لُغز التصوف
بقلم د. محمد بالدوان
bouddiouan76@gmail.com
يعود إلى الواجهة نقاش التصوف تزامنا باحتفال المسلمين بذكرى مولد نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، لكون احتفالات زوايا التصوف باتت تشكل أكبر الاحتفالات المثيرة للتساؤل ! فقد جالست كثيرا من الناس من مختلف المشارب في أيام المولد وسمعت منهم استغرابا شديدا لمظاهر احتفال بعض الزوايا: فهذا يلهج أذكار غريبة، وذاك يصرخ بجنون، وبعضهم يستلقون أرضا لتَضرب الأيادي أجسادهم، وآخرين يتخبطون ولا يدري الناس أَمِنْ مَسٍّ شيطاني أم من فيض رحماني؟ !
لن أسوق ما ألفه علماء الإسلام في المشرق والمغرب تبيانا لكل لبس يعتري طريق السالك ويستجلي مواطن المبتدع الهالك. وللمغرب تاريخ في هذا المضمار، فلا يمكن أن تُطمس خطب السلطان مولاي سليمان منذ القرن 19م الداعية إلى ترك المواسم والبدع، ولا يليق ألا نرجع إلى رئيس رابطة علماء المغرب خلال القرن 20م محمد المكي الناصري ونستهدي بمؤلفه في هذا المجال « إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة ».
إنما أريد من كلماتي المعدودة أن تثير نقاشا فكريا لهذه الظواهر العجيبة أو أن تسبر أغوار الدوافع النفسية لمثل هذه الأفكار الغريبة. ولتفسير جزء من السلوك والحال التي تعتري بعض المتصوفة، لا مناص من الرجوع إلى التصورات الفكرية المؤسسة لها.
إن أخطر تصور يمكن أن يبرر السلوك الشاذ لبعض المتصوفة هو القائم على فصل الشريعة عن الحقيقة، فالشريعة حسب هذا التصور هي القضايا التي كان يحتج بها موسى نبي لله على الخضر ولي الله المتمثلة بإنكار وتحريم خرق السفينة وإقامة الجدار وقتل الطفل، أما الحقيقة فهي الجوهر أو »العلم الَّلدُني » الذي يفترض أن يطلبه موسى من الخضر، والمتمثل بإدراك المآلات الخفية التي لا يدركها إلا ولي علمه الله ما لم يعلم الأنبياء.
وأيا كان الخضر، وليا أم نبيا لم نعلم اسمه، فقد قال: « وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي »عما أتاه من أفعال تبدو منكرة أحصتها سورة الكهف. ولذلك لم يتردد أهل التحقيق من العلماء بِعَدِّه من الأنبياء. وفي الحق لا يمكن أن يجرأ إنسان، مهما بلغ من العلم والعبودية، أن يقدم على مخالفة ظاهر الشريعة إلا إذا تَنَزّل عليه الوحي تنزيلا. فماذا تنتظر ممن يرى غير ذلك، ويعتقد في ولي الله كل صفات الكمال علما وحكمة، ويظن أنه بكل شيء محيط ؟!
حينها لا نستغرب فشو كل تلك الطقوس والشعائر الغريبة المستحدثة، وقد لا نَعْجب ممن كان ذاك شأنه إتيان أعمال مناقضة لنصوص الشريعة، ولكم أن تقيسوا على قصة الخمر الشهيرة: فإذا رأيت ولي الله يشرب خمرا(حرام شريعةً) فإياك والإنكار عليه، لأن الخمر يصل إلى حلقومه عسلا(حلال حقيقةً).
وإذا نُظر إلى هذا السلوك من زاوية التحليل النفسي فيمكن رصد مدى الضغط النفسي الذي يكابده مَنْ يقود هذه الطوائف المتدينة ويوظف ميكانيزمات للتخلص منه، ثم يسرب ذات الضغط وميكانيزمات الخلاص إلى المريدين بسلاسة. لذلك تشهد هذه الطريقة استقطابا كبيرا ومريدين بالملايين لكونها تعمل على طرد الضغط أوالهم المطلوب الأول للإنسان، على حد تعبير ابن حزم القرطبي.
فتكاليف الدين شاقة على النفس البشرية والانضباط بمداومتها يزيد في مشقتها، وإذا طُعِّمت بتكاليف إضافية(أذكار، أوراد بالآلاف…) تضاعفت المشقة، فحينها تبحث النفس عن مخرج يرفع عنها المعاناة. فلا تجد ملاذا إلا في مرونة الحقيقة التي تأتي بما تشتهيه النفس وتلتذ له العين. فهو صراع إذن بين واجب التدين وخوف التخلي عنه، فينتهي هذا الصراع إلى حل توفيقي يجمع بين الدافعين استجابة لتَعَقُّد النفس التي تُجِلّ الدين وترغب في الانعتاق من قيوده.
ويمكن أن نقرأ ارتباط المتصوفة بالكرامات والخوارق في ذات السياق النفسي والاجتماعي، فضغط التخلف والعجز عن تذليل صعوبات الحياة والتنزه عن خوض رفاه الدنيا، يدفع الزاهد إلى التعلق بالكرامات والخوارق. فلطالما أخذ مفهوم الزهد طابع الإعراض عن الدنيا والتفكير في نعيم الآخرة، لكن صوتا ما يصرخ في أعماق النفس ينادي بكسب رهانات الدنيا: طي المسافات واختصار الزمن وسرعة التواصل وتجاوز أخطار البحر، وقهر الضواري والحيات…(راجع تفصيلا في مقالتي تدين الأوهام).
فجنح المتصوفة حيال هذه الضغوط إلى التوفيق بين الزهد في الدنيا وتألق عيشها، فلم يجدوا غير الكرامات والخوارق سبيلا إلى ذلك، فالأولياء ومن نهل من فيضهم الرباني لا بد أن ينالوا قسطا من التحليق في الفضاء والمشي فوق الماء، والبصر الحديد والسماع العتيد، والتطويع المفيد للضواري والحيات.
قد لا أكون موفقا بفك لغز التصوف، غير أن يقينا يغمرني في ألا فرقة الدراويش العثمانية ولا كرامات الزوايا المغربية راكمت إنجازات لتحول دون تخلف الأمة الإسلامية وانهيارها تحت ضربات الاستعمار. « مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟ »
Aucun commentaire