتدارسون ما احتوت و يخرجون و يستنبطون منها… و كان من حظ العدوتين ـ في هذا العهد ـ من ذلك وفيرا كان بهما جمهرة من العلماء قد وجدوا فيهما بيئة عملية خصبة أذكت همهم و حفزتهم على طلب علم الحديث كما حفزت غيرهم على طلب علوم أخرى.
و ممن أنجبهم هذا العصر من كبار المحدثين:
ـ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري : الامام الحافظ النظار شيخ علماء الاندلس و كبير محدثيها. قال فيه أبو الوليد الباجي: » لم يكن بالاندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث ». ألف كتبا مفيدة منها التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد و جامع بيان العلم و فضله…
ـ أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (403 ـ 474 هـ) . الفقيه الحافظ النظار العالم المتفنن المثقن. تفقه به جماعة منهم الحافظ أبو علي الجياني و روى عنه حافظا المشرق و المغرب أبو بكر الخطيب و ابن عبد البر… صنف كتبا كثيرة منها: التعديل و التجريح لما خرج عنه البخاري في الصحيح و شرح الموطأ.
ـ الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الغساني الجياني (427 ـ 498 هـ) .
إمام المحدثين في وقته و كبير العلماء العاملين أخذ عن أبي الوليد الباجي و ابن الحذاء… و غيرهم. له تأليف في تسمية شيوخ أبي داود وتأليف في شيوخ النسائي و كتاب في رجال الصحيح.
ـ أبو علي حسين بن محمد بن فيرة بن حيون بن سكرة الصدفي (454 ـ 514 هـ) . العالم الجليل المحدث الحافظ… كان عالما بالحديث و طرقه و علله و أسماء رجاله حافظا لمصنفاته ذاكرا لمتونها و أسانيدها و رواتها…
ـ أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن خلف اللخمي المعروف بالرشاطي( ت 540 هـ) . كانت له عناية كثيرة بالحديث و الرجال و الرواة و التواريخ..
ـ أبو بكر بن العربي المعافري (468 ـ 543 هـ) . و هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد المعارفي المعروف بابن العربي. قال فيه القاضي عياض: » و قيد الحديث و اتسع في الرواية »… له تآليف تدل على غزارة علمه و فضله منها عرضة الأحوذي في شرح الترمذي..
ـ القاضي عياض (476 ـ 544 هـ) .
و مما تجب إليه الإشارة هنا أنه: »لم يكتف العلماء وحدهم بالإقبال على دراسة الحديث في هذا العصر بل نرى كذلك حتى أمراء المرابطين، كان لهم إهتمام بحديث رسول الله (ص) ». فالأمير علي ابن يوسف (ت 537 هـ) استجاز أبا عبد الله محمد الخولاني جميع رواياته لعلو سنده فأجازه و كان يبحث عن العلماء ذوي السند العالي ليجيزوه.
و كان الأمير ميمون اللمتوني (ت 530 هـ) ممن عنى بالرواية و السماع، و كانت له رحلة إلى المشرق سمع فيها صحيح البخاري من ابن أبي ذر الهروي، و صحيح مسلم من أبي عبد الله الطبري… و لما رجع على المغرب جلس يحدث بما سمع…
Aucun commentaire