لطيفة السليماني الغراس: الشاعرة التي تعيد للحياة معناها بالشعر
لطيفة السليمـــــــاني الغـــــراس: الشاعرة التي تعيد للحياة معناها بالشعر
د: عمر قلعي(أستاذ باحث في الثقافة والأدب)
في البدء:
يـــَـــــا رَائـــــدًا للــــرَّوض والإِينــَـــــــاس عـَـــــرِّجْ لِشَمِّ الـــــزَّهْر في مكنـــــــــــاس
بلـــــــــدٌ حَبــَـــاهُ اللــَّـه كُلَّ لَطـَـــــافـَـــــةٍ وحَـمـَــــاه مِـــــن ْكَـــدَرٍ ومِــــن أَدْنَـــــاس
وكَسـَــاه من ثَوب الجَمَــــال أرَقَّــه وَوَقَـــــاهُ مِنْ شَــــرٍّ وَمِنْ وَسْــــــــــــوَاس
فَغَـــدَا بِوَجْه القُطْر شَامَة خَـدِّه وَبـِجِيـــــدِه عِقْـــــــــدًا مِـــــــــنَ الأَلـْمَــــــــاس
تلك هي مكناس، التي ناجاها الشاعر محمد بوعشرين(ق13هـ)، وهي نفسها المدينة التي حباها الله لطفه ولطافته، وكساها من ثوب الجمال أرقه، ووقاها من كل شر. هي شجرة الزيتون التي أثمرت علما وفقها وتاريخا.. وشعرا، وهي ذاكرة الحاضر والماضي، والعشق الذي اجتمعت عليه القلوب…
على هذه الأرض ولدت لطيفة السليماني الغراس، وفي نبضات قلبها تلقت إيقاعها الشعري الأول: إيقاع الحياة، والحب، والحرية، والانتماء..وفي شموخها تعلمت معنى الإصرار، والأمل، والإقبال على الحياة….
لطيفة الغراس المناضلة:
تأثرت لطيفة السليماني الغراس بالعمل السياسي مبكرا، فقد انخرطت، منذ سبعينات القرن العشرين، في الشبيبة الاستقلالية، ثم طورت تجربتها وتكوينها السياسي، وحددت معالم شخصيتها النضالية، في رحاب الجامعة المغربية. والواقع أن مرحلة السبعينات عرفت حراكا سياسيا قويا ورثه العالم العربي من اتساع المد الاشتراكي والقومي، واصطفاف الحركات المناهضة للعدوان الاسرائيلي..وقد كانت الجامعة المغربية ساحة لتطوير النقاش حول هذا الحراك رغم ما ساد ذلك من اختلاف في مرجعيات مكونات الحركة الطلابية آنذاك..
استمر وجود لطيفة الغراس في حزب الاستقلال مدة، تقلدت فيها صفة عضو المجلس الوطني للحزب، في وقت كان فيه أمر امتلاك هذه الصفة يحتاج تكوينا والتزاما وتدرجا في الحزب، وفي زمن كان فيه صوت المرأة مغيبا. وتحكي الغراس أن التزامها الحزبي وفاعليتها جعلتا الراحل امحمد بوستة يقترح عليها الترشح للانتخابات البرلمانية، لكنها رفضت اقتراحه بحجة أنها تفضل أن تحافظ على عضويتها في « برلمانها الأجمل: البيت.
عبرت لطيفة الغراس عن وعيها بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي عاشه المغاربة آنذاك، وعن موقفها الواعي بوضع المرأة المغربية التي لم تنل حظها من الاهتمام المطلوب، بسبب العقلية الذكورية المحافظة، كما عبرت عن نضج كبير في الوفاء لأحد رموز الوطن، القائد والمثقف والمناضل، علال الفاسي، رحمه الله. وقد لمسنا هذا الرأي وذلك الموقف فيما كتبته من مقالات نشرتها في صفحات جريدة العلم، منذ ثمانينات القرن العشرين، ومنها:
– « المثقفة المغربية: أزمة التعالي أم حجر ثقافي؟ »
– « التخطيط المدني والهندسة المعمارية: بين التقليد للغرب وحاجياتنا المغربية »
– « تبقى ذكرى علال مصدر قوة في مسيرتنا نحو العدالة والديمقراطية »
– « سيدتي كفى تبذيرا! »..
لطيفة المثقفة:
امتلكت لطيفة السليماني الغراس شرطين حددا معالم شخصيتها الأدبية: أولهما أنها أوجدت لنفسها قدرا كافيا من الحرية مكنها من الانخراط في العمل السياسي، في وقت لم تكن نساء المغرب تحضين بذلك، كما مكنها من التعبير عن آرائها وتصوراتها وأفكارها فرفضت ما رأته تضييقا على حقوق المرأة وانتهاكا لحرياتها..وقد امتدت هذه الحرية لتشمل أشعارها التي صارت، أحيانا، « لهبا » و »صخبا » و »صراخا ». وثانيهما أنها كونت لنفسها ثقافة متنوعة جمعت فيها بين الاطلاع على التاريخ والأدب، يظهر ذلك جليا في طبيعة نصوصها الأولى(دخان اللهب)، حيث الاهتمام بالتاريخ الإسلامي، واستحضار بعض محطاته، فضلا عن الانخراط في قضية المسلمين الكبرى التي لا زالت تؤرق الشعوب العربية والإسلامية: القضية الفلسطينية، بجرحها النازف في غزة، وتاريخها الحزين في يافا وحيفا..لكن اهتمامها الأكبر اتجه إلى الأدب قراءة وتذوقا، وقد أنتج هذا الاهتمام، في البداية، مشاركة في كتابة المقالة والقصة، غير أنها لم تجد ذاتها إلا في الشعر، ولم تتحقق لها متعة التعبير إلا به: متحررا من كل قيد وشرط، إلا من الجمال الذي تعالج به « قبح » الواقع ومرارة الانكسار وقسوة الإقصاء والإلهاء..
من ملامح التعدد في شخصية لطيفة الغراس الثقافية اهتمامها بالشعر الغربي، وتذوقها لبعض نصوصه الغنائية. فقد ترجمت ثلاثة نصوص، بتصرف، وألحقتها بآخر ديوانها « صخب النفس »، وهي نصوص تتغنى بالحب الذي يحدد خارطة الوجود، وسؤال الكينونة، و »تموجات الروح » في الحضور والغياب. إلا أن الشاعرة تقر بأن هذه « المغامرة » الشعرية « رغبة عابرة »، وأن حبها للغة العربية عشق مفتوح على المكان والزمان، تقول (في حوار لها بالمركز الثقافي مولاي إدريس زرهون): »استحضر دائما الخلفية الفكرية، وباللغة التي تعلمت بها. أنا درست في مدرسة النهضة الإسلامية: مدرسة وطنية وضعها الوطنيون لتحارب الاستعمار وتهتم باللغة العربية. كان الهدف هو المحافظة على اللغة العربية في مكناس، فاس، سلا، القنيطرة… ».
لطيفة الشــــاعـــــــرة:
لطيفة السليماني الغراس إنسانة تمارس حياتها شعرا: فهي مجبولة على البهاء، تبعث في نفوس من يعرفونها جلال الإكبار، تتجلى صافية كالماء، رطبة الروح كقطرات الندى، بعيدة عن أي تكلف، دائمة الابتسامة، مشرقة القسمات، تفيض ألقا وحيوية وثقافة..
وهي شاعرة تلقت الثقافة والأدب شابة، ومارست غواية الإبداع والكتابة ناضجة، مارستها بشغف طفولي، باعتبار الشعر طفولة والطفولة شعرا، يمارسان حقهما في الدهشة والمعرفة، ويسافران في حضن الحلم والخيال والاكتشاف. أدركت، كما أدرك روزنتال قبلها، أن الحياة حين تفتقر إلى الشعر تصبح أقل جدارة بأن تُعاش.
حققت لطيفة السليماني الغراس منجزا شعريا، يشكل جزءا مهما من مشروعها الشعري المفتوح على الحياة، يضم أربعة دواوين/مجاميع شعرية: أولها « دخان اللهب « (ماي2016)، وثانيها « صخب النفس » (يونيو2016)، وثالثها « همس السنين »(2017)، لتصل اليوم إلى وهجها الرابع الذي وسمته ب »الصراخ المبحوح »… ويشكل هذا المنجز الشعري مقاربة ذاتية وتأملية للذات والحياة، وفق ما يمكن تسميته « جدلية اليأس والأمل »، وهو امتداد لأفق شعري أكبر يسمى « تجربة الحياة والموت »: وهي تجربة يقصد بها أن الشاعرة صارت شاعرة تجمع بين هموم الذات وهموم الجماعة/العالم الذي تنتمي إليه، متنقلة في ذلك من التفسير(تفسير الذات والعالم) إلى التغيير، ولكي يحدث هذا لا بد من وعيها وإدراكها بحجم التحديات التي تنتاب حاضرها ومستقبلها.
لقد صار موقف الشاعرة من الذات، ومن العالم الذي يحيط بها، موقفا موحدا تمليه رغبتها في الحياة والتجدد والانتصار على تلك التحديات، ورغبة موازية للحفر في ذاكرة هذه الذات/العالم وتعريتها بما يعيد إليها نقاءها وألقها. والواقع أن هذا الألق وذاك النقاء والصفاء لا يتأتى إلا ب »الاحتراق »(دخان اللهب) الذي يكون مقدمة للتغيير، ولا يتحقق التغيير إلا بإسقاط « الأقنعة » التي تغشى الكلمة والعقل(إلى من جعلوا أقلامهم لخدمة الكلمة بلهيبها، ولتغيير الواقع..، ودعوا إلى استعمال العقل..). ثم إن هذا الاحتراق النفسي يتمدد ليصير ثورة داخلية عارمة(صخب النفس)، يتحول معها مفهوم الزمان والكون(يوم من حياتي)، وتتحول معهما القصيدة إلى سراب وانكسار، وحزن يجرف الروح ويفني الأمل(قساوة قلب)..وحين تنكسر النفس ينكسر فيها وهجها للحياة، وينكسر معهما الأمل في تغيير هذه الحياة، فنعيش على ذكرى يرددها الزمن(همس السنين)، لذلك يصير أفق القصيدة « وَهْــمًا/وَجَعـــًا »، فتصير الحياة حقيقة بالجسد وَهْـمًا بالروح:
« كيف الهـــــــروب من وهــــم
مـــــــن وجـــــع؟ »
وعندما يمتد هذا الوجع النفسي، ويصير فينا « أُلْـــفَـــــةً »، يدفعنا إلى الصراخ والبوح « لنروي عذابات الصمت » (الصراخ المبحوح)، ولنمارس عشقنا « المبحوح »، ولننتظر مخاضنا الآتي.
والحقيقة أن الشاعر إنسان، مهما اشتد حزنه وألمه وصراخه..ومهما اشتدت عليه وطأة السنين، يبقى محكوما بالأمل، بتعبير سعد الله ونوس، ومحكوما بالشعر، بتعبير جوزف حرب. ولطيفة السليماني الغراس، ككثير من الشعراء والشواعر، تجملت بالبكاء، وتاه منها السؤال، وملأت الفضاء بهمسات يائسة، وعانت من « ذكورية » المجتمع وانكسار صوت المرأة فيه..لكنها، رغم ذلك، حافظت على الأمل « الذي يأتي أو لا يأتي » لأنها، كهؤلاء، محكومة بأن تحلم، وأن تغني للحياة، وأن تعيد اكتشاف الذات والعالم المحيط بها بالشعر، فهو وحده من يخلص الشاعر من « تُـــــرَابِيَتِـــهِ » ويرفعه إلى أعلى. وحين يتحقق هذا التجاوب المأمول بين ذات الشاعر(الداخل)، وبين العالم(الخارج) تصبح الحياةُ بكل تَــــآلُفَـــاتِـها وتناقضاتِـها البابَ الأوسعَ لدخول عوالـم الشعر.
في تجربة لطيفة السليماني الغراس الأخيرة (الصراخ المبحوح) ما يدل على تحول ملحوظ في مبنى القصيدة ومعناها، فهي تكتب بلغة متحررة أكثر، تجعل من الكلمة « فضاء يحملها إلى طوباوية الحب »، وبإيقاع الروح والقلب ورائحة الورد، وهي تغازل في معانيها نور الحياة، لذلك نراها تنفتح في شعرها على الموت لتصنع الحياة، « تغرد ألحان الحزن » لتعلمنا معنى الشدو، وتنتقد الذات والآخر لترسم معالم طريق تملأه القيم ويخيم عليه الجمال. تكسر جدران الصمت، تنتقد الإقصاء والإلهاء لتصنع في نفوسنا إنسانية الإنسان. ترفض ثقافة الاسترقاق لتعلمنا معنى الحرية. إنها باختصار تحــــول « لهبَها » و »صخبَها » وهمساتِها » و »صراخَها » أغنياتٍ جميلةً للحياة، ولا شيء غير الحياة.
Aucun commentaire