المناصب العليا بالمغرب: الظاهر والخفي في مسطرة الإسناد
بقلم: بلقاسم الجطاري
يعرف المتخصصون في التاريخ المغرب السياسي، قديمه وحديثه ومعاصره، أن مسألة التعيين بمناصب القرار كانت خاضعة لجملة متغيرات مركبة، لا تكاد تستقر حتى تعاود التبدل والتحول، بحيث تأخذ في كل فترة لبوسا جديدا قوامه المؤهلات والكفايات التي تتناسب مع ظروف العصر وإكراهات الواقع. وإن كانت في ظاهرها ثابتة تقوم على نسيج الترابط القرابي، والقبلي، والمذهبي…
سنعرض عبر هذا المقال إلى أهم الاعتبارات التي يأخذ بها لإسناد مهام التدبير في شتى القطاعات، من زاوية ما استجد راهنا في الموضوع، بفعل المتغيرات الاجتماعية التي يعرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين، وبالنظر إلى الغايات الكبرى التي تؤطر المشروع المجتمعي الذي يأمله المغاربة، ولاسيما على مستوى شعارات تخليق الحياة السياسية، وإضفاء شروط الحكامة في دواليب الإدارة.
1- الولاء والاعتبار الحزبي- النقابي:
يقوم هذا الاعتبار على قاعدة الانتماء الواضح الصريح للمُرَشِّح (المسؤول المباشر عن المرفق أو المؤسسة) والمترشح، بحيث يتم إعطاء الأولوية المطلقة لانتمائه الحزبي أو النقابي في عملية الانتقاء، وهكذا تلجأ الهيئة المعنية بالمنصب الشاغر أو المستحدث، إلى طرق مختلفة لضمان إسناده إلى الشخص المعين سلفا. ومن ذلك لجوؤها مثلا إلى:
– تغيير شروط الترشح من منصب لآخر، ووضع شروط على مقاس أشخاص بعينهم، بحيث تتباين هذه الشروط وتختلف رغم تطابق المهام والمسؤوليات والوضعية الإدارية الخاصة بهذه المناصب. وهو ما صرح به وزير الوظيفة العمومية نفسه في ندوة صحفية عقدها لتقديم برنامج عمل وزارته، بقوله أن « وزارة ما تضع شروطا بسيطة لمنصب الكاتب العام، فيما تضع وزارة أخرى شروطا متشددة لنفس المنصب ».
– تكليف لجان انتقاء خاصة، بناء على طبيعة الميولات والولاءات الحزبية، يتم عبرها ضمان إسناد المنصب للاسم المراد تعيينه، وهو ما يضرب عرض الحائط بمبادئ الشفافية والاستحقاق وتكافؤ الفرص.
– عدم اقتراح هذه اللجان لأي اسم لشغل المنصب (مع سبق الإصرار)، وذلك لكي يتاح للهيئة المعنية، بموجب القانون، اقتراح الاسم الذي تريده. وقد تم اعتماد هذه الطريقة مرارا من قبل وزراء لتعيين محسوبين على أحزابهم السياسية، لا سيما في مناصب الكتاب العامين، والمدراء المركزييين.
وتعتبر الأهداف الاستراتيجية لهذا المسلك في التعيين، وبخاصة في المناصب الحساسة، هي ضمان نسج شبكة من العلاقات الأفقية والعمودية مع كل فئات المجتمع، وهي طريقة قديمة-جديدة لجأت إليها كل الأحزاب المتعاقبة على تدبير الشأن الحكومي بالمغرب، لأنها الطريقة التي تضمن لهذه الأحزاب وجود ممثليها في مختلف المؤسسات والإدارات، مع ما يضمنه ذلك من فرص لضمان ولاء منخرطيها وزبنائها وتوسيع دائرتهم، عن طريق الخدمات التي يقدمها هؤلاء لهم (تدخل لفائدة، تيسير مسطرة بيروقراطية معقدة، تسريب معلومة…).
2- الولاء الإيديولوجي- السياسي:
ويتم في هذه الحالة اتباع نفس المساطر المعمول بها في الحالة الأولى، لكنها في العادة لا تثير زوابع إعلامية كثيرة، ولا طعونا قانونية أو مسطرية، وذلك لأن المترشح المراد تعيينه يكون بغير لون حزبي يمكن أن يجر الخصوم الحزبيين إلى الاعتراض عليه، لكنه يكون في المقابل صاحب انتماء إيديولوجي مشترك مع المسؤول الأول عن القطاع أو المؤسسة أو المرفق، أو مع دائرة المتنفذين فيها. كأن يتم تعبيد الطريق أمام مترشح ذي ميولات إيديولوجية معينة (يسارية، أو إسلامية، أو يمينية…)، لضمان ولائه وانخراطه الكامل في القرارات والتدابير ذات البعد الاستراتيجي، أي تلك القرارت التي تعكس التوجه الإيديولوجي للمسؤول عن القطاع أو المؤسسة.
الخصوع لهذا الاعتبار، أيضا، لا يجلب، في العادة، إلا قدرا يسيرا من النقد الإعلامي والسياسي، عكس الاعتبار الأول، حينا لصعوبة إثبات الانتماء الإيديولوجي للمترشح، لا سيما إذا كان اسما مغمورا على المستوى الإعلامي، وحينا لعدم وضوح هذا الانتماء لديه بسبب وقوع إنتاجه الفكري والثقافي في مناطق رمادية يصعب معها إثبات مسافتها الدقيقة عن الإيديولوجيات السياسية السائرة. وحينا ثالثا لطبيعة الكفايات التقنوقراطية الظاهرية التي يتطلبها المنصب موضوع الإسناد.
3- المرشح الثالث:
لا يتم اللجوء إلى اقتراح المرشح الثالث إلا لغرض التغطية على اشتداد الصراع والتجاذب بين طرفين، بحيث تتساوى كفة مترشّحَين مدعومَين من قبل هيئتين سياسيتين أو نقابيتين متصارعتين على مستوى المؤسسة موضوع التعيين، أو على المستوى الجهوي أو الوطني، وهو الصراع الذي قد يكون مرحليا بفعل اصطفافات حكومية مرحلية، أو مستديما بفعل التعارض الإيديولوجي القائم بين مشروعين مجتمعيين.
وهذه الصيغة قلما يتم اللجوء إليها، لأن الغالب أن يستغل كل طرف حزبي موقعه في هرم السلطة لتسويغ المسطرة التشريعية التي يسند بها المنصب للاسم المحدد سلفا. ومن ثم فإن الأمر يتعلق بحل توافقي وسط لا يتم الإعلان عنه، لكنه يظهر واضحا من خلال انتقاء مرشح محايد على المستويين الحزبي والإيديولوجي.
هذه الاعتبارات الثلاثة التي أسلفناها تشكل عائقا حقيقيا أمام تطوير الأداء الإداري لكثير من المؤسسات والمرافق العمومية، بل وتكرس وعيا سلبيا ارتكاسيا لدى كل شرائح المجتمع بخصوص الأهداف والمرامي التي تؤطر الفعل الحزبي بالمغرب، فيشيع الاعتقاد بأن الغاية من الانخراط الحزبي هي ضمان الغطاء السياسي الذي يتيح الترقي المهني والاجتماعي، وهذا، كما هو معلوم، هو لب المشكلة السياسية التي يتخبط فيها المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، وسبب قوي من أسباب العزوف الحزبي لدى الشباب.
إلى جانب ذلك، يؤدي العمل بمقتضى هذه الاعتبارات إلى تعطيل الكفاءات والقدرات التي يزخر بها البلد، لأنه يصيب مبدأ الإستحقاق وتكافؤ الفرص في مقتل، ومن ثم فهو يساهم في إشاعة مناخ الإحباط والتقليد، والوقوف في وجه المبادرات الرامية إلى تحفيز ثقافة الابتكار والاجتهاد، ويحيل المؤسسات العمومية مجرد ملحقات حزبية لا تعنيها الكفاءة بقدر ما يعنيها الخضوع للتوجهات الحزبية الضيقة التي ينحصر الفعل التدبيري بموجبها في مستوى قضاء المصالح الفردية والظرفية الضيقة.
صحيح أن الخطاب الذي ينتقد مساطر التعيين وخباياه قد أصبح متداولا بشكل لافت خلال العقد الأخير، وأن وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة قد أصبحت أكثر وعيا بالثغرات والاختلالات التي تشوب قانون التعيين في المناصب العليا، لكن ذلك لا يكفي لإحداث التغير المأمول في هذا الباب، أولا لوقوع المجال القانوني في دائرة المجال الإنساني المعقد، بشكل تستحيل معه الإحاطة والوقوف في وجه أشكال « نوايا » الشطط والاستغلال على نحو مطلق. وثانيا لعدم وجود رؤية استراتيجية حكومية واضحة تهدف إلى تغيير الذهنيات والسلوكات، وتتغيا زرع ثقافة سياسية وقيمية جديدة تقطع مع أشكال الثقافة السياسية السائدة اليوم.
Aucun commentaire