سلاسل بويا عمر؛في محكمة الجن
رمضان مصباح الإدريسي
امَّا أنا واِمَّا بويا عْمر:
قالها الأستاذ الوردي ،وزير الصحة،حينما بدا له أن أكثر من جهة في أتم حيويتها المخربة- إدارية،دينية،ريعية وسياسية- تمسك بسلاسل بويا عمر،الميت منذ قرون؛والذي لم يقل يوما أنه المسيح الطبيب الذي يحمل أوزار المغرب المختل عقليا.
سلاسل تُكبلنا جميعا – مرضى وأصحاء- منذ عشرات السنين ،إن لم يكن المئات. لو كانت مجرد سلاسل تحيط فقط بمعاصم وأرساغ لهانت؛ولانتهى الأمر ،كما بدأ، بمفاتيح؛ولكنها سلاسل تفضي إلى أغلال ،اخترنا أن نكبل بها عقولنا ،رغم أنها خُلقت طَلْقة كالهواء ،وما طُليت بالمادة الرمادية إلا لمحاربة التأكسد والصدأ.
في هذا الركح السريالي المجنون،تتوالى يوميا حلقات مسرحية مغربية ،ضاربة في القدم ؛اتسعت خشبتها حتى صارت بمساحة قرية كبيرة،وفُتح مجال التمثيل فيها للجميع؛حتى صارت الحياة كلهامسرحا والمسرح حياة. الوحيد الذي انتهت جميع أدواره بانتهاء وجوده هو بويا عمر.
تبدأ كل شظايا المسرحية ،عبر كل التراب الوطني، على نمط واحد: رفض الأسر أن يعيش بينها فرد من أفرادها لا يقاسمها عقلها الذي تعتقد أنه سليم معافى. قبل أن تفكر في العلاج النفسي ،الذي يرتاب مجتمعنا في أمره ،ويسعى لتحصين سمعته -وليس صحته- منه،تتوالى عليها العروض والفتاوى لتسلك سبل أولياء الله الصالحين ؛خصوصا ومنهم من مشى فوق الماء،وطار في السماء،وعرج على أكثر من مقام ومسجد ،عبر المعمور ،في يوم واحد ،أو حتى صلاة واحدة.
هنا يحمر وجه المجتمع ، يتقد حماسا ،يشجع ولا يتهم .مهما كانت الوصفة ؛حتى ولو كانت سلسلة في رسغ شاب ،تربطه حقيقة ومجازا بهيكل عظمي نخر . سلسلة بحلقات تبيض ذهبا ،حتى صارت من ذهب خالص:قد يصل ثمن التكبيل ،ليوم واحد،الى سبعمائة درهم،تدفعها الأسر صاغرة لترضي هذا المجتمع المسلسل الذهن ؛الذي يلصق ببعض موتاه كل الاختصاصات الطبية النفسية والبدنية ، التي استنبتتها المجتمعات العقلانية الحداثية على مدى قرون.
ونظل نقسم ،لمن لا يصدق؛أو لمن يخطط ألا يصدق،أن كل بدعة ضلالة ،وكل ضلالة في النار.
عروس سيدي ادريس:
تتوالى مجلدات القاموس السحري،العفاريتي، الموغل في التخلف،والموغل في الإغراء،حد التباهي بطب الموتى ؛في مقابل معجم الطب النفسي الذي لا يقربه احد نهارا جهارا ،كأنه الإفطار في رمضان.
وتسرح بك هذه المجلدات ،وتأخذك كل مأخذ ؛وان غابت ،ورقا ،فهي حاضرة في صدور الرجال والنساء كالقرآن الكريم.
في الحافلات ، في القطارات ،وحتى في الطائرات التي ترهن – بالتقنية العالمة -الحياة بين السماء والأرض لساعات،توجد مدافن لموتانا الصالحين ،وهم بمقدرة المحركات النفاثة؛وان شئت حتى المقنبلات المدمرة..
حتى حصون الأخلاق تدك،بمباركة من عقلنا الساحر؛ في « مصحات » التداوي بالموت ،وذكرى الميت،ولو بجسد من تراب؛واليكم المثال ،حسب ما رواه مستمع للإذاعة الوطنية ،وهي تقارب ،زوال الخميس21ماي ،موضوع « بوياعمر »:
فتاة في مقتبل العمر،بها « مس »، يسلمها ذووها لمصيرها المأساوي في « غمارة » ضريح سيدي إدريس القاضي بوجدة. من بؤس مصيرها ،يتصادف وجود معتوه في زاوية مظلمة من نفس المكان ،ولنفس الغرض:التداوي ببركة القاضي.
يتفرق الجميع – جميع العقلاء طبعا- ليفضي العريس،ليلا، إلى عروسه القادمة من حمقنا .لا حمق يصيب الباه لأنه أحمق أصلا. من بارك هذا الاغتصاب؟أكيد أن القاضي بريء هنا.
بويا عمر بين الوردي والرميد:
انها الحياة المسرح ،في ضريح بويا عمر – وقد قطعنا من الألفية الميلادية الثالثة نفس المسافة الضئيلة التي تفصلنا عن أوروبا – حياة سكتت فيها كل الحكومات المتعاقبة ،وكل المنتخبين،وأغلب الإعلام والأقلام ،على ريع اشتط غرابة،من أي زاوية نظرت إليه: ملايير من الدراهم تدفعها الأسر،منذ عشرات السنين، عن مرضى لا يشفون ،لأطباء غير آدميين.
ومن أغرب ما استمعت إليه في شريط خصص للظاهرة ،كون التصفيد بالسلاسل ،لمدد محددة،تصدر به أحكام قضائية؛ومن هنا بدا لي أن وزارة العدل والحريات معنية أيضا ببويا عمر ،وليس وزارة الصحة فقط.
شاء العقل المريض – وهو يتوهم السواء- أن يختار أغرب السبل لمداواة عقل استفحل مرضه ،أن يُنصب « بويا عمر » قاضيا شرسا على الجن.انه أشد وطأة من سيدي إدريس القاضي ، الذي لم يعرف كيف يصفد ما بين فخذي رجل ،ليحمي صبية لجأت إلى حماه.
محكمة الجن هذه ،وقد جعلها مغاربة مثلنا ومثلكم،مؤسسة عمومية تشتغل ضمن هيكلة وزارة العدل ؛تحتاج الى جهد ما يبذله الأستاذ الرميد؛ على غرار ما يفعله زميله في الحكومة .تنص عملية « كرامة » على ترحيل المرضى الآدميين إلى حيث يوجد العلاج الحقيقي؛لكن داخل كل مصفد يتم تحريره من طرف الوردي ،يوجد جني مُدان ،يمضي عقوبته ؛فهل تتسع سجون الوزارة لهذا النوع من السجناء ؟ هل القضاة –كما الأطباء- مستعدون لمراجعة أحكام بويا عمر؟
ها قد رسمنا ،عبر سنوات من صيانة الجهل وحمايته،لوحات سريالية صحية وقانونية ؛لا يستطيع مجرد ناقد واحد فك طلاسمها ومغلقاتها. كلنا ساهمنا في إرساء اغرب علاج في أغرب مشفى، وأغرب قضاء في أغرب محكمة .
ضريبة الكرامة:
إن عملية « كرامة » تفوق جهود وزارة واحدة،لأنها تشتغل على ظاهرة مجتمعية ،ذات أبعاد متعددة،أكثر مما تشتغل على أصفاد يجب أن تقطع ،ودواء يجب أن يقدم للمرضى. ومن هنا وجوب تحويلها إلى ورش تلتقي فيه جهود الدولة ،المثقفين،فعاليات المجتمع المدني ، وجهود كل المواطنين.
إنها معركة الكرامة ،معركة الجميع ضد التخلف والجهل ،كيفما تمظهرا. لا شيء يعدل كرامة الإنسان.ولا كرامة لإنسان مصفد ،يستباح جسده كيفما اتفق،وأسرته راضية حتى بدفع مقابل .
ويجب أن يتسع ورش الكرامة ليشمل كل أماكن الزيف والخرف ،وكل هؤلاء المرضى والمشردين الذين يجوبون خريطة الوطن؛ خارج حمايته ومستشفياته ،وخارج عقولهم التي كرمهم بها الله.إن غابت عقولهم فعقل المجتمع حاضر أبدا.
لا احد يمكنه أن يعترض على رفع هذه المبادرة ،من وزارة الصحة مشكورة ،الى مستوى « المبادرة الوطنية لحفظ الكرامة »؛ولو تطلب الأمر تشريع ضريبة جدبدة؛شريطة قطع دابر كل علاج أخرق ، وكل تشرد مؤلم لنا جميعا.
وخالص تحيتي للأستاذ الوردي الذي وسع مفهوم الصحة ليعالج حتى ظاهرة اجتماعية مخجلة.
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire