أحمد الجبلي

من أهم الدروس التي استقيناها من سيرة رسول لله صلى لله عليه وسلم أثناء المرحلة المكية هي بناء قيمة الشيء قبل فعله وممارسته. فلم يكن الصحابة الكرام مطالبين لا بقتال ولا بصلاة ولا بصيام. لأن الأولى كان هو ترسيخ قيمة العقيدة كأساس سيتأسس عليه باقي البناء. فما جدوى الحديث عن الصلاة كسلوك وحركات رياضية، أو ما جدوى أن يُقْتَطع من مال الإنسان مبلغ معين ويُعطى للفقراء إن لم تكن له معنى ذا جذور تضرب في عمق الاعتقاد بأنه طاعة لله تعالى وأن الخير كل الخير في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأنه سلوك يرمي إلى صناعة المجتمع المتماسك الذي يستطيع الصمود في وجه كل الرياح الآتية من الشرق والغرب، وأن التماسك الداخلي والانسجام والتكافل الاجتماعي يحدد القوة في الداخل والقوة في الداخل هي التي تحدد النصر في الخارج. فما كان سيكون للصلاة طعم ولا معنى لو فرضت مع بداية البعثة. حتى إذا فرضت فهمت أبعادها وعلم أنها أهم رابطة تربط العبد بربه. فيؤديها الإنسان على كل الأوجه وفي كل الأحوال، في الأمن والخوف، في الصحة والمرض. فتدرك كقيمة قبل أن تكون حركات جسدية محددة.
إننا في حاجة لنمنح الوقت الكافي لأبنائنا كي نعلمهم ونصبر في تعليمهم جذور الأشياء وقيمتها حتى تترسخ، ويشبوا عليها قيمة ومعتقدا، شعورا وسلوكا لا يقبل الفطام. لأن الأفكار تصنع المعتقدات والمعتقدات يترتب عنها سلوك وممارسات. وهذا يفرض علينا كآباء أن لا نقول كلاما أجوف، وفارغا من كل إقناع وتعليل، لأن تأسيس القناعات يعتمد على خطاب تربوي يستوعبه الطفل ويقتنع به عندما يعزز بدلالات واقعية منطقية مقنعة حسب مستوى الوعي والإدراك لديه. فعندما تطالب الأم الطفل مثلا بشرب الحليب، سيكون الموقف ناقصا وكيف كاف، لأنه من الأجمل أن تضيف معه مبررا رائعا وشيقا ومقنعا كي يقبل الطفل على الفعل بكل حب ورغبة، كأن تقول له: اشرب الحليب لأنه يحتوي على مادة الكالسيوم التي تقوي العظام وأنت في حاجة إلى هذه المادة كي تلعب وتجري وتكون في كامل قواك. وهذا المنهج سيربي في الطفل عقلية علمية تجعله يحسن ربط الأسباب بالنتائج، وفي هذا حماية له عندما يكبر حتى لا يُتلاعب بعقله، فإذا مُنح سيجارة، مثلا، حتما سيسأل عن فوائدها والأسباب والدوافع التي تدعوه لقبولها. وعندما لا يجد أي دافع ولا فائدة أو مبرر لفعل ذلك حتما سيتأفف من أن يُقبل على فعل لا يجد له سندا ولا المسوغات الكافية المقنعة التي تدعو إلى فعله والإقبال عليه.