في انتظار نهضة تعليمية حقيقية..
كل مغربي يعتز بوطنيته، لا بد له من التطلع الدائم إلى تحرر بلاده من قيود التخلف والفقر، والحلم بغد أفضل، يعم فيه الأمن والاستقرار، والرخاء والازدهار. وبما أن التعليم رهان أساسي لتحقيق التنمية الاجتماعية والبشرية، فإن المواطنين ما انفكوا يطالبون بإصلاح منظومة التربية والتكوين، كما لم يفت الملك محمد السادس المناداة بضرورة النهوض بها، عبر خطبه السامية وكلما حلت ذكرى ثورة الملك والشعب، مقدما بذلك تشريحات دقيقة وتوجيهات بليغة لمعالجة الاختلالات القائمة، إلا أن النخب السياسية والقائمين على شؤونها، لم يستطيعوا التقاط تلك الإشارات القوية بشكل سليم…
ومن أغرب المفارقات، أن نجد بيننا جهات تنشر الأضاليل، وتربط أزمة منظومة التربية والتعليم، بضعف مستوى تكوين المدرس وانعدام الضمير المهني لديه، كما هو حال حكومة السيد بنكيران، التي أبت إلا أن تجعل منه مشجبا تعلق عليه فشلها الذريع، وتعلن حربا شعواء ضده في شخص كل من السيد محمد الوفا وزير التربية الوطنية في نسختها الأولى، وخلفه الحالي التكنوقراطي رشيد بلمختار، حيث لم تتردد في محاصرته عبر تدابير مجحفة، للحط من كرامته وحرمانه من أبسط حقوقه المشروعة ك: الإضراب، متابعة دراساته العليا… وعدم الاستفادة من التقاعد النسبي إلى حين قضاء ثلاثين سنة من العمل بدل 21 سنة للرجال و15 سنة للنساء، وإجبار البالغين سن التقاعد الكامل على الاستمرار في مهامهم إلى غاية 31 غشت من كل موسم دراسي، حتى إن تطلب الأمر قضاء عشرة أشهر إضافية، دون موجب حق ولا حوافز مادية.
هكذا، وبشكل اعتباطي، وبلا تشخيص دقيق وموضوعي لإشكالية التعليم، والرجوع إلى أهل الاختصاص والباحثين وكل من له صلة بالقطاع، بحثا عن مواطن النقص والخلل والعوامل المؤدية إلى هذا التراجع الخطير، تصدر أحكام جزافية وقاسية في حق المدرس ويلقى بالمسؤولية على عاتقه، في حين أن التعثرات المسجلة من قبل المختصين تتجاوز طاقته، نذكر منها على سبيل المثال: غياب الفضاء التربوي المناسب والحكامة الجيدة، ضعف مستوى الكتب المدرسية، اهتراء البنية التحتية، تلاشي العتاد الديداكتيكي، تقليص الحصص الأسبوعية لبعض المواد الأساسية والعلمية والاستغناء عن أخرى في مستويات معينة، إلغاء التفويج في مادتي الفيزياء وعلوم الحياة والأرض، ضم الأقسام والاكتظاظ… بالإضافة إلى تهميش مطالب الشغيلة التعليمية. والعارفون بواقع الأمور، يؤكدون على أن هذه النقائص ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج صيرورة تاريخية تمتد لسنوات طوال، تميزت بغياب الإرادة السياسية، التبعية العمياء، وعدم مواكبة التحولات العالمية الكبرى، إن على مستوى طرق العيش أو التواصل…
ومن هذا المنطلق، يمكن الجزم بأن أزمة التعليم، هي حصيلة تراكمات عدة منذ فجر الاستقلال، ويحز في النفس، أن يتم استنزاف الكثير من الجهد والوقت والأموال الضخمة، في وضع مخططات ومشاريع إصلاحية وبرامج تصحيحية واستعجالية، أجهض بعضها فيما أثبتت التجارب فشل أخرى، حيث لم تنتج عدا جحافل من التلاميذ والطلبة المعطوبين والعاطلين. ولعله من سوء التدبير والتقدير، ألا يهتدي أصحاب القرار إلى ما يعيد الثقة للأسر المغربية وللمدرسة العمومية إشعاعها، في ظل الإمكانات المتاحة لمسلسل الإصلاحات، الذي استمرت حلقاته في جلد المواطنين ما يزيد عن خمسين سنة: من اللجنة الرسمية لإصلاح التعليم خلال عام 1957، إلى اللجنة العليا لإصلاح التعليم سنة1958 ، إلى مناظرة المعمورة في 1964، إلى مشروع إصلاح التعليم بإفران عام 1980، إلى اللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم في 1 994، ثم الميثاق الوطني للتربية والتكوين عام 2000، فالبرنامج الاستعجالي سنة 2009، الذي جاء لتسريع وتيرة عشرية الميثاق الوطني وتفادي المخاطر المحدقة بالمنظومة التعليمية، بناء على ما ورد في تقرير المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008، من رصد للاختلالات الجوهرية، منها: محدودية التعليم الأولي، الهدر المدرسي وظاهرة التكرار، ضعف التحكم في اللغات وخاصة لغة التدريس، سوء التوجيه المدرسي، إشكالية الحكامة وتوزيع الموارد المالية والبشرية، نقص تكوين وتأطير المدرس، وضعف آليات التقويم… وما يؤسف له حقا، أن يتواصل اتساع دائرة القلق والمعاناة لدى الأسر والأطر التعليمية من موسم دراسي لآخر، جراء لجوء الوزارة الوصية إلى الارتجال واعتماد الحلول الترقيعية. فضلا عن أن المدرس والمقرر الدراسي فقدا « سحرهما » في إيصال المعرفة والعلم للمتعلم، وأصبحا أمام تحديات منافسة شرسة من قبل وسائل الاتصال الحديثة، من هواتف ذكية ولوحات إلكترونية متطورة، وحواسيب عالية الدقة والجودة، يساهم حسن استعمالها في الانفتاح على فضاءات تربوية أكثر رحابة.
وتأتي الرؤية الإستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي، الذي جاء في ماي 2014 تطبيقا لمقتضيات دستور 2011، بهدف تقديم المشورة وتنوير أصحاب القرار والفاعلين والرأي العام، بناء على التقييمات الكمية والنوعية، بمثابة فرصة جديدة تقتضي حسن استثمارها، لاسيما أن رئيسه السيد عمر عزيمان أبدى مخاوفه من استفحال الوضع، داعيا إلى الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، والانخراط العاجل في إصلاح منظومة التربية والتكوين، باعتبارها أولوية وطنية حاسمة، والتزام الحكومة بحسن تنزيل توصيات مجلسه، مع ما يلزم الدولة من توفير إمكانيات مادية هائلة، لتنفيذ الإصلاحات الضرورية، التي ستمتد على مدى 15 سنة (2015/2030)، وهو ما يعتبر عملا جبارا يقتضي مساهمة كافة المتدخلين وجميع مكونات المجتمع، كل من موقعه.
ورغم فقدان الوزير « بلمختار » مصداقيته، لإخفاقه في تولي نفس المسؤولية في ولاية سابقة، وإلصاقه تهمة تراجع منظومة التعليم بالمدرس، وتملصه من تحديد المسؤوليات في تسريب مادة الرياضيات خلال دورة يونيو 2015، وعدم محاسبة المتورطين في الفساد المالي والصفقات المشبوهة، الواردة أسماؤهم في التسجيلات الصوتية المسربة مؤخرا، فإننا ولشدة تعطشنا إلى الإصلاح، سنسلم بواقعية المشروع الجديد في تغيير وجه المدرسة الوطنية، لتصبح ذات جدوى وجاذبية، وقادرة على خلق مواطن المستقبل بمواصفات حديثة، عبر تعليم جيد وتكوين عصري، يتأسسان على القيم والمبادئ العليا للوطن. بيد أنه، لا يمكن أن يأتي ثماره إلا عبر تحديث البرامج والمناهج، الاهتمام بجودة المخرجات والبحث العلمي، اعتماد معايير الجودة والمقاربات التشاركية والتدبيرية، ورد الاعتبار للعنصر البشري ماديا ومعنويا، ربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسيخ مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص بين أبناء الشعب، إلى جانب ارتكازه على التعلمات الأساسية واللغات الأجنبية، والتأطير التربوي، والتفتح الذاتي، وتحسين العرض المدرسي، وتخليق الحياة المدرسية، وتعزيز تنافسية المقاولة في مجال التكوين المهني…
وفي انتظار القطع مع لغة التسويف والشعارات والوعود الكاذبة، فإننا نعقد الآمال على كسب رهان نهضة تعليمية حقيقية، واستجابة بلادنا لانتظارات شبابنا المتعلمين والطلبة، بفضل الإرادة الملكية الصادقة واستنهاض همم الشرفاء، بما يعزز مفهوم المواطنة لديهم وتكريس روح الانتماء للوطن. فالتعليم رافعة أساسية للتنمية، ولبنة متينة لبناء أجيال مسلحة بالمهارات والقيم الرفيعة وحسن الخلق…
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire