الفلسفة والتربية على اليقظة
علي بلجراف (*)
» إن الديموقراطية التي تخسر الفلسفة هي ديموقراطية في خطر »
جاك دريدا
ما أحوجنا اليوم إلى التربية على اليقظة الفكرية في عالم يغلي ويمور بصراعات كثيرة حقيقية وجوهرية أحيانا و مفتعلة ومغرضة في كثير من الأحيان . فتعلم وتعليم اليقظة بات يفرض نفسه انطلاقا من المدرسة منذ المراحل الأولى للتدريس ،ليس فقط ،لأن المدرسة هي إحدى أهم المؤسسات ذات الوظائف التربوية ،بل وأيضا لأن تحصين المجتمع يمر بالضرورة عبر تحصين المدرسة . بيد أن درس الفلسفة هو أيضا مناسبة ممتازة لتجذير هذا التعلم وتطويره لدى المتعلمات والمتعلمين وذلك لسببين على الأقل أولهما هو أن الفلسفة بنت العقل الذي هو أساس اليقظة وثانيهما هو أن القضايا والمفاهيم المتناولة في هذا الدرس هي ذات علاقة وطيدة بالوجود البشري وتحولاته ماضيا وحاضرا كما أن طرق المقاربة والتناول والتعلم في مادة الفلسفة تقوم على إعمال قدرات تحليل التمثلات والتصورات الأولية والمفاهيم وطرح الأسئلة والإشكاليات واستعمال الحجاج والمواجهة النقدية بين المواقف والأطروحات وهي كلها قدرات للعقل بما هو نقيض للعنف بكل مظاهره وأشكاله. فكيف يمكن للدرس الفلسفي أن يتجاوز بعض العوائق الذاتية والمؤسسية أثناء الممارسة لكي يؤدي وظيفته في التربية على اليقظة داخل المؤسسة المدرسية ؟
1 . تساؤلات التلاميذ الأولى حول درس الفلسفة
يلج الكثير من التلاميذ إلى الدرس الفلسفي في المرحلة الثانوية التأهيلية من مسارهم الدراسي محملين بتمثلات و أحكام مسبقة حول الفلسفة وقيمتها في الحياة مما يجعلهم يطرحون تساؤلات حول تدريسها وطريقة تقويم عملهم وأدائهم فيها . ومما لا شك فيه أن جل المدرسين يتحدثون فيما بينهم عن ما يعترض ممارستهم التعليمية من صعوبات ومشاكل وحول البدائل والحلول الممكنة لتجاوزها كما أن بعض المتعلمين يبادرون بطرح تساؤلات في الموضوع مع مرور الأسابيع والشهور. وإذا كان الكثير من المدرسين يدخلون في نقاش مفتوح مع التلاميذ حول هذه التساؤلات ، فإن بعض الإجابات المتداولة في الغالب ما زالت في حاجة إلى مزيد من الاشتغال لتخليصها من خطر الرتابة والتنميط .
هناك ما يمكن أن يعتبر سؤال البداية ونعني بداية السنة الدراسية بالجذع المشترك أو السنة الأولى من البكالوريا. فقد يباغت تلميذ أستاذه بسؤال مباشر من قبيل : »ألا ترون أستاذي أن الأمر يتجاوزنا وأن الحمل سيكون فوق طاقتنا في هذه المادة الدراسية ؟ » ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذا السؤال يعكس تخوفا من الفلسفة بما هي مادة دراسية وليس من الفلسفة كفلسفة . ثم يأتي بعد ذلك سؤال آخر السنة الدراسية كالتالي : « ما ذا لو كان المصحح صاحب مواقف وأفكار مختلفة عن مواقفنا وأفكارنا ؟ »بتعبير آخر ، ماذا نتعلم بالضبط في درس الفلسفة : المعرفة الفلسفية أم الرأي الشخصي للمدرس؟ فالكثير من التلاميذ يعبرون عن نفس هذا القلق حين يقولون : مدرسنا يتبنى أطروحة برغسون أو اسبينوزا ، ماذا لو كان المصحح لا يشاطر هاتين الأطروحتين ؟ ولأن المدرس لا يمكن أن يمنع نفسه من سماع كل هذه التخوفات التي يشعر إزاءها بالعجز أحيانا ، فإن تلقيها من تلاميذه غالبا ما يتسبب له ،هو نفسه ،في نوع من الحسرة والقلق .
لقد صارت الإجابة عن السؤال الأول بديهية ومألوفة . ويمكن أن تأتي كالتالي: لستم محقين أيها التلاميذ في تكوين مثل هذا الرأي عن أنفسكم ، فالمرء لا يمكن أن يحكم على نفسه بالفشل قبل القيام بالمحاولة . وإذا كنتم في مادة الفلسفة محتاجين إلى بذل المجهود اللازم من أجل مسايرة الدروس ، فاعلموا أن الأمر لا يختلف عما هو مطلوب في أي مادة أخرى من المواد الدراسية . ولعل سبب عشعشة سؤال البداية هذا حول مادة الفلسفة في أذهان المتعلمين راجع في الأصل إلى كونها كانت تقدم لهم كمادة مختلفة عن باقي المواد الدراسية فضلا عن أنها كانت إلى عهد ليس ببعيد تتوج تقريبا مسارهم التعليمي في المرحلة الثانوية .
في فرنسا ،كما في بلدان أخرى حيث لا زالت مادة الفلسفة تتوج مرحلة التعليم الثانوي ،يسود الاعتقاد أن السؤال الثاني ، أي سؤال نهاية السنة الدراسية ، كان بالإمكان تفاديه لو أن الفلسفة تدرس في مرحلة التعليم الثانوي بكاملها . ما كان لتخوف التلاميذ من أن يكون ما يدرسونه في هذه المادة مجرد أفكار ومواقف شخصية للمدرس أن يوجد أصلا ، لو كان التلاميذ يتلقونها على أيدي مدرسين متعددين . فما دمنا أمام مدرس واحد ووحيد فإننا لا نملك سوى رأيه وكلامه ومن خلاله تتحدد ليس فقط الأفكار أو المعرفة الفلسفية بل وأيضا التعاقد أو الميثاق الضمني القاضي بأن هذا الكلام ليس مجرد هوامات أو هذيان شخص المدرس بل هو منتوج فكري معرفي يملك في ذاته ضربا من الصلاحية مستمد من طبيعة الأفكار الفلسفية ذاتها أي من كونها تتمفصل من خلال نمط من الحجاج والتحليل قابل للإدراك والعرض والتملك بشكل موضوعي مستقل عن شخص العارض (المدرس).
2 . الرأي الشخصي في درس الفلسفة
لقد قيل الكثير حول الصرامة المنطقية للخطاب الفلسفي على اعتبار أن الأفكار الفلسفية لا توجد منفصلة عن نمط اشتغال الحجة داخل هذا الخطاب . غير أننا عندما نكون وحيدين ،(أي في حالة الأستاذ الوحيد ) ليس من السهل ضمان صلاحية كلامنا الشخصي أو الخاص حتى وإن كان يتصف بشكل من أشكال الصرامة . لكن هل معنى هذا أننا في المغرب عندما أنزلنا ،وإن بشكل تدريجي ، الدرس الفلسفي من عليائه أعني من السنة النهائية ليعم السنوات الثلاث من التعليم الثانوي التأهيلي في مختلف الشعب والمسالك وصار المتعلم عندنا أمام مدرسين متعددين بدل أستاذ واحد ووحيد ،قد تجاوزنا فعلا سؤال الذاتية في تدريس الفلسفة وفي تقويمها ؟
إن المشكل ، في العمق، مرتبط بموقعنا (موقع المدرس : وحيدا كان أم متعددا ) داخل المؤسسة أكثر مما هو مرتبط بوضوح وصرامة كلامنا (كلام المدرس: وحيدا كان أم متعددا ). فالمشكل ليس مشكل الشاهد الوحيد الذي ليس شاهدا ، كما في المثل ، مما يعني أننا أمام وضعية أخرى غير مرغوبة هي وضعية المراهنة على الثقة العمياء خاصة إذا لم تكن التربية على اليقظة متجذرة داخل المدرسة . صحيح أن الفلسفة عندنا محتسبة ضمن التقويم الإجمالي الوطني وهي تدرس خلال ثلاث سنوات دراسية كاملة من التعليم الثانوي التأهيلي من طرف مدرسين متعددين في الغالب. لكن إذا كانت النتيجة المنطقية المأمولة من هذه الوضعية هي أن يدرك المتعلمون من تلقاء أنفسهم أن وراء الاختلافات القائمة بين أشكال المعالجة والمقاربة والتحليل للبرامج توجد وحدة ،فإن ما يوجد فعلا في واقع الممارسة الفعلية يؤدي ،على العكس من ذلك ، إلى جعلهم يشعرون بخيبة أمل حقيقية. فواقع الحال الراهن للتقويم من خلال إحدى الصيغ الكلاسيكية للامتحان الوطني على الأقل ونعني صيغة النص المذيل بسؤال « حلل وناقش » ،قد يحمل بعض التلاميذ على الاعتقاد أن تدريس الفلسفة معناه أن يكونوا لأنفسهم ،هم أيضا وليس المدرس وحده، أفكارا وآراء شخصية. ومع أن الأمر ليس خاطئا في حد ذاته ،فإن المسألة بعيدة عن أن تكون بهذه البساطة .فالأفكار الشخصية ليست هي تلك التي لا يشاركنا فيها الآخرون أو تلك التي هي وقف علينا وغير قابلة لأن يشاركنا فيها أحد . إن النتائج الممكن التوصل إليها في عملنا وفي بحثنا الشخصي يمكن أن يتأدى إليها غيرنا أيضا باتباع نفس الطريقة أو بطريقة أخرى . كما أن بإمكاني أن أجعل غيري يقاسمني نتائج تفكيري وكذا الطريقة التي أدت بي إلى بلوغها . فالتصورات أو الآراء تعتبر شخصية إذا نظر إليها باعتبارها نتيجة لعملنا الشخصي ومحاولتنا الشخصية لامتلاك مصيرنا واقتناعنا لكنها مع ذلك ليست بذات تميز أو تفرد مطلقين . إنها لا تملك أصالة كاملة . إن فلسفة المؤسسة هي إذن العنصر الحاسم والمحدد وليس رأي شخص المدرس أو المتعلم .
3 . الجاذبية والتوتر في درس الفلسفة
منذ البداية أي منذ الدرس الأول يجد التلاميذ انفسهم أمام قضايا ومشكلات فلسفية كبرى مما يجعل علاقتهم بهذه المادة موسومة بالجاذبية أو الإغراء والتوتر في نفس الوقت . فهم يصلون إلى الدرس الفلسفي محملين بأفكار مسبقة وانتظارات كثيرة . فإذا كان البعض منهم يأمل أن يقف في هذا الدرس ومن خلاله على القضايا الميتافيزيقية والوجودية الكبرى المطروحة أمام الإنسان منذ القدم منتظرا أجوبة أو حلولا بصددها ، فإن آخرين يلجون هذا الدرس وهم مسلحون بأفكار مسبقة وأحكام وتمثلات جاهزة من قبيل « كل شيء نسبي » أو « لكل حقيقته »،منتظرين من درس الفلسفة ترسيم وتزكية هذه الأحكام لتظل المشكلات مطروحة على الدوام . والظاهر أن هؤلاء يجدون في قولة الفيلسوف « كارل ياسبرز » الشهيرة « أن نتفلسف معناه أن نسير على الطريق » ما يلهب حماسهم في هذا الاتجاه من « اللايقين « . إن الممارسة الفعلية للتعليم الفلسفي عندنا ، في إطار التربية على اليقظة ، مطالبة اليوم بالتحرر من كل تبسيط في طرح مسألة ما يسمى السؤال المفتوح إلى ما لا نهاية والقطع مع « باتوس » أو مرض » المشاكل غير القابلة للحل » . فتاريخ الفلسفة يعلمنا أن ثمة دائما عناصر للإجابة على الأسئلة والمشكلات الفلسفية الحقيقية أما المشكلات المغلوطة وأشباه المشكلات فينبغي أن نتعلم كيف يمكن أن نحلها باليقظة الفكرية . صحيح أن المعارف والمعطيات متغيرة باستمرار لكن هذا أمر ينسحب على الفلسفة وعلى باقي أنواع المعرفة الأخرى أما يقظة الفكر فتظل وحدها غير قابلة للتجاوز .
4. المحتوى والطريقة في درس الفلسفة
كثيرة هي العوائق التي تعترض تحصين التعليم عن طريق اليقظة ولعل أكبر عائق أمام يقظة الفكر في المدرسة عموما وفي درس الفلسفة بالذات هو ما يتصل بمسألة اختيار النموذج البيداغوجي الملائم وطرق التدريس الملائمة . إن ما قد يعتقد التلاميذ أنه « الفلسفة الحقيقية » أو « فلسفة الفلاسفة الحقيقيين » كأفلاطون أو كانط أو غيرهما إن هي إلا فلسفات مندرجة في هذا النظام أو ذاك من أنظمة التدريس . ولطالما طرح نظام التعليم السقراطي كنموذج مثالي ليس في الفلسفة فحسب بل وفي مواد دراسية أخرى .فمما لا شك فيه أن تلاميذ العالم كلهم يعلمون أن الطريقة السقراطية تهدف إلى توليد الأفكار من أذهان متعلمين يفترض أنهم يحملونها دون أن يعرفوا ذلك .فالمعلم سقراط مهتم بسؤال التلاميذ وليس بمدهم بمعارف جاهزة . بيد أن هذه الطريقة السقراطية المسماة » مايوتيك » ليست الميزة الأساسية الوحيدة للبيداغوجيا السقراطية . فإذا بحثنا عن الموضوع في أي محاورة من محاورات سقراط فإننا لن نجد أي موضوع محدد . فنقطة انطلاق المحاورة غالبا ما يكون عبارة عن سؤال يطرحه التلميذ على سقراط راغبا في التعرف على رأيه في مسألة من المسائل ثم تتفرع المسارات والانزياحات الضرورية بعد ذلك .ففي محاورة « مينون » « Menon » على سيبل المثال ،يسأل الفتى المحاور سقراط ما إذا كانت الفضيلة معطاة بالطبيعة أم مكتسبة بالممارسة والتعليم . ويجيبه سقراط بالقول : إننا لكي نجيب لا بد من أن نعرف أولا ما هي الطبيعة ؟ مما يعني بالضرورة القيام بنوع من الانعراج الذي يتحدد دوما من خلال الانتقال من صعوبة إلى أخرى …
لا تقبل المحاورة السقراطية إذن الاختزال في موضوع واحد محدد سلفا وهذا ما يجعل التعليم السقراطي مختلفا ويقظا ومغايرا للتعليم الذي مورس عبر العصور حيث يلقي المعلم درسا حول موضوع محدد سلفا وبدون حوار. فالحوار الحقيقي خلافا للدرس الإلقائي يفترض الانزياح عن الموضوع الابتدائي كلما دعت الضرورة. وكما يبين النهج الأفلاطوني فإن أحد طرفي الحوار أي التلميذ يمتلك معرفة غير صحيحة لكن تقبع خلفها المعرفة الصحيحة المطلوبة أما الطرف الآخر أي المعلم سقراط فلا يمتلك غير مقتضيات الصرامة المنطقية والمنهجية في البحث عن الحقيقة .وغالبا ما يستدعي الصدام بين المعرفة الخاطئة وتلك المقتضيات التوقف من أجل ضبط الأمور حتى وإن اقتضى ذلك الرجوع إلى الخلف وإلى أسئلة متقاطعة مع أسئلة المرحلة الراهنة للحوار.
قد يمارس المدرس مع تلاميذه هذه الطريقة في بعض الدروس مع العلم أن الدروس ليست كلها قابلة للتناول وفق الطريقة السقراطية . فإذا كانت الفلسفة في زمن سقراط وأفلاطون تعتبر معرفة شاملة إلى درجة أن المسائل الجزئية كانت تستوجب الإلمام بما هو كلي . فالكل كان دائما حاضرا في الجزء . واليوم لم تعد وحدة المعرفة على الشاكلة القديمة صالحة .يمكن القول أن المعرفة الفلسفية قد تصدعت منذ العصور الحديثة عندما صارت كل المعارف الدقيقة معارف جزئية ولم يعد من الممكن ولا من الضروري لملمتها في إطار معرفة شاملة ومطلقة . وهي من اللاتجانس بحيث يجد المدرس نفسه مرغما على اتباع طرق تختلف باختلاف الموضوعات المدروسة .
أمام هذا الوضع الجديد لنظام المعرفة المتميز بتشظي العلوم والمعارف ،يمكن القول إن ما هو فلسفي في عمل مدرس الفلسفة ،صار هو تنظيم الانتقال والعبور بين قطاعات المعرفة المختلفة. غير أن هذا لا يعني أنه صار » متخصصا في العموميات » كما أنه ليس مدرس معارف علمية تخصصية رغم إمكان حيازته لمعارف في ميادين علمية .
5 . الفلسفة تحمل ديداكتيكها في ذاتها
من المعلوم أن » دكدكة » الدرس الفلسفي أي إخضاعه لعلم الديداكتيك قد تأخرت كثيرا مقارنة مع باقي المواد الدراسية الأخرى بدعوى أن الفلسفة تحمل ديداكتيكها في ذاتها وليست في حاجة إلى استعارته من الخارج . وهي على خلاف بعض المواد الدراسية ، تتميز بكونها لا تسبق تعليمها . فليس ثمة كلية معينة موجودة على نحو مسبق تسمى فلسفة ،ثم يأتي ، بعد ذلك، أمر تدريسها بالطريقة الملائمة. إن الرياضيات ، على سبيل المثال ، تتطور داخل حقلها النظري والعلمي بعيدا عن عملية تدريسها .حين يتكون فرع من فروعها ، ويترسخ كمعرفة علمية يأتي السؤال بعد ذلك حول كيفية تدريسه في المرحلة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية على اعتبار أن نوعية المتلقي في كل مرحلة تطرح مشاكل بيداغوجية خاصة . وهذا ما يتم في إطار عمل النقل الديداكتيكي للمعرفة من حقلها العلمي الأصلي إلى الحقل المدرسي لتتحول إلى معرفة مدرسة . لا ينبغي أن نفكر في تدريس الفلسفة بهذا الشكل ، ذلك لأن الأسئلة مثل : لمن ينبغي أن يتوجه تدريس الفلسفة ؟ في أي إطار و لأجل أية وظائف ؟إن مثل هذه الأسئلة هي التي تحدد نوعية الفلسفة المعتمدة في بلد ما وفي عصر ما بما في ذلك تلك السائدة على مستوى التأليف والنشر .ففي فرنسا القرن العشرين مثلا ، تميزت الفلسفة بالتطابق بين البرامج المدرسة في مرحلة التعليم الثانوي وتلك الملقنة للمدرسين أثناء فترة التكوين .وفي انجلترا ، حيث لا تدرس الفلسفة في التعليم الثانوي ، تبدو العلاقة واضحة بين اعتبار الفلسفة عملا تحليليا وإدراجها في لائحة المواد التكميلة .
نتأدى مما سبق إلى مسألة العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة . فباستثناء بعض الأنظمة السياسية ،لا تتدخل المؤسسة مباشرة لرسم بعض الاختيارات والتوجهات .ووحدها الأنظمة الشمولية كانت وربما لا زال البعض منها يمنع كليا تدريس الفلسفة .لكن على الرغم من أن المؤسسة في الديموقراطيات الليبرالية لم تكن تفرض فلسفة رسمية بشكل مباشر،نرى أنها تنزل بكامل ثقلها عندما يتعلق الأمر بالفلسفة المدرسية وذلك لأن الأمر يعود إليها ، في النهاية، في تحديد الإطار المؤسسي الذي يتم ضمنه التدريس عن طريق تحديد : لمن ؟ وخلال كم من السنوات ستكون الفلسفة موضوع درس ؟ بهذه الكيفية تحدد الدولة ، بطريقة غير مباشرة، نوع الفلسفة التي ستكون في البلاد .
غير أن الدولة ليست وحدها حاضنة للفلسفة بل وفي جميع الأحوال فإن كل واحد منا يحمل فلسفة معينة هي مجموع تصوراته و معتقداته وأفكاره العامة حول العالم. و في الغالب فإن هذه الفلسفة العفوية غير منطقية وغير متماسكة تتعايش داخلها أفكار ومعتقدات متناقضة وذات أصول مختلفة دون أن نفطن لذلك أو نفكر فيه أو نضعه موضع تساؤل ونقد . من هنا فإن الكل مقتنع (مفتشون وإدارة وأساتذة) بوجود ما يمكن اعتباره أولى الأولويات . فبما أن ذهن المتعلم ليس فارغ تماما في الأصل فإن تدريس الفلسفة يفترض فيه أن لا يتوجه مباشرة إلى شحن التلميذ بمعارف على حساب إعطائه الكلمة ليعبر عن مواقفه وآرائه ويناقشها مع أترابه ومع الأستاذ في أفق بناء موقف نقدي تجاه كل الأمور التي تؤخذ عادة على أنها بديهيات . أكثر من هذا ، فإن التربية على اليقظة تقتضي وتفترض في هذا الدرس ، في إحدى لحظاته على الأقل ،أن يجعل من كلام المتعلم موضوعا أساسا للاشتغال بهدف جعل هذا الكلام منطقيا ، متماسكا ومفكرا .
6 . تعلم الفلسفة أم تعلم التفلسف ؟
أن يتكلم التلميذ في درس الفلسفة معناه أن يعرض فلسفته التلقائية وتمثلاته الأولية ويطارحها مع أقرانه ومع المدرس على طريق كيلها بمكيال الفلسفة والفلاسفة في نهاية المطاف .يدل هذا على أن درس الفلسفة لا يقوم على فراغ معرفي وثقافي ومن ثمة فهو يشكل ،بالنسبة للتلميذ و المجتمع والاجتماع البشري المنشود ،مناسبة ممتازة للتفكيك وإعادة البناء من خلال وضع ما ترسخ في الأذهان كبداهات موضع سؤال ونقد على طريق التحديث والدمقرطة ، تحديث الاجتماع البشري ودمقرطته .
ليست الغاية من الدرس الفلسفي حول السياسة هي تغيير الآراء والمواقف السياسية للتلميذ واستبدالها بآراء ومواقف أخرى بقدر ما هي التربية على اليقظة والتفكير في كيفية تكون تلك المواقف والآراء . من هنا فإن مدرس الفلسفة لا يلقن محتوى بقدر ما يروم تغيير شكل الفلسفة التلقائية وغير المفكرة للتلميذ . وبالنتيجة المنطقية فإن أفكار المدرس وقناعاته الشخصية لا قيمة أساسية لها في درس الفلسفة .
غير أن هذا التوصيف لأهداف الدرس الفلسفي ولتدريس الفلسفة عموما قد يؤدي إلى توهم ضرب من التعارض الجذري بين النقد والمعرفة . منشأ هذا التعارض المتوهم هو افتراض وجود لحظة فراغ قصوى خالية من كل معرفة ومن كل محتوى هي بمثابة وجهة نظر « خام » ،غير محددة لكنها تشكل نقطة انطلاق لممارسة النقد والحكم على وجهات النظر الأخرى . تبدو هذه اللحظة هنا وكأنها تتعالى على كل الأنساق العقدية والمعارف والآراء والمواقف المختلفة والمتعارضة . لكن ، هل توجد حقا لحظة كهذه ؟
يتمظهر هذا الميل إلى اختزال التفلسف في « لحظة نقد خالص » أو بتعبير آخر » الانتماء إلى اللاانتماء » من خلال بعض إجابات المتعلمات والمتعلمين عن سؤال يتردد طرحه في الامتحانات المدرسية حول الشغل والحرية وحول الفاعلية البشرية بشكل عام . السؤال هو كالتالي : » بأي معنى يمكن القول إن الشغل يؤدي إلى تحرر الانسان ؟ » إذا كانت إجابات التلاميذ المشتغل عليها هنا ذات دلالة فلأنها تعكس بعض أوهام الفلسفة التلقائية للتلاميذ .فإذا كان الهدف من طرح مثل هذا السؤال هو اختبار القدرات النقدية للتلميذ : نقد تمجيد الشغل من مرجعية ليبرالية في مقابل نقد تصور الشغل كعقاب من مرجعية بعض التصورات المذهبية وصولا إلى وضع التصورين معا في الميزان ، فإن مهمة مدرس الفلسفة تغدو هنا شيئا زائدا ذلك لأن التلميذ لا يحتاج إلى مدرس فلسفة من أجل اكتساب مثل هذا النقد الذي يقع ربما على أولى درجات سلم القدرات والمراقي العقلية العليا . لكن لحسن الحظ لا شيء يلزمنا بالوقوف عند هذا المستوى من النقد : أي مستوى عرض » سلبيات و »إيجابيات » شيء ما. لا شيء يمنع في درس الفلسفة من المضي في التحليل أبعد من ذلك بشرط التوفر على الوسائل والأدوات اللازمة لذلك . وهذا ما يبدو أن درس الفلسفة في حاجة إلى تعميقه على طريق تفعيل أدواره في التربية على اليقظة داخل المنظومة التعليمية في ظل الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين المعلن عنها في أفق 2030 والجاري أجرأتها مخططات ثلاثية ومشاريع محددة التدابير والنتائج والتي تستحضر مفهوم اليقظة منذ السنوات الأربع الأولى للتعليم الابتدائي .
من أجل المضي بعيدا في التحليل وتجاوز وهم » لحظة النقد الخالص » في معالجة سؤال الشغل مثلا ، لابد من الانفتاح على معطيات اقتصادية وسوسيولوجية وذلك ليس فقط من أجل تعميق تحليل مفاهيم فرعية مثل الاستلاب والاستغلال والبطالة بل وأيضا من أجل مساءلة عبارات السؤال نفسه . ذلك لأنه لا يمكن الحديث عن « إنسان » أو عن « شغل » على نحو مجرد ودون استحضار قضايا أساسية مثل : تقسيم العمل والعلاقات الاجتماعية للعمل فضلا عن استثمار المعطيات التاريخية التي يفترض تحصيلها في مراحل تعليمية سابقة في إطار التقاطع والالتقائية بين مختلف المواد الدراسية . إن مساءلة السؤال هي أيضا إحدى مهام الدرس الفلسفي وأحد أهداف التقويم في الفلسفة .
غير أنه ، لكي يكون التلميذ قادرا على مساءلة السؤال ، ينبغي أن تتأسس علاقات جديدة بين المدرس والتلميذ كما ينبغي أن يصبح السؤال ، بمجرد أن يطرح ، ملكا للتلميذ من حقه بل من واجبه مساءلته وإعادة صياغته وتقييمه . إلا أن هذا الحق سيظل بدون معنى إذا لم يتملك التلميذ الوسائل والأدوات ليس فقط الفكرية اللازمة بل وأيضا المؤسسية والمنهاجية والمرجعية ، تدريسا وتقويما ، التي تمكنه من اقتراح بدائل ممكنة مقابل و/أو إلى جانب و/أو ضد ما هو مطروح في سؤال التقويم .
نخلص من هذا التحليل إلى نتيجة أساسية هي أنه في مقابل » النقد الخالص » الذي لا قرار ولا أساس له هناك ما يمكن ان يسمى « النقد الخبير » أو » النقد المعمق » أو « النقد المدرب » بما يفترضه من مكتسبات معرفية سابقة مندمجة أو تركيبية .فما الذي يحول دون أن يؤدي تدريس الفلسفة في صيغتها الراهنة وظيفته في التناول الإشكالي وتنمية كفاية هذا النقد اليقظ و »الخبير » لدى التلاميذ ؟
7 . عوائق على طريق تنمية النقد اليقظ :
يعزى المشكل ، بالنسبة لبعض المدرسين ،إلى عدم كفاية الزمن المدرسي المخصص رسميا للدرس الفلسفي إذ من الصعب إكساب المتعلم كل الخبرة الفلسفية الضرورية للقيام بالمساءلة الفلسفية على أحسن وجه بالنظر إلى الغلاف الزمني المتاح . بيد أن الوقت ليس وحده المسؤول . هناك أيضا مشكل العلاقة التربوية بين المدرس والتلميذ . يشهد المدرسون أن ما يبديه المتعلمون من حماس عند بداية كل درس لا يلبث أن يشرع في التنازل والانحدار مع مرور الحصص والأسابيع ومع التقدم في تناول أبعاد المفاهيم والقضايا المدروسة مما يحمل المدرس في كثير من الحالات على ممارسة سلطته المؤسسية لضمان الحد الأدنى الضروري من المتابعة والمشاركة في الدرس من جانب التلاميذ . وإذا كان من السهل استعمال سلطة المدرس المؤسسية لجعل التلميذ يتابع حصة الدرس ويسجل العناصر والملخصات ،فإن ذلك غير كاف لضمان تحقق الأهداف المنتظرة من الدرس وذلك لأن درس الفلسفة ليس مناسبة للتلقين على نحو ميكانيكي كما أن الفلسفة ليست معرفة جاهزة للتكديس فوق المعرفة التلقائية التي يحملها التلميذ وهو ما يعني أن لا فعالية للمدرس بدون فعالية ذاتية وإرادية للتلاميذ . لكن لماذا ينفر التلميذ وينسب ذهنيا من الدرس مع التقدم في المعالجة والإحاطة بمختلف أبعاد الإشكالات والقضايا التي تثيرها المفاهيم المدرسة؟
يبدو للوهلة الأولى أن مرد ذلك إلى تمثل التلاميذ الأولي حول الفلسفة . فالفلسفة في التمثل العام والمشترك تطرح القضايا والمشكلات والأسئلة دون أن تجازف بتقديم أجوبة وحلول مما يجعل المتعلم لا يتابع معالجة القضايا والمشكلات إلى النهاية لأنه لا ينتظر نهاية محددة. فبما أن « كل شيء نسبي » و بما أن » لكل واحد منا حقيقته » بخصوص » المشكلات الكبرى » التي هي أصلا في الاعتقاد » غير قابلة للحل » فإن مسألة عدم كفاية الوقت أو الزمن المدرسي غير مطروحة ما دام الأمر سيقتصر على طرح القضايا والمشكلات ،مجرد الطرح ، فبعض الحصص المحدودة كافية لبلوغ ذلك. غير أنه بالإضافة لهذه العوائق الثلاثة : الزمن المدرسي والعلاقة التربوية مدرس/تلميذ والتمثل الأولي حول الفلسفة والدرس الفلسفي وهي كلها عوائق ظاهرة وقابلة للعلاج والتصدي ، هناك عائق آخر يصعب تحديده والسيطرة عليه بسبب طبيعته المحايثة والأيديولوجية . يتعلق الأمر، بنظر (دريفوس و كودوس) ، بنزعة دوغمائية تقوم على الإقصاء والانتقائية وتؤدي إلى نوع من الشكية هي بمثابة المسلمة الضمنية التي تحكم اشتغال الدرس الفلسفي داخل المؤسسة الليبرالية(1) بما يؤدي إلى انسحاب وعزوف المتعلمات والمتعلمين عن المشاركة الفعالة في كل مراحل إنجاز الدروس .
8 . الممارسة الفعلية للدرس الفلسفي :
تؤكد « ميشيل لودوف » على أن الخطاب السائد رسميا في فرنسا خلال القرن التاسع عشر كان يشدد على ضرورة تركيز التعليم الفلسفي على « الحقائق الخالدة » التي هي موضع اتفاق واعتراف بين كل الفلاسفة الحقيقيين . لذلك ظلت قضايا مثل : خلود النفس ، الله ، المنطق ومبادىء الأخلاق تشكل أفضل وأنبل فلسفة في المشروع التربوي الشهير لفكتور كوزان.(2)
تعلق » لودوف » على هذا الخيار الرسمي المؤسسي الذي ينشد « الحياد » و » الحقائق الخالدة » المتوافق عليها متسائلة بنبرة إنكارية : هل يوجد اليوم من يمكنه تصديق الادعاء القائل بوجود « حقائق كبرى خالدة » حاصة عندما يراد لهذه « الحقائق « أن تكون بمثابة تراث مشترك للعقل البشري متعالى على سائر الأنساق ولا ينتمي لأي مدرسة فلسفية بذاتها ؟ فقد كانت نتيجة هذا الحياد في رأيها ، هي إقصاء وتهميش كل الفلسفات التي بلورت تصورات مخالفة حول تلك « الحقائق الخالدة ». لعل ماضي العلاقة هذه بين الفلسفة وفلسفة المؤسسة هو ما يجعل هذه الأخيرة تزعم تبني الحياد من خلال عدم الالتزام بأي محتوى محدد كما يتجلى ذلك من خلال البرامج والمناهج الدراسية .
ترى « ميشيل لودوف » أيضا أنه منذ تأسيس الجمهورية والدولة في فرنسا تردد بأنها لا تتبنى أية فلسفة رسمية بدعوى أنها ينبغي أن تلتزم الحياد أمام الفلسفات المتصارعة داخل المجتمع . (3) أما عندنا في المغرب فيعتبر المنهاج الدراسي في صورته الحالية مجرد موجه ودليل مكون من مفاهيم عامة ولا يحدد ما يجب أن يقوله المدرس . لقد تحولنا من المناهج الدراسية والكتب المدرسية الحاملة للمضامين الجاهزة المقررة للتدريس ومن التصور الرسمي القائم على تاريخ الفلسفة إلى برنامج مفاهيم ونصوص مستقلة فالتوجيهات التربوية الجاري بها العمل حاليا في ظل البرامج والمناهج والكتب المدرسية الجديدة القائمة على تدريس الفلسفة بالنصوص لا يفهم منها ما يحد من حرية المدرس في تطوير وترسيخ أسلوبه الخاص في التدريس . ( حرية المدرس في تطوير وتكريس أسلوبه الخاص في التدريس صارت مكسبا في فرنسا مثلا منذ صدور مذكرة رسمية مشهورة في الموضوع سنة 1925)
غير أن هذه الحرية ،في نهاية المطاف ، معرضة لأن تتحول إلى الحرية في عدم تمرير أي محتوى. فعلى غرار الدولة التي تدعي أنها لا تتبنى أي فلسفة محددة بذريعة الحياد الواجب ، ينسحب نفس الشيء وينطبق على المدرس . فهو مدعو إلى الحيطة من الوقوع في أي اعتقاد مذهبي أو أي قناعة. إنه لأمر مفهوم و مبرر إذن ألا يعمل المدرس سوى على تمرير معارف إشكالية ومؤشكلة . إلا أن هذه الحيطة أو هذا الحذر يتحول إلى مذهب معتمد عوض أن يشتغل كابستمولوجيا فحسب وذلك عندما يصير كفا وامتناعا عن تقديم ونقل أي معرفة كيفما كانت . ولعل هذا ما يرسخ الاعتقاد الآن لدى الكثير من المدرسين والمهتمين أن الأمر ،في الدرس الفلسفي ، لا يتعلق بتعليم الفلسفة أصلا فما بالك بتعليم فلسفة معينة تحديدا ،بل الأمر يتعلق بتقديم تعليم فلسفي لا يلقن أي معرفة محددة مكتفيا ومركزا على تعليم التفلسف وليس الفلسفة مما قد يؤدي إلى الوقوع في نوع من الدوغمائية .
9 . النقد بين الدوغمائية والتحرر
والحال أنه ، في غياب اليقظة الفكرية الضرورية وتحت تأثير نزعة شكية تبسيطية والحياد المتوهم في الدرس الفلسفي ، قد يتحول هذا الدرس إلى بيداغوجيا صرفة للموقف النقدي « الجذري » الخالص وكأن من الممكن ممارسة النقد بشكل جذري خالص . أي ممارسة النقد انطلاقا من لا شيء أي من فراغ مطلق . لذلك فإن الإصرار على التمسك بمثل هذا الحياد السلبي وعلى التعصب للفراغ (دوغمائية الفراغ) وعلى التمسك بالتساؤل الخالص دون أخذ العناصر المعرفية اللازمة بعين الاعتبار ، يعتبر شكلا من أشكال الدوغمائية . لكن ألا يبدو بالمقابل أن هذا الاعتراض نفسه هو مصادرة على عدد من الأطروحات وإقرار بإجرائية عدد من أدوات التفكير والتحليل على نحو مسبق ودون إخضاعها للمساءلة والنقد ؟ فقد يعترض معترض بالقول إن هاهنا خروج عن الحياد الإيجابي .غير أن الأمر ليس كذلك تماما ، فلا أحد يوجد داخل الحياد حتى يخرج عنه . إن ما يعتبر حيادا هو مجرد أفكار سادت منذ مدة وما زالت تسود دون أن نتعود على وضعها موضع تساؤل .
ولعل ما يكرس تعليم النقد الدوغمائي في الدرس الفلسفي محدودية الزمن المدرسي المخصص لهذا الدرس . إن بضع حصص أسبوعية لا تضمن تعليم وتعلم سوى تدجين الفلسفة . فهذا الغلاف الزمني المحدود جدا يكفي بالكاد تعليم التلاميذ اصطناع المسافة تجاه كل ما هو معتقد فكري أو نظري مع جرعة زائدة من النقد الذي يريد نفسه جذريا أي مدعيا التملص أو التحرر من كل قناعة . غير أن تحليل الانتاج الكتابي للتلاميذ يكشف ويدل على أن ما قد يظهر حيادا ليس إلا نزعة شكية خفية .
تتكشف تحت هذا الغطاء إذن آخر مفارقة من مفارقات تدريس الفلسفة : تعليم وتعلم لعبة أخذ المسافة تجاه كل موقف معطى بحجة التصدي للدوغمائية المحمولة في أذهان التلاميذ وتعليم وتعلم النقد مع التزام الحياد. تتجسد هذه المفارقة في إنتاجات التلاميذ من خلال شبكة من طرق الرفض الممنهج للآراء والمواقف والتصورات والأطروحات . ففي مناسبات الكتابة الإنشائية وبعد أن يقوم التلاميذ بعرض المواقف والتصورات المختلفة حول المشكلة المطروحة في موضوع الإنشاء ، فإن كل تصور أو موقف يتبع مباشرة بنقد كما لو أن كل نظرية لا بد وأن تواجه بما يعارضها ويناقضها أو يلغيها كما يتبدى من هذه القراءة في أحد الإنشاءات حول موضوع/ سؤال » الشغل » المشار إليه سابقا : « إن القول بأن الشغل يعمل على تحرير الإنسان يعتبر نوعا من اليوتوبيا غير أن الاطمئنان من جهة أخرى إلى فكرة أن الشغل يسحق الإنسان دائما هو نوع من الغباء » . « يرى البعض أن الشغل وسيلة لتحقيق توازن معين في حياة الإنسان وجعلها ذات معنى غير أن هذا لا ينطبق إلا على نخبة محدودة من البشر » … على هذا المنوال ينتهي الإنشاء إلى إقرار نوع من عدم الرضى وعدم الارتياح لأي تصور من التصورات المعروضة . فهو يقوم بعرض التصورات والمواقف لكن دون أن يجرؤ على أي حسم أو خيار .
وإذا كان التلاميذ لا ينتصرون لأي تصور كما يتجلى ذلك من خلال إنتاجاتهم الكتابية ، فإن هناك ، مع ذلك حضور لتصورات مضمرة مستترة خلف المفردات والتعابير المستعملة في تلك الإنتاجات . فالتقابل بين الفرد والمجتمع ،على سبيل المثال ، دائم الحضور في إنتاجهم المكتوب دون أن يخضع لأي نقد أو مساءلة . فأن نكتب مثلا » إن الفرد وهو يواجه المجتمع يسعى إلى… » معناه أننا تبنينا فلسفة معينة منذ البداية . هذه ربما هي نتيجة تعليم وتعلم « النقد من أجل النقد » لتلاميذ غارقين في نزعة شكية مكرسة حيث يصبح النقد هنا وجها آخر للشك يؤدي الواحد منهما إلى الآخر ويدل عليه .وخلافا لهذا كله فإن ما يحتاجه المتعلمون وما ينبغي أن يعلمه الدرس الفلسفي هو النقد المستنير المساعد على القيام بإعادة صياغة الأسئلة . ولن يتأتى هذا إلا بالتربية على اليقظة الفكرية وكل ما سوى هذا لن يكون دليلا على أن التلاميذ قد تخلصوا فعلا من كل قناعة ضمنية ومن كل خلفية غير مفكرة (impensée).
هل ما زال من داع اليوم للاستمرار في الحذر أو الخجل من تدريس الفلسفة ؟ إن التربية على اليقظة في التعليم المدرسي في حاجة اليوم ،أكثر من أي وقت مضى، إلى الروح الفلسفية . فالفلسفة المتحررة من خجل كونها مادة دراسية أو مادة مدرسة بل الفلسفة كحاجة مجتمعية هي وحدها القادرة على الوقوف في وجه الشك/النقد الدوغمائي باعتباره الفلسفة التلقائية السائدة في عالم اليوم بكل ما تتأسس عليه هذه الفلسفة من افتراضات وخلفيات .
التربية على اليقظة ، ممارسة النقد المستنير أو المدرب أو الخبير ، المقاربة الإشكالية للمعرفة ، كل هذا يدل على أننا نسير على طريق الفلسفة كما يتصورها » كارل ياسبرز » . لكن في أي أفق ولأي غاية ؟ لعل الغاية الأسمى لطريق الفلسفة وممارسة التفلسف منذ سقراط هي أن نمكن أنفسنا وتلاميذنا من بعض الأدوات والوسائل الإجرائية التي تساعدنا على تفكير حياتنا . إن النظرة النقدية للعالم والقدرة على تحليل العصر الذي نعيش فيه والتمكن من الكلمات والأشياء هي ما يشكل المصدر الرئيسي لمتعتنا الفكرية كما عبر » بريشت » بعمق ، علما أن أشياء كثيرة مطروحة للتفكير وإعادة التفكير باستمرار .غير أن هذا البحث المأمول والممتع لا يتم إلا في ظل علاقات اجتماعية . هنا تكمن مفارقة أخرى من مفارقات التعليم الفلسفي . فالمدرس أو معلم التفلسف والفلسفة إذ يعمل ويسعى إلى تسليح الآخرين بأدوات التفكير والسيطرة على الأشياء وتملكها لا يفكر أن يمنحها لنفسه إلا في علاقته مع المتعلمين أو مع إنتاجات تبدو للوهلة الأولى غير فلسفية . إن الرغبة في التفلسف إذن تنطلق من عقالها فقط حين ندخل في علاقة مع الغير ومع الآخر . والتربية على اليقظة هي في النهاية تربية على الحياة في علاقة مع الآخرين لكن دعم هذه التربية اليوم ونحن سائرون على طريق تنزيل مخططات ومشاريع الرؤية الاستراتيجية الوطنية للإصلاح 2015/2030 ،يفترض اختيارات سياسية تربوية واضحة ومحددة تؤدي إلى دعم منهاجي للمواد الدراسية ذات الوظيفة التربوية على اليقظة يتحقق داخله الانسجام والتلاؤم بين مكوناته ( الأهداف ـ المحتوى ـ طرق التدريس ـ أساليب التقويم) بغاية تحصين مواطن الغد ضد الإغراءات المغرضة والتوجهات والاستقطابات المتعددة المصادر في اتجاه العنف بما هو نقيض للعقل والحوار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مفتش فلسفة boulajraf21@outlook.fr
هوامش
1 . Dreyfus D et KHodoss F « L’enseignement philosophique », in « Les temps modernes ,n°235, Décembre 1965,p1022 .
2 . Le deoeuf Michèle, « La philosophie renseignée », in « Philosopher » , les in « les interrogations contemporaines », sous la direction de Christian delacampagne et Robert Maggiori , Paris , Fayard , 1980,P 496
3 . نفسه ، نفس الصفحة .
Aucun commentaire