شهر الصيام فرصة سمو روحي لا يجب أن يضيّعها من كان لبيبا كيسا
شهر الصيام فرصة سمو روحي لا يجب أن يضيّعها من كان لبيبا كيسا
محمد شركي
بداية أحمد المولى الكريم جل جلاله أن بلغنا رمضان، ونضرع إليه ليبلغنا كمال أيامه المعدودات، وأن يختمها لنا بالعتق من النار .
وبعد ، من نعم الله عز وجل التي لا تعد ولا يوافيها شكر شاكر مهما حاول إلا أن يوفقه المولى جل جلاله لذلك ويكون ذلك أيضا نعمة لا يوافيها شكر نعمة عبادة الصيام التي جعلها الله تعالى وسيلة يتخلص بواسطتها الإنسان من أوزار ذنوبه ومعاصيه التي قد يعلمها وقد يجهلها لسوء تقدير منه . ولقد كشف الله عز وجل عن هذه النعمة في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) ومعلوم أن النداء في القرآن الكريم يأتي دائما بعده أمر في غاية الأهمية أوفي غاية الخطورة . ولما كانت نعمة عبادة الصيام من أجل النعم قدم الله عز وجل الحديث عنها بأسلوب النداء تنبيها للمؤمنين لعظمتها وجلال قدرها . وقوله تعالى: (( الذين آمنوا )) تخصيص أهل الإيمان بهذه النعمة دون غيرهم . وقوله تعالى: (( كتب عليكم الصيام )) يفيد التشديد في الوجوب ، وفعل كتب يفيد معاني قضى، وقدر، وفرض، وأوجب ، وهذه المعاني مجتمعة تدل على شدة الوجوب . وقوله تعالى : (( كما كتب على الذين من قبلكم )) يدل على أن نعمة عبادة الصيام شملت كل خلقه وفرضت في الرسالات السابقة قبل الرسالة الخاتمة التي أكمل فيها الله عز وجل الدين ، ومن كمال الدين كمال العبادات فيه ، وقد كملت عبادة الصيام في الإسلام حيث فرض الله صياما خاصا بالمسلمين فاق صيام من كان قبلهم وإن كانت نعمة الصيام قاسما مشتركا بينهم وبين من كان قبلهم . ويقول بعض المفسرين إن القصد من تذكير المسلمين بصيام من كان قبلهم هو تأكيد على عظمة نعمة الصيام التي شملت من كان قبلهم ، وفي نفس الوقت هو تحفيز لهم على الإقبال عليها إقبالا أشد وأكثر من إقبال من كان قبلهم ، كما أن في ذلك تهوينا عليهم فلا يستثقلون ما فيها من مشقة ، ويتحملونها كما تحملها من كان قبلهم . وقوله تعالى : (( لعلكم تتقون )) يفيد الغاية من عبادة الصيام وهي تحقيق تقوى الله عز وجل التي تتحقق بتجنب الخروج عن طاعته بالمعاصي والآثام . ومعلوم أن الله عز وجل كتب الخطيئة على بني آدم فلا يخلو أحد من الوقوع فيها كما وقع أبو البشرية آدم عليه السلام فيها ، ولهذا أوجب عليهم الخالق سبحانه وتعالى التقوى بما هي تجنب للمعاصي والآثام ، وتفضل عليهم بوسيلة تحقق لهم ذلك وهي عبادة الصيام . ومعلوم أن سبب وقوع الإنسان في المعاصي والأخطاء هو طبيعته المادية التي تغلب طبيعته الروحية بسبب شهوتي البطن والفرج . وعندما نتأمل كل المعاصي التي يقع فيه ابن آدم نجدها تعود كلها إلى هاتين الشهوتين اللتين يشترك الإنسان فيهما مع الحيوان ، وهذا يعني أن للإنسان حظه ونصيبه من الطبيعة الحيوانية التي تدفع به إلى حضيض الإشباع المادي ، وهو ما يصرفه عن السمو الروحي الذي يبلغ به درجة التكريم التي خصه الله عز وجل بها مصداقا لقوله عز من قائل : (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) وواضحة آثار التفضيل والتكريم في واقع الإنسان ، فهو وحده المحمول برا وبحرا وغيره ليس له ذلك إلا أن يشركه في حمله ، وهو وحده المخصوص بالطيبات وغيره لا حظ له فيها بل يصيب ما دونها من غير الطيب، وليقارن الإنسان نفسه مع الحيوان ليدرك تفضيل وتكريم الله عز وجل له. والله عز وجل لا يرضى للإنسان المفضل المكرم أن تقصر همته عن بلوغ السمو الروحي الذي يريده له وذلك بلزوم مرتبة الحيوانية من خلال الانشغال بشهوتي البطن والفرج كما هو دأب الحيوانات . ومن هنا جاءت أهمية عبادة الصيام ، وكانت فرصة ثمينة ليسمو الإنسان المؤمن روحيا من خلال كبح جماع شهوتي البطن والفرج بالكيفية التي شرعها الله له . وليس من قبيل الصدفة أن يتعبد الله عز وجل الإنسان باستعراض رسالته له خلال أيام عبادة الصيام لأنه أراد سبحانه وتعالى منه أن يتلقى هذه الرسالة وهو في حالة سمو روحي يؤهله لإدراكها حق الإدراك ، ولأنه إذا طغت حيوانيته على سموه الروحي بالإقبال على شهوتي البطن والفرج لا يكون مؤهلا لذلك بل تصرفه شهواته عن ذلك . ولحكمة أرادها الله عز وجل قرر أن يستعرض الإنسان المؤمن رسالته الخاتمة في أيام معدودات هي أيام عبادة الصيام ليتزامن استعراضها مع حال الإنسان وهو في سموه الروحي الذي يبلغ به مرتبة التكريم والتفضيل ، ويكون التعاطي مع تلك الرسالة عبر جرع كجرع الدواء المحاكية لجرع الصيام ، ويتعلق الأمر بنوع من العلاج خص به الله عز وجل الإنسان وهو علاج مما يعلق به من الخطايا التي تنحرف به عن الفطرة التي فطره عليها . ولهذا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الصوم جنة » والجنة هي الوقاية ، وهي وقاية من علل الخطايا والآثام . ومما أثر عنه أيضا قوله : » صوموا تصحوا » وهي صحة معنوية وروحية قبل أن تكون صحة مادية وجسدية كما ينصح بذلك الأطباء . وقوله تعالى : (( لعلكم تتقون )) فيه إشارة إلى الوقاية وهي من العلاج بل خير منه كما تقول الحكمة المعروفة . وقد يسأل سائل : لماذا يحصل العلاج من الخطايا والآثام بعبادة الصيام ، والجواب عن ذلك في الحديث القدسي الذي رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية عن رب العزة جل جلاله وهو : » كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي » فهذا الحديث يعني أن عبادة الصيام تكون في سرية تامة بين العبد وربه ، ولا يحصل ذلك في غيرها من العبادات التي لها ظاهر كالصلاة والحج والزكاة وهي عبادات يطلع عليها الناس ، ولا يمكنهم الاطلاع على عبادة الصيام لأن الإنسان إذا اختلى بنفسه لم يكن له رقيب سوى خالقه سبحانه الذي يعلم السر وأخفى . وسرية عبادة الصيام تجعلها خالصة من شوائب الرياء، لهذا جعلها الله تعالى له بسبب إخلاص الصائم ، وجعل لها جزاء هو المغفرة والعتق من النار ودخول الجنة كما جاء في أحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله عليه السلام : » من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » ولا يعلم ما تقدم من ذنب الإنسان إلا خالقه سبحانه وتعالى . وتخلّص الإنسان من ذنوبه يسمو به السمو الروحي الذي يبلغه درجة التكريم والتفضيل ، ويجعله يتبوأ الجنة ويدخلها من باب الريّان المخصص للصائمين أو الذين خلّصتهم عبادة الصيام من أوزار الذنوب والمعاصي . ومن الأحاديث المروية عنه أيضا قوله عليه السلام : » إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتّحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة » . فهذا الحديث يؤكد تخلّص الإنسان من ذنوبه ومعاصيه بفضل نعمة عبادة الصيام لأن تصفيد الشياطين ومردة الجن يكون بانشغال الناس بعبادة الصيام التي تصرفهم عن الشر الذي مصدره الشياطين والمردة . وتغليق أبواب النار مقابل فتح أبواب الجنة يترتب عن تصفيد الشياطين التي يكفّ شرها عن الناس بتركهم اتباع ما توسوس لهم به من شر و سوء ، ولهذا ينادي المنادي كل يوم من أيام رمضان بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر، وبذلك يحصل العتق من النار ، ودخول الجنة.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن الأكياس العقلاء من الناس يقايضون معاصيهم التي لا يعلمون حجمها ولكنهم يقدرون خطورتها بالمغفرة والعتق من النار، وهي صفقة رابحة بينما يكبر في عيون غير الأكياس منهم صيامهم ، ويجعلونه ثمنا أغلى من سلعة الله عز وجل التي هي المغفرة والعتق من النار ودخول الجنة من باب الريّان . والغريب أن يتفضل الله عز وجل بنعمة الصيام على العباد ليرقى بهم إلى السمو الروحي التي يبلغ بهم درجة التكريم ،ولكنهم مع شديد الأسف يجعلون جل همهم وشغلهم وهم ممسكون في الطعام والشراب من خلال التهافت على اقتناء ما يفوق حاجاتهم من الطعام والشراب ،وهم بذلك يركنون إلى مرتبة الحيوان ، ويؤثرونها على مرتبة السمو الروحي والكمال الإنساني الذي ارتضاه الله عز وجل لهم .
Aucun commentaire