حينما سكت مَلِك تندوف ،واصلت الصحراء الكلام
رمضان مصباح الإدريسي
عن وطن نما في الأسر:
لتكشف الصحراء،لمن يريد أن يفهم من العالم – بعد تعلم لغة البيداء،المشتركة بين الطبيعة والإنسان والحيوان-أن الوهم يمكن أن يكبر ويكبر، ليتسمى دولة ؛تشغل حيزا ،وتستهلك الزمن والمال الأممين؛ لا لشيء إلا للبناء على جرف هار:محاولة تثبيت أركان دولة جزائرية مُهربة ،خارج شرعية القادة التاريخيين لجبهة التحرير،ومجاهديها الحقيقيين ؛بعد أن هُربت ،قبل هذا بقرون، من تاريخ المغرب وجغرافيته.
دولة ،بعد أن ألقت في وجه « رفقة السلاح والقمر » من المغاربة وغيرهم،بكل أناشيد الثورة المشتركة،وبكل الطموح الوحدوي لخطاب طنجة ،المؤسَّس على أحلام الشعوب المغاربية ونضالها ؛ لم تجد ما تستر به سوأتها ،عدا المبدأ الإفريقي المتوحش، الذي رسم الطبعة الثانية من أستاذية الكولونيالية الأوروبية،وهو يتمسك بالحدود الموروثة عن الاستعمار.كأن المغرب والجزائر قبيلتان من زنوج الأدغال.
لا قيمة ،في دولة مُهربة ومعسكرة، لحقوق الجار التاريخية،ولا الشرعية ،ولا لالتزامات الحكومة المؤقتة ،ولا للنبل الملكي ،الذي حمل محمد الخامس رحمه الله، ومعه قادة الحركة الوطنية، على إرجاء رسم الحدود إلى أن يَبُث فيه الإخوةُ وديا؛حتى لا تكون للمستعمر الفرنسي ،لكليهما، دالة على أحد منهما ،تثبط همته التحريرية والتوحيدية.تؤكد دلائل عدة أن فرنسا كانت عازمة على العودة ،مع المغرب،الى الحدود العثمانية؛قصا لأجنحة جبهة التحرير.
وعلى غرار النهج السريالي ،الذي يفكك الواقع المرئي والملموس؛ ليركب من شظاياه واقعا آخر فنيا؛تم تأثيث الحيز،المسروق بدوره(تندوف وتخومها) بمسمى شعب جُمع كما اتفق ،ذات فرار لفيالق متهورة من الجيش الجزائري – سنة 1976- من صحراء توهمتها خلاء ؛إلى أن أطبقت عليها الأرض والسماء بسلاح الجغرافية و التاريخ ،قبل الرجال؛فتقهقرت إلى « القضية » تصنعها صنعا ،وتنفخ فيها من الأرواح الشريرة ما تريد.
وأكمل الجفاف ،في منطقة الساحل،والحروب الأهلية،في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي،البقية ؛فقصد خيام الدولة »العابرة في كلام عابر » كلُّ باحث عن قِرى وظِل وماء ؛دون أن يكون في نيته أن يصبح مُواطنا لأحد ،عدا موطنه الأصلي،وان طاردا؛فكيف به وقد أجبر على الإقامة الدائمة في الأسر؛بل في أكبر سجن حديث ،تشرق عليه الشمس وتلفحه ،على مرآى ومسمع من العالم كله؟
ويتتالى الحِكي الصحراوي- بعد أن انتهى الملك من خطاب البناء ،القادم من قلب الأوراش،وليس من تخوم الزيف- ليكشف للعالم عن تغريبة معاصرة ،يعيش تفاصيلها اليومية أزيد من أربعين ألفا من المغاربة الصحراويين ؛ عدا مغاربة تندوف الأصليين.
مغاربة لولا أن أحزمة الجيش الجزائري ،وميليشياتها الصحراوية الانفصالية، تمسك بخناقهم، لتفرقوا شذر مذر ؛عائدين إلى مضاربهم القبلية البدائية ، التي غابت كل تفاصيلها ،داخل مدن مغربية صحراوية ،في مسيرة نماء دائمة. مضارب رحلت معهم ،إذ رُحلوا،ولا زمت المخيال والوجدان ؛ حتى صارت وطنا غير الذي تجني الجزائر،من ورائه، أرباحا مادية ودبلوماسية ،برأسمال صفري، لا يساوي ولو سكنا إسمنتيا واحدا؛يصمد أمام جبروت العواصف والأمطار.
لقد كشفت السيول أخيرا ،ليس عن هشاشة البناء – المعروفة – الذي لم يُكلف الجزائر شيئا،بل عن ما فيا العقار ،ولوبيات السياسة ،المختفية وراء » حق الشعوب في تقرير مصيرها « ،التي تتاجر ببؤس الساكنة ،لتبني قصورها وأرصدتها .لم تزد الأمطار على أن عرت واقعا ،انكشف منذ زمن ؛دون أن تترتب عنه إجراءات أممية ؛لأن الدول ،كالأفراد،تُؤلف قلوبها.
ملك تندوف:
تعرف صوتَه و وطأته المدينة ،أو المدن الثلاث المغربية ،كما يسميها « عالم الصحراء « تيودور مونود »؛سائرا على نهج كل الملوك المغاربة الذين سادوا الصحراء ،وخبروا دروبها وفيافيها ،وصولا إلى الأقاصي الإفريقية ،ما وراء الصحراء.
رغم هذا اختار ملك تندوف ألا يسائل غير هؤلاء المغاربة، الذين دُوِّلوا رغم أنفهم ،وأُفقروا وأُهينوا ،حد خلق عاهة بشرية ،تُقوي حظوظ التسول والكُدية ،لدى أمم لا تفهم في الصحراء ،عموما ؛ ولا تفهم فيها ،وهي مغربية ؛بل لم يكن المغرب أبدا ،قائما في الجغرافية والتاريخ ،بدون صحرائه؛بما فيها الصحراء الشرقية،التي حِيزت – استعمارا – للجزائر.
لو لم يكن الأمر هكذا ما أشهر المغرب حرب التنمية ،وهي أغلى من حرب العسكر.ولو لم يكن الشعب المغربي في أرضه ما سمح بصرف الحكومات المتعاقبة لعشرات الملايير من الدولارات ،على مدى أربعين عاما؛وفي مواجهة خرائط طريق أممية،مفتوحة على كل الاحتمالات.
قارنوا مع صور الاستعمار الاسباني ،الذي كان واثقا بأن يوم الرحيل آت آت. لم يُنفق عدا ما كانت ثكناته تستهلكه من طعام وجُعة.
لقد حل هذا الشعب في صحرائه،منذ 1975 ،وعلى نهج طارق بن زياد،أحرق كل السفن لتَثبُت القدمُ شجاعة ،حيث هي ؛أو ليموت حيث هو.
لو كانت الجزائر على صواب لما ألقت السلاح في معارك « امغالا » وغيرها ،وهربت إلى الزيف والوهم.وهل ألقته في العشرية السوداء ،حينما داهمها الإرهاب في قلب خريطتها؟ ولو كانت صادقة في نصرتها للشعب الصحراوي ،لما حاصرته،بجيشها ومخابراتها، في تخوم تندوف ،وفي مدن الطوب والصفيح؛دون تمتيعه حتى بالإحصاء وهي مطالبة به؛و بحقوق اللجوء السياسي ،المنصوص عليها أمميا. وهل سمعنا لها ركزا أو هسيسا حينما اتُّهمت جهارا ،من طرف أوروبيين، باستثمار العاهة المصنوعة أبشع استثمار ؟
ويسائل ملك تندوف مواطنيه عن ظروفهم ،وهو يعلم أن المواطنة المغربية الصادقة لا تنقصهم.يسائلهم ليُشعرَهم بأن كل المغرب ،وليس ساكنة الصحراء فقط،يتضامن معهم في محنهم السياسية والطبيعية ؛التي لن تزداد إلا حدة ،اعتبارا للوضع الانتقالي الذي تعيشه الجزائر ،واعتبارا لوضعها الاقتصادي الذي سيزداد ارتباكا ؛ما دام قائما على ريع جيولوجي ،قاتل لهمم الرجال ،ومورث للكسل والجشع. انتهت « أوديسا » النفط والغاز ،وعاد « اليس » إلى أحضان « بينيلوب »..
وكأي محنة تنحل حينما تشتد ،يبدو أن زمن خلق القضايا الوهمية ،والارتزاق الدولي ب »قميص عثمان » قد شارف على نهايته ؛ولن يتأخر الشعب الجزائري المغرر به – هذه المرة- على تمثل الوضع السياسي لبلده على حقيقته؛حينما يغيب آخر رؤساء الانقلاب على الشرعية التاريخية،وتُستل كل سكاكين الخلافة ،في ليل كموج البحر.
وقتها سيبوح قادة الانتقال الديمقراطي،حتى للعالم الذي لا يصدق المغرب، بكل الأسرار التي جعلت دولة الجزائر المستقلة لم تنصرف،منذ الاستقلال، للبناء الداخلي ،والمغاربي؛والتوزيع العادل للثروة؛وإنما لتصدير المشاكل صوب الخارج ،عبر مسميات شتى ؛منها الشعب الصحراوي.ومنها أيضا فبركة حروب إرهابية ،صارت اليوم نموذجا يحتذى، لدول ديكتاتورية مشابهة ..
وقتها فقط ستنحل لوبيات « تقرير المصير » تلقائيا ،وستتبخر في الطبيعة ،إن لم تذبح ذبحا ،كما حصل مع « الحركيين » غداة استقلال الجزائر.
قالها المرحوم الحسن الثاني ،وكررها ملك تندوف: إن الوطن غفور رحيم.فالبَدار البدار قبل إغلاق باب الدار ..
المغرب اليوم يمارس صحراءه:
قلتها سابقا ،وجاء الخبر اليقين مع خطاب العيون التاريخي،وهو من عيار خطاب طنجة،الذي كشف للعالم عن التوجه المغربي والمغاربي.
وكل من يفهم لغة الرسائل الملكية، أصبح مقتنعا بأن مرحلة جديدة بدأت ؛ليس في ما يخص الصحراء فقط- إذ هي في أوراش متواصلة منذ سبعينيات القرن الماضي – بل بالنسبة للوطن كله ؛عبر جهوية متقدمة ستشتغل في جميع الاتجاهات ؛أسوة بالأنظمة الديمقراطية الراسخة في اللامركزية. إن عين المركز كليلة بالنسبة لتفاصيل الجهة؛ ومن هنا لن يكون بوسع أي جهة التملص من تفاصيلها التنموية التي تصبح عليها وتمسي.
حتى الجهود التنموية السيزيفية في الصحراء ستُرى،داخليا وخارجيا، بعيون أخرى .ستكون جهوية ،مما يعني أنها من انجاز مغاربة الصحراء للصحراء ؛وفق قناعاتهم وإمكانياتهم. ولن يكون بوسع الفكر الانفصالي غير الانحناء أمام الفكر الوحدوي؛اللهم إلا إذا كان بوسعه أن يأتي بما هو أفضل ،على الأقل في ما يعتبره « الثلث المحرر »؛وما هو في الحقيقة غير الثلث الذي عفا عنه الجدار قصدا،إحراجا وتحديا .وهل يستوي النماء والخلاء؟
لو عاد الاستعمار الاسباني لَتَعرف على نفسه ،وطرقه المقفرة، في صحراء الرابوني ،وليس في حواضر العيون وأخواتها.
هذا واقع ،فانظروا ماذا تختارون؟ ولو عادت فرنسا لتعرفت على نفسها في الجزائر وليس في المغرب.
وموعدنا في طرق صحراوية سيارة ،الى القلوب قبل المدن.
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire