الربيع والوطن.. أية علاقة؟
بقلم د. محمد بالدوان
bouddiouan76@gmail.com
بعد أن أخفت أزهار وأشجار الربيع الوارفة صحاري الديكتاتورية الجدباء، انطلق مسلسل الانتخابات ليسفر عن حكومات تمثل شارع الربيع وليمنح الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية الأغلبية في معظم الأوطان العربية والمغاربية، فبدا تدبيرها عادي، إذ كانت من قبل توصف بأنها لا تؤمن بالمبادئ الديمقراطية. لكن سرعان ما بلغت الآفاق أنباء الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، وبدأت تتعاقب بيْعات لخليفتها أبو بكر البغدادي، وجاءت صور الذبح تترى باسم التوحيد.
آه.. ما أدهاه من تخطيط، ويا لخبث مراميه ! كأنه يخاطب من يصوت للإسلاميين آملا في حكم راشد قائلا: ها أنا أختصر عليك المسافات وأطوي لك الزمن، وأقدم لك دولة إسلامية خالصة وخلافة راشدة تفي بالموعود ولا تحدها الحدود !
أسوق هذا الكلام لأن غير قليل من الناس يتمثل الوطن مرادفا للوهن والتجزئة والانشطار، ويرى في المواطنة رديفا للعزلة وفك الارتباط بقضايا الأمة ومصير أبنائها المشترك.
لا شك في أن حال الأمة العربية الإسلامية سيضفي على هذا التصور كثيرا من الجدية والواقعية، لكن ألا يمكن أن نتساءل: هل يَلزم وضع شرط قيام الخلافة الموحدة لتعود الأمة إلى سابق عهدها؟ أيُتصور اندثار مفاهيم الوطن والوطنية في يوم ما؟ ألا يمكن أن يتحول مفهوم الوطن وحَدُّ المواطنة إلى أساس بٍناء؟ ألا يمكن أن تصير الخلافة اليوم مدخل هدم يفتحه أعداء الأمة الإسلامية؟
يمكن اعتبار القرن 19م قرن انفجار الأفكار في أوروبا من حيث القوة والتناقض: قوة الفكر القومي والليبرالي، وظهور الفكر الاشتراكي النقيض.
حقق أنصار الفكر القومي واللبرالي في النصف الثاني من القرن 19م نصرا شاقا وعنيفا على حلف الإمبراطوريات المحافظة، الشيء الذي يثير عند المتتبع تساؤلا عن المصادر التي أمدته بالدعم والقوة لتشهد أوروبا بداية ظهور أوطان ذات وحدة قومية وجغرافية وسياسية مستقلة كليا عن الكنيسة.
ولم يكن من قبيل الصدفة عقد مؤتمر « بازل » في أواخر ق19م برئاسة الصهيوني « هرتزل » الذي أعلن واثقا بأن الوطن القومي لليهود تأسس معنويا بعقد مؤتمر « بازل »(1897) وستقوم أركانه المادية بعد 50 سنة. كما لا يبدو الأمر اعتباطا حين يعقد هذا المؤتمر في دولة(سويسرا) توجد بقلب أوربا وتأبى الانخراط في الاتحاد الأوروبي، واشتهرت بُنوكها باكتناز أموال شعوب العالم الثالث المنهوبة.
وفي مطلع القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، ستزداد الإمبراطوريات المحافظة، لا سيما الإمبراطورية العثمانية، تفككا بعد انهزامها في الحرب، كما ستُكرس فكرة الوطن القومي التي استقرت خلال القرن 19م. ومع التغلغل الكبير للاستعمار في العالم الإسلامي سيعرف الأخير تجزئة رهيبة ليحتضن وطنا جديدا غريبا أعلن عنه الصهاينة بمساعدة بريطانيا سنة 1948.
إن حروب الوحدة القومية التي خاضها الأوروبيون خلال ق19م، ودمار الحرب العالمية الأولى أضعف أوروبا سياسيا واقتصاديا وماليا، سمح بتركيز عناصر القوة عند من لا يملك كيان لكنه يملك مقومات التحكم في الدول والإمبراطوريات.
في هذه الظروف عرض « هرتزل »، مغتنما الأزمة، أموالا ضخمة على السلطان عبد الحميد الثاني(1842-1918) مقابل فلسطين. وعاشت أروبا أزمات اقتصادية وسياسية أفضت إلى حرب عالمية ثانية (1939-1945) ساعدت نتائجها اليهود بإقامة وطنهم القومي في فلسطين. ثم نَقلت الصهيونية مركز ثقلها السياسي والاقتصادي والإعلامي إلى القارة الأمريكية لتُسخّر الو.م.أ في الحفاظ على أمن واستمرار « إسرائيل ».
إن إحداث حالِ هوسٍ فكري يمجد الوطنية والقومية كان ضروريا لإضفاء الشرعية على كيانات جديدة وإن كانت لا تملك المقومات التاريخية والجيوسياسية الضرورية لتأسيس الوطن.
وإذا كان التجزيء وظهور الوطن القومي أفاد الأوروبيين، في مرحلة تاريخية، بالتخلص التام من تحكم الكنيسة، إذ سيعودون إلى الوحدة، بشكل مختلف، ببناء متدرج للاتحاد الأوروبي، فإن العرب والمسلمين لم يمنحهم التجزيء، منذ البداية، سوى الضعف والتخلف والهوان.
لكن المتابع لمجريات الأحداث، بخاصة بعد ربيع 2011، يلاحظ أن معظم المفاهيم التي وظفتها قوى الشر والحرب والدمار لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، بدأت تتحول إلى أداة قوة بيد قوى الخير والسلام والاستقرار، إلى درجة أنه صار كل من يتحرك بمنطق الجماعة والخلافة الإسلامية والبيعة النموذجية والديمقراطية الكاملة، لا يجني لأمته سوى الهزائم والمآسي والويلات.
وفي رحاب هذه المتغيرات الحثيثة، لم تعد الديمقراطية تأتي بما تشتهي الأرواح الشريرة، و لم تنحز أمريكا بقيادة « أوباما » إلى « السيسي »، وهي متهمة بدعم الإخوان، وترفض التدخل العسكري البري في العراق من جديد ! أما القوى الإسلامية الوافدة على سوريا، فلم تزد الثورة السورية إلا إرباكا وتعقدا وطول أمد.
وفي المقابل، كل من تمسك بالوطن ورضي بكل تراكماته السلبية، وآثر مصالحه القومية، ما فتئ يحرز تقدما ورُقِيّا واستقرارا.
ذاق المواطن الأوروبي عذاب حربين مدمرتين قبل أن يجنح إلى السلام والوحدة، ولا شك في من كان ذاك حاله أن فؤاده يهفو إلى مساعدة أمم أخرى باجتياز واقع التجزئة والدمار، بخاصة إذا صار الدمار يهدد العالم بأسره من جديد. وأمام إصرار العالم الإسلامي على النهوض، سيأتي دوره يوما لبناء وحدة اهتدى إليها الأوربيون من قَبْلُ بصناعة اندماج سياسي واجتماعي واقتصادي ونقدي.
على من يتوق إلى التغيير والنهضة أن ينتبه إلى مدخلهما الواسع، إذ أمست مفاهيم الوطن والمواطنة، وكل ما اهتدت إليه الأمم بعد مكابدتها التجارب القاسية، عناصر بناء للأمة، ولا يمكن الرهان على الخيارات الجذرية والشعارات الكبرى لأن السياق التاريخي المعاصر يؤكد يوما بعد يوم بأنها أصبحت أفكارا ومفاهيم تراهن عليها استراتيجيات القوى المعادية لنهضة الأمة.
Aucun commentaire