سوسيولوجيا الثابت في قصة يوسف عليه السلام (2) عمر حيمري
سوسيولوجيا الثابت في قصة يوسف عليه السلام (2) بقلم عمر حيمري
كما أن ظاهرة صراع الأجيال ثابتة ومتكررة عبر التاريخ البشري ، وهي ناتجة عن الرغبة في الاستقلال والحرية في الفعل ، وفي خوض تجارب الحياة ، بعيد عن وصاية الآباء وعن أسلوبهم في الحياة ، وفي التفكير ، وفي معالجة المشاكل وإحداث التغيير ، مع محاولة بناء وتكوين ثقافة خاصة بهم ، ونظرة جديدة للواقع وللحياة والمجتمع تتلاءم مع تطلعاتهم ، والبحث عن كل ما يميزهم عن الآباء ويسهل عليهم عملية الانقلاب على التبعية والتقاليد . يقول ابن خلدون : { اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش } ( مقدمة ابن خلدون ص 120 ط5 دار صادر 1984 ) . وقريبا من هذا المعنى يرى علماء الاجتماع ، أن صراع الأجيال يتمظهر في الاختلاف بين الشباب والشيوخ ، في رؤية الواقع ، وسير المجتمع ، وتأزم العلاقة بينهما واضطرابها ، وتبادل الاتهامات حول استيعاب الواقع وفهمه ، واتهام كل طرف الطرف الأخر بالتزمت ، أوالتشدد ، والتطرف ، وعدم احترام القيم ، والأخلاق ، والعادات ، والتقاليد والأعراف … وهذا يؤدي إلى تعميق هوة عدم التواصل ، ويغيب آليات الحوار بين الأبناء والآباء ، الشيء الذي يولد حالة من النفور ، ويؤدي إلى الصراع والصدام العدائي ، ويهدد الأسرة وكيانها ، والمجتمع وهويته . فإخوة يوسف عليه السلام اتهموا أباهم بالضلال المبين ، وشككوا في سلامة تفكيره ، وعقلانية تقديره للأمور ، فقالوا الذي أخبرنا به القرآن الكريم : [ إن أبانا لفي ظلال مبين ] ( يوسف أية 8) وقالوا : [ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ] ( يوسف آية 95 ) . لأنهم كانوا يرون أنفسهم عصبة ، ومجموعة قوية ، ذات شوكة شديدة ، وقوة ظاهرة ، يخشى جانبها ، قادرة على الدفاع عن الأسرة ، والذود عن الأب ، وهي التي تسانده ، وتنفعه ، وتساعده على تكاليف الحياة ، والمعيشية ، وهو الذي يعيش شظف العيش وضيقه ، وسط مجتمع بدوي ، تحكمه العصبية القبلية ، والقرابة الدموية ، والاعتزاز والافتخار بالحسب والنسب ، وكثرة الأبناء والأحفاد … فكيف لهذا الأب ـ ( يعقوب عليه السلام ) ـ الذي يعيش في هذا الوضع ، وهذه الظروف المعيشية ، والاقتصادية ، والأمنية الصعبة … أن يفضل ويؤثر صبيا صغيرا لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه عند مواجهة أي خطر يحدق به ، حتى ولو كان ذئبا ، على مجموعة من الرجال الأقوياء شديدي البأس ؟ فهذا بدون شك حسب تقديرهم ، وقراءتهم للواقع ، سوء تقدير وضلال من أبيهم . ولكن يعقوب عليه السلام ، كان يرى بنور الوحي ، أن أبناءه قصيري النظر ، وأنهم محجوبون عن إدراك الحقيقة ، وأن العقل الذي يقدرون به الأمور ويتخذونه كمصدر للمعرفة ، ويعتمدون عليه كقدرة مطلقة قادرة على تحليل الأحداث ، التي تجري حولهم ، وحل المشكلات التي تواجههم ، وحده غير قادر على استشراف المستقبل والاطلاع على الغيب ، وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه وعلمه ما لا يعلمون ، من خلال الرؤية التي أراها لابنه ، والتي أولها بالشأن العظيم ، الذي سكون لهذا الصبي يوسف عليه السلام ، وبالنعم التي سيسبغها الله سبحانه وتعالى عليه كما أسبغها على أبويه من قبل ، ومنها اختياره للنبوة وللسلطة والحكم والتمكين في الأرض . [ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ] ( يوسف آية 6) . إلا أن يعقوب عليه السلام ، لم يصرح بمحتوى التأول لأبنائه ، ولا سمح ليوسف عليه السلام بالحديث للإخوة عن الرؤية ، لأن السرية في مثل هذه الحالات أسلوب أمني ، يحقق الحماية ، ويفوت الفرصة على الحاسدين الحاقدين ومخططهم العدواني ، ولأن أمر الرؤيا إطلالة على الغيب ، وهذا لا يدرك إلا بالوحي والنقل ، وأبناؤه ليسوا أنبياء ، حتى يكونوا في مستوى إدراك الحدث . كما أنه لم يرد أن يوغل قلوب أبنائه تجاه أخيهم ، وهو أعلم بطبيعتهم ، التي يتملكها الحسد ، والبغضاء ، وغلظة وقساوة القلب ، والميل للظلم ، والعدوان ، وارتكاب كل شنيع ، ويسيطر عليها الشعور بالغضب والرغبة في الانتقام . خاصة وأنه يعلم كيد الشيطان ، وما يمكن أن يوسوس به للإخوة من عداوة وبغضاء وحسد ضد أخيهم . ولهذا فضل التريث وعدم استعجال وانتظار حكم الله وما يخبأ من الغيب ، حتى انكشف أمرهم وظهرت الحقيقة الغيبية ، ذكرهم بما كان يقول لهم وواجههم ، بما قال الله سبحانه وتعالى على لسانه : [ فلما جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ] ( يوسف آية 96 ) . إن هذا النموذج من ظاهرة صراع الأجيال ثابت في الزمان والمكان وقد يتكرر مع كل الأجيال كما سبق الذكر ، ومن ثم كان علاجه القرآني هو الآخر ثابت ، يتمثل في الإيمان المطلق بالله ، وبوجوده ، ورحمته ، وبما يلقيه في القلب من معرفة حدسية روحية ، أو من وحي ، وهذا لا يعفي من الأخذ بالحيطة وبالأسباب والخطط والأساليب الأمنية التي تمكن من معرفة العدو ومن كسب الصراع معه بحكمة ، ومن الانتصار عليه ، إلى جانب تجاهل تصرفات العدو ومواقفه اللئيمة غير الكريمة ـ ( موقف أبناء يعقوب عليه السلام مع أبيهم ) ـ كالتشفي وعدم المشاركة في العزاء وتهوين المصيبة وتخفيف الحزن أو تعليل الرجاء وإعطاء الأمل بل قالوا : [ تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ] ( يوسف آية 85) وهذا موقف تيئيسي من رحمة الله ، لا يرد له بال ، ولا يهتم به المؤمن ، لأن الثابت والمطلوب إيمانيا ، أنه لا يأس من رحمة الله ورجائه إلا الجاحد ، الكافر بقدرة الله وقدره .[ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ] ( يوسف آية 87 ) . وكذا الصبر على المصائب ، وتفويض الأمر لله وحده والتوكل عليه دون غيره واجب ، وهو من الإيمان الثابت بحقيقة الوجود الإلهي وبتصرفه في ملكه كيف يشاء ، ومتى شاء ، وبأن عده سبحانه وتعالى ماتيا ، والله لا يخلف الميعاد ، ولهذا كان رد يعقوب عليه السلام على أبنائه واضحا وثابتا وبكل ثقة ويقين بالله وبما علمه من علم الغيب ، وفي نفس الوقت كان فيه تجاهل لنصيحة أبنائه ورفض قاطع لموقفهم التيئيسي المتخاذل [ إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ] ( يوسف آية 86 ) .
لقد تناولت قصة يوسف عليه السلام ظاهرة إنسانية أخرى ، أعتبرها من الظواهر الاجتماعية الثابتة التي تكرر ذكرها في أكثر من آية كريمة والتي اهتمت بالعاطفة الإنسانية وهي ظاهرة » الحب » العاطفة ….. يتبع
Aucun commentaire