قطاف السنين العجاف
« كل المنافي لاتبدد وحشتي ، مادام منفاي الكبير بداخلي » .. نزار قباني !
(1)
إن ما يحكم سلوك أو منطق القدرة والإرادة في ثقافتنا الاجتماعية ليس التناسب بين المتطلبات و الإمكانات، بقدر ما هو حزمة مظاهر تعول في شيوعها على ثقافة الأقساط والديون. إن كنت لا تصدقني فتأمل في أيقونات المعيشة والترفيه لدى مُتمدني الطبقة المسماة « متوسطة » التي يملك معظم منتسبيها أجهزة كهربائية وإلكترونية يتم تصنيفها ضمن قائمة الكماليات عند متوسطي الدخل في العالم الأول! .. هذا السلوك الجمعي أنتج ظاهرة الشخصية المزدوجة .. معظم أفراد الطبقة المتوسطة يظهرون في المجتمعات بمظهر الغنى، بينما يعيشون بين جدران بيوتهم أسلوب حياة أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، لرتق ثقوب الميزانية التي يمزقها «النفاق الاجتماعي» والتمظهر بغير الجوهر!.. والنتيجة ديون بنكية متفاقمة وأموال عظيمة مُهدرة على مذابح المظاهر الكاذبة وسلوكيات سالبة تزداد شيوعاً و رسوخاً .. تذكيها جحافل الخطابات الاشهارية التي ما تنفك تقصف أفئدة وأذهان الحالمين بحياة الرفاه والبدخ الموهوم ، ما يسهم بشكل مباشر و حثيث في زيادة أسباب الاحتباس الحراري والاحتقان الاجتماعي ..!
(2)
التقليد نزعة إنسانية وظاهرة عالمية، لكنه عندنا طبيعة شعبية ورسمية .. تأمّل مثلاً في ذلك الهَـرَع الجماعي الكبير نحو استثمار رؤوس الأموال الصغيرة في قوالب محدودة ومتشابهة يكاد السابق منها يستنسخ اللاحق استنساخا.. فكل من يمتلك بعض المدخرات ثم يمنِّي النفس باستثمارها في مشروع صغير يدر عليه دخلاً ثابتاً، يقوم بتقليد مشروع جاره أو صديقه بعيداً عن اختلاف ظروف نجاح هذا المشروع أو ذاك.. أرجو أن تلاحظ معي أيضاً ذلك الخلل في توازن العلاقة بين طلب المواطن وعرض المستثمر المحلي.. محلات الأكلات الخفيفة والمقاهي أكثر من أن تُعـد أو تُحصى .. وخيارات مطاعم الوجبات السريعة أكبر من شهية المواطن .. بينما يتبرم ذات المستهلك، المحاصر بهذا الكـمّ الهائل من العروض الزائدة عن حاجاته، من عدم كفاية العرض لطلبه على سلع وخدمات ضرورية .. والنتيجة توسُّع رقعة الدين على حساب دائرة الربح .. إن مشكلة المحاكاة والتقليد في المشاريع الصغيرة أنها دوماً إلى بوار ، لأن التجارة الناجحة هي لعبة عرض ذكية على أوتار الطلب وليست مجرد محاكاة صمّــاء جوفاء! .. إن مواكبة السلعة الذكية يقاس بثبات معدل الطلب عليها، كما أن تطور المجتمعات يقاس بمدى ملائمة انتشار السلع لحاجة الناس ،لا ملائمة المزاج العــام ..!
(3)
يبدو التاريخ في الظاهر، ليس أكثر من نشرات أخبار ـ كما يقول ابن خلدون ـ ولكنه في عمقـه يعتبر مكمنا خصيبا للأفكار والعِبـر، أما تاريخ الأنظمة الحاكمة مع النهب المسلح بالاستبداد السياسي فيقول : »إن تراكم الثروات الشخصية للقلة الحاكمة على حساب الشعوب ظاهرة متفشية في مجتمعات الحكومات المعينة ،وحكومات الحزب الواحد و حكومات التعددية الشكلية ».. وهذا هو بالضبط ما يُطلِـق عليه بعض فقهاء السياسة في حذلقة مصطلح « الكليبتوقراطية ـ kleptocracy »! .. هذا الضرب من الحرابة السياسية المهذبة ينقسم إلى نوعين : فهناك أنظمة حكم اللصوص الذين لا يأبهون بتقديم الفواتير، ولا يكترثون لتبرير تكدس أرصدتهم على حساب خواء خزائن المال العام .. وهنالك أنظمة حكم من يطلقون على اللصوصية مصطلحات لطيفة وملطفَـة.. من فقـه السُّـترة ، إلى التّرضيات السياسية، إلى شَـراكات الحكم الذكية ، التي تُـوزّع بمقتضاها الأموال والموارد بين من « لا يملك » ومن « لا يستحق ».. أما المواطن فهو موعود – في كل الحالات وأحسنهـا – بسياسات اقتصادية » تقويمية » ، مُصوّبَـة إلى مصدر رزقه، وشعارات خدّاعـة لـزجة ، تستهدف احتجاجَـه – إن وَقَـع – ومُساومات إجبارية على حقّـة في الفُـتـات – إن وُجِد ـ ..!
محمد المهدي 20/09/2015
تاوريرت
4 Comments
مقال ممتاز ينم عن دربة ودراية كبيرة في مجال الكتابة والصحافة.. ما أحوجنا الى مثل هه المقالات الرصينة التي تبتعد بنا ما امكن عن التقريرية و التسطيحية التي تسم معظم الكتابات الصحفية الراهنة.. برافو برافو براقو
هذه أقوى فقرات المقال التي أعجبتني ولخصت كل المعاني ..
شَـراكات الحكم الذكية ، التي تُـوزّع بمقتضاها الأموال والموارد بين من “لا يملك” ومن “لا يستحق”.. أما المواطن فهو موعود – في كل الحالات وأحسنهـا – بسياسات اقتصادية ” تقويمية ”
دمت متألقا رصينا الى الأبد
السيد قدوري لا يضع خطوطا حمراء امام الكتاب الذين يلمسون في نفوسهم القدرة على الكتابة سواء كانت تقريرية او سطحية او معمقة.بخلاف بعض المنابر التي تطالب ان يكون الكاتب حاملا لاهتمامات تلك المنابر.على كل حال لا يدعي اي واحد من الكتاب انه يملك ناصية الكتابة.فالمؤلفون الغربيون ومنهم نتعلم،بعضهم يكتب ببساطة،و اخرون يكتبون بتجريد لا يقدر قارئ غير متخصص ان يلم بالكتابة و معانيها و دلالاتها.و القراء اصناف،وعليه هناك من يكتب لنفسه او لفئة من القراء،و هناك من يكتب لعامة الناس،وهدفه ان يوصل فكرته ببساطة لا لبس فيها.على كل نحن نشكر وجدة سيتي على اتساع صدرها لكل من اراد ان يعبر باية طريقة سطحية او تقريرية او معمقة،مفهومة او غامضة…
السلام عليكم
مقال مسروق من مقال الكاتبة منى ابو زيد بجريدة الراكوبة السودانية وهذا هو رابط مقالها الاصلي
link to alrakoba.net