التحول الثقافي وخلخلة المفاهيم .. مفهوم « الجماهير الشعبية » أنموذجا، قراءة في كتاب سيكولوجية الجماهير لـ Gustave Le Bon
ترتد بنا الذاكرة كل مرة لتلقي تنظيرات ومقولات عدد من الفلاسفة من جيل الرواد أمثال أوغست كونت ودركهايم وبورديو وماكس فيبر وماركس وفريديريك أنجلز وغيرهم، عن المجتمع والحراك الاجتماعي والتقسيم الطبقي والأنظمة الاستبدادية المالكة لوسائل الإنتاج من إقطاع وفيودالية وبورجوازية ورأسمالية ليبيرالية متوحشة، ضد طبقة الفلاحين والبروليتاريا والكادحين، وغيرها من الأديبيات التي راجت لزمن طويل وشكلت أساس تنشئة فكرية لأجيال متعاقبة، بحيث يمكن القول أن هذه الأجيال مدينة في جزء كبير من تكوينها المعرفي والفكري لهذه الأدبيات، أقصد اليسار المغربي، الذي منها ما تم إسقاطه على مجتمعاتنا دون مراعاة وجه الخصوصية، ومنها ما تم بلورته وفق ما تقتضيه الظرفية والسياقات التاريخية داخل مجتمع ما، ومنها المجتمع المغربي الذي نحن بصدد الحديث عنه وفق هذه الرؤية، وقد تلاشت هذه المفاهيم مع مرور الزمن والتحول الثقافي الذي تشهده المجتمعات البشرية والتي تراجعت بها وبينها جملة من القيم ظلت بالأمس القريب من المسلمات التي يستحيل المساس بها، وقد يبدو الأمر طبيعيا باعتبار أن التطور حتمية تاريخية وإلا فلن يختلف البشري عن الحيوان في نمط حياته وعيشته أو بتعبير أنثروبولوجي ذاك الاختلاف الثقافي، لكن الأمر الذي يتوجب الانتباه إليه بالتحليل والدرس هو: أي تحول ثقافي؟ وفي أي اتجاه؟ والإجابة على هذا التساؤل تحيلنا على الفئة أو الفئات المعنية بهذه الثقافة، ونخص بها الفئة الشعبية التي تقع عليها جميع تبعات هذا التحول بسلبياته وإيجابياته، وهي الفئة التي ظلت موسومة ب »الجماهير الشعبية » تصدح بها حناجر الزعماء النقابيين والسياسيين خلال التجمعات الخطابية الانتخابية أو التعبوية التأطيرية، بحيث يتم توجيهها عبر ملامسة قضاياها من مطالب وحاجيات، وقد هيمن هذا الوصف ردحا من الزمن لتشوبه عدد من المتغيرات لم تعد تتماشى والتحول الثقافي الذي يشهده المجتمع الذي تنتمي إليه، وحتى الوضع العالمي العام المحيط بهذه الفئات التي كان يعول عليها في تأجيج الصراع وتحويل مجريات التاريخ وحشدها ضد الفئة التمسلطة المالكة لوسائل الإنتاج، فكان زعماؤها يلاقون السجن والاختطاف والقتل وتلاقي هذه الجماهير الشعبية شتى أنواع القمع وتتضاعف المعاناة والحرمان، هي بهذا المفهوم تكون قد تعرضت للخلخلة التي نوردها هنا بمعنى « عدم التماسك بين الجزئيَّات التي يتألف منها الجسم كأنّ بينها فراغًا وفروجًا » (1)
ورد في اللسان لفظ جمهور بمعنى الرمل الكثير المتراكم الواسع، وجمهور الناس جلهم، وجماهير القوم أشرافهم (2)، وبالتالي فهناك تفاوت بين جمهور الذي يعني الكثرة على مستوى الكم، والجماهير التي تحدد نوع هذا الجمهور، وهي تحمل منعى الفئة محدد، فنجد ذاك التعدد عند تصنيف الجماهير إلى عمالية وتعليمية.
وفي أدبيات المادية التاريخية تعتبر الجماهير الشعبية « صانعة التاريخ » باعتبار قوة الكم الضاغطة عندها، عكس ما ذهبت إليه التنظيرات الماركسية بالخصوص، والتي ترى أن دور الجماهير الشعبية إنما هو قوة تصنع التاريخ، والشعب بهذا المعنى هو تلك الطبقات التي يتشكل منها المجتمع الاشتراكي، كادحين وفلاحين وعمالا وبرجوازية، يفترض أن تتلاحم فيما بينها لمواجهة عدو مشترك من خلال تناغم سياسي واجتماعي وأخلاقي، وهو تنظير ظل يدغدغ مشاعر فئات المحرومين الذين يشكلون الفئة الواسعة من هذه الجماهير الشعبية، لأن العلاقة بين هذه الفئات تحكمها ملكية وسائل الإنتاج والتحكم في دواليب الاقتصاد وعجلة التنمية، وبالتالي الاحتكار وامتلاك السلطة وممارسة الهيمنة الثقافية بكل ما تمثله الثقافة من شمولية، ثم إنه لا يمكن إسقاط مثل هذه التنظيرات على مجتمعات بلدان الجنوب ومنها المغرب، لأنها لم تخضع لهذا التطور التاريخي، ثم إن المغرب بلد ذو بنية اجتماعية قبلية حيث تحضر القبيلة لصياغة عدد من القرارات أولنقل بتعبير أصح إنه يتم استغلال القبيلة وتوظيفها لخدمة مصالح الفئة المهيمنة، فأضحى من نافلة القول الحديث عن الطبقة العاملة بالمفهوم البروليتاري أمام التطور الصناعي ثم التيكنولوجي المتوحش الذي شهده المجال الاقتصادي، فالآلة هي التي أصبحت تمثل قوة ونوعية الإنتاج وأضحت التكنولجيا مسهلة للتواصل.
ويستعرض Le Bon، مفهوم الجماهير كظاهرة استدعت اهتمام الباحثين في أوروبا عندما ظهرت لتهدد النظام الاجتماع، فاعتبروا الجماهير مجرد كم من الأفراد انتفضوا مؤقتا ضد المؤسسات والقائمين عليها، وهم أشخاص هامشيين وشاذين، وبحسب هذه النظرة فهم « السوقة » و »الأوباش » و »الرعاع » الذين تم استبعادهم عن أي دور فعلي داخل المجتمع (3)، وتتميز الجماهير بحالات جنون حين تنخرط في التصفيق للزعيم أو مغني أو فريق كرة القدم، والجماهير التي تصطف على جنبات الطريق لساعات طوال تحت حرارة الشمس والجوع والعطش في انتظار لحظة مرور موكب رئيس أو زعيم، وهي ذات الجماهير التي يمكن أن تجتمع وتقتل شخصا دون التأكد من كونه المعني بالفعل المشين، وهي الجماهير التي تقع في غرام زعيم ديني أو سياسي لتنصاع له ولكلامه، حيث يمارس عليها ذلك التأثير الروحي أو الفكري كما الحال بالنسبة لشيوخ الزوايا وبعض القيادات الحزبية أو النقابية. والغريب أن هذه الجماهير التي ناصرت هذا الزعيم بالأمس من السهل عليها أن تنقلب ضده في أي حين لتجد زعيما آخر(4)، فهل الجماهير مجرمة ومجنونة؟
يخالف غوستاف لو بون هذه المفاهيم جميعها، فهو يرى الجمهور من منظور تلاحم وانصهار أفراده في بوثقة عاطفة مشتركة، وتفقد عناصر الجمهور خصائصها بسبب هذا الانصهار، وهو بذلك يناهض أفكار الباحثين الفرنسيين والإيطاليين ومزاعهم كون الجماهير مجرمة بطبيعتها، أمثال « Tarde »(5)، وهذا ما يدعونا للقول بميزاجية هذه الجماهير الموسومة بالشعبية، لأنها ظلت تتحالف ضد خصم مشترك لتجد نفسها متجاوزة وهي مشرذمة بين مؤيد ومناهض لتدخل في صراع مع ذاتها واقتتال يبن عناصرها، فهل هذا يعني هذه الجماهير الشعبية لم يعد معول عليها في خوض معارك التحول الحضاري ولانتصار لقضاياها؟ ففي النموذج المغربي لم تعد الأحزاب تقوم بدورها التأطيري والحديث هنا عن الأحزاب المنظمة والمهيكلة والتي تحمل مشروعا مجتمعيا تتوخى منه الإصلاح، أي الأحزاب التي تسعى وفق أدبياتها لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، الشيء الذي جعل هذه الجماهير تصرف النظر عن الأحزاب وتتعامل بانتهازية بائنة معها، وكلما أمعنا النظر في هذه الجماهير، بمختلف انتماءاتها القطاعية وتنوعها وتعددها، والتي ننتمي إليها من موقعنا داخل المجتمع، سوف نقع عند عدد من الملابسات التي تحيط بها، فهي غارقة في المعتقد الخرافي والدين الشعبي والأضرحة والغيبيات والبحث عن الذات والخنوع والاحتجاج والاستكانة، لدرجة يغيب فيها أي حديث عن مفهوم الشعب الذي لا نكاد نميزه عن الرعية والحاشية والبطانة والخدام، لتتجلى خطورة الجماهير الشعبية في خروجها من تلقاء نفسها للشارع أملا في الدفاع عن مطالبها مستغنية عن الأحزاب التي يئست من شعاراتها وبرامجها لدرجة أضحت هي الأخرى تستغل عموم جماهير الشعب لتظهر زعامات من صلب الشعب وليس الأحزاب فتنال ثقة الجماهير الشعبية، ويتخوف منها المخزن والجماعة المستغلة للشعب، لأن الخلفية العميقة للصراع هي أساسا حول الزعامة. ويبقى الزعيم المنبثق من الجماهير أكثر تأثيرا عليها بما يبثه من خطابات وشعارات يمكنها توجيه هذه الجماهير وتحقيق الانتصار بحشدها وتحويلها إلى قوة ضاغطة إذا تعامل الزعيم معها بذكاء، لكن لابد من الإشارة إلى أنه يتوجب التعامل مع الجماهير كظاهرة اجتماعية يتوجب التعامل معها وفق رؤى متعددة الجوانب، فمن الزاوية السيكولوجية لابد من الأخذ بعين الاعتبار جهلنا بغرائزها الذي لن يمكننا من فهم تاريخ الثورات (6)، ومعلوم أيضا أن الجماهير لا تفكر عقلانيا، بمعنى تتبنى الأفكار أو ترفضها دفعة واحدة وفق التحريض الذي تتعرض، فتبدو مستعدة للتضحية والموت دون الهدف أو القضية التي رسمتها لها الجهة المحرضة، فيكون سلوكها مغرقا في العواطف العنيفة والمتطرفة (7)، ويمكن فهم موقع وطبيعة الجهة المحرضة كونها عفوية مؤقتة تعبر عن فورة غضب لتنطفئ شعلتها في زمن وجيز أو تمتد كالنار في الهشيم لتحصد الخسائر أو النجاح لأنها ستكون في مواجهة الآخر النقيض مصلحيا والمتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والسلطة، أو تكون هذه الجهة المحرضة مسؤولة منظمة واعية بدورها في توجيه وتأطير الجماهير الشعبية، وهي الأخرى لا يمكنها ضبط انزياحات هذه الجماهير وانفلاتها وغلوها في ردة أفعالها، لأنه مهما بلغت درجة التأطير فإن هذه الجماهير تحمل العديد من الترسبات والمعتقدات والمؤثرات الخارجية، خاصة المعتقد الديني الذي يتم استغلاله من طرف الجهة المتسلطة وفق مفاهيم مغلوطة بعيدا عن جوهره وروحه، ومما لا شك فيه أنه بالعودة لمحطات من الحقب التاريخية سوف نقف عند بعض الديانات في إخضاع الشعوب وتركيعها، ولنا في الأمبراطورية الرومانية التي كانت تستمد قوتها من الدين الذي فرضته على الناس لمدة تراوح خمسة قرون، فكان الإمبراطور معبودا والأباطرة كذلك ثم الكهنة الذين كانت لهم السلطة المطلقة في تكريس مثل هذا الواقع. أما في أيامنا نحن فيمكن الوقوف عند تفشي استغلال الدين في أبشع وجوه تبجيل الأشخاص وإقامة المواسم وزيارات الأضرحة وهو ما أسهب فيه القول السوسيولوجي المغربي بول باسكون، وتجد دار المخزن تدعم هذه المؤسسات بمختلف تلاوينها … ليستسلم الفرد كما الجماعة للشعوذة والخرافة. فالدين سلاح للحكم والتحكم وتوجيه الجماهير الشعبية بمختلف شرائحها نحو أهداف محددة تخدم مصالح الفئة الحاكمة. من هنا نتساءل عن فعالية دور هذه الجماهير؟ أين هي من الجماهير التي حققت نجاحات من وراء ثوراتها؟ ورغم نجاح الثورات فإن فئة محددة هي التي تجني ثمار النجاح، وسرعان ما تنقلب إلى انتهازية تكون قد سخرت الجماهير لأهداف لم تكن محددة وواضحة بالنسبة لهذه الجماهير الشعبية وزعاماتها؟ ولنا في الانتخابات، المغرب نموذجا، أكبر مثل على تحول الانتصار في اللعبة الانتخابية إلى خيبات بالنسبة للجماهير الناخبة وتحول الزعامات إلى صف المستفيدين مواقع التدبير والقرار؟
ثم بالإضافة للخطاب الديني يأتي استعمال العصبية القبلية لبث التفرقة بين هذه الجماهير التي تبدو ملتحمة في عدد من مظاهر احتجاجاتها ناهيك عن الأعراف والتقاليد والعديد من الممارسات التي ورثتها هذه الجماهير من ماضيها وثقافتها عبر التحول الحضاري الذي تشهده المجتمعات. ولتحقيق كل هذه الأغراض يتم التركيز على مجال التربية والتعليم، خاصة في البلدان المتخلفة عن ركب حضارة الغرب البائسة الخالية من القيم الإنسانية، ففي بلد كالمغرب مثلا، يشكل التعليم مصدر قلق وتوتر للفئة الحاكمة، لأنه يرى فيه بؤرة توعية وتثقيف وعلم ومعرفة، وبالرجوع لتاريخ التعليم بالمغرب سوف نلحظ عمليات الإقصاء التي تعرضت لها هئية التدريس باعتبارها جزء من هذه الجماهير الشعبية، بل هي تمثل إحدى زعاماتها والجهات المؤطرة لها، ثم على مستوى المناهج التي تعرض بالمؤسسات المدرسية، إذ يمكن اعتبارها استنزافا لقدرات المتعلمين بسبب عدم منفعتها، بمعنى لا تعدو كونها عملية حشو دماغ المتعلمين بالومهم واستنزاف دخل آباءهم ومجالا لإرهاق ونهب ميزانية « الدولة »، وبالتالي لا يمكن الحديث عن دور هذه الجماهير التعليمية في خوض معارك جدية يتوخي منها زرع الخوف والقلق في الفئة المتسلطة وسحب بساط القيادة من تحت أقدامها، لأن هذه الشريحة من الجماهير الشعبية ركبها الخوف والخنوع. ثم جماهير المثقفين الذين يتنجون الأدب والفن والعلوم، أي دور لهذه الفئة داخل نسيج الجماهير الشعبية؟ فهي تنقسم لثلاث فئات حسب رأينا، واحدة ثورية تعمل على وصف ما يروج داخل المجتمع من قضايا ومتناقضات فتؤجج الصراع، وثانية مسخرة مأجورة لتكريس الواقع المعاش، ومنها فئة الفقهاء وعلماء الدين الخانعين الخاضعين للسلطة القائمة، وثالثة غارقة في الرومانسية البعيدة عن هموم المجتمع ومعاناته، وهي التقسيمات التي تسعى الفئة المتسلطة لتأليب بعضها على بعض.
لا يمكن بهذا الشكل الحديث عن الرهان على دور الجماهير الشعبية كما كان في مرحلة تاريخية سابقة، وبالتالي فخوض المعارك ضد الآخر، الحاكم المتسلط المهيمن المسيطر القوي المتحول، يتطلب وعيا آخر مختلف وسط الجماهير الشعبية يبلغ بها مرحلة النضج لتصبح في موقع المستفيد من التنمية وعائداتها من حيث والعلاج والتمدرس والاستفادة من ثروات البلاد. فتتناسل عدة أسئلة: هل يمكن الحديث عن مفهوم آخر للجماهير الشعبية وفق رؤية اجتماعية مخالفة لما سلف؟ وهل هي مطالبة، أي الجماهير الشعبية في إعادة النظر في تركيبتها الاجتماعية؟ وهل هي في حاجة لزعيم؟ ومن سيؤطر هذه الجماهير الشعبية؟
++++++
الهوامش:
* Gustave Le Bon, Psychologie des foules
.1 معجم المعاني، خلخل
.2 لسان العرب، ج3، حرف الجيم
.3 غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة هشام صالح، ط. 1، دار الساقي، بيروت، 1991، ص. 68-69
.4 نفسه، ص. 69
.5 نفسه، ص. 30
.6 نفسه، ص. 78
.7 نفسه، ص. 91
د. محمد حماس
Aucun commentaire