سورة آل عمران والوجود النصي والوجود السياقي
الوجود النصي والوجود السياقي
إذا كانت سورة البقرة العظيمة قد برعت في تحليل طوية بني إسرائيل وسبر أغوار نواياها المعادية للتدين الصحيح في العهد القديم فكشفت عن تبديلها لعبادة إله واحد أوحد بتعظيم عناصر الفتنة الدنيوية من قبيل تقديس العجل و حب المال والانقياد للهوى وإعراضها عن التصديق بمحمد/ص/ وبرسالته رغم التنصيص عليها في كل الكتب السماوية وإذا كانت سورة آل عمران قد أجادت في توصيف تذبذب إيمانيات بني إسرائيل وكشف حقيقة معتقدهم الزائغ و يقينهم الضال المرتكز على التثليث في العهد الجديد وانقسامهم بمقتضى ذلك إلى مؤمنين بإله واحد على قاعدة عيسى عليه السلام رسول الله ومريم الصديقة أمه من دون أب وإلى كفار مفسدين لعقيدة التوحيد مغالين في تقديس المسيح وعده ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا…
فإن السورة المدنية المرتبة في المرتبة الثانية في المصحف الشريف والتي تتضمن 200 آية و3503 كلمة و14605 حرفا تنفرد بطرح قضايا دينية كبرى كمسـألة وحدة مصدر الوحي ووحدة جوهر الرسالات السماوية وتناسخ الديانات السماوية وحوار الأديان والقرآن المحكم والقرآن المتشابه والوجود النصي والوجود السياقي وتوظيف الشخصيات لبيان الحكمة ونحت نموذج القدوة وهي قضايا يمكن إدراجها في أربعة مجالات
1-المجال العقدي وقضايا الوحدانية وصدق النبوة ورد شبهات التثليث.
2-المجال العبادي ويتناول عبادة الحج ومنع الزكاة.
3-مجال الأحكام ويتعرض لقضية الجهاد والربا.
4-مجال المعاملات ويتعلق ببيان كيفية التعامل مع أهل الكتاب.
في مستهل عرض منجز هذه القراءة الخاشعة لفتت انتباهنا ترددات لفظ الكتاب بمقدار 31 مرة ليدل على الرسائل السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام التي ينبغي أن يوطد بين أتباعها حوار الديانات للتعارف والتعايش والتساكن على أساس دعوة رسول الله /ص/ لهم إلى كلمة سواء بالتي هي أحسن مضمونها الترغيب في اعتناق الاسلام دين الله الذي نسخ كل الديانات السماوية السابقة المعترف به وحده لدى الحق سبحانه وتعالى ثم تصديق كل ماجاء به نبينا المصطفى صلوات الله عليه الذي بشرت به كل الكتب السماوية .و في نهاية هذا العرض تقرر السورة العظيمة وحدة مصدر الوحي ووحدة جوهر الرسائل السماوية التي رسخت مبدأ وحدة الخالق بخلاف ما يروج له الغرب المسيحي في إطار غاراته التنصيرية أو العالم اليهودي في أعقاب سياسته الاستيطانية وخطته في طمس المعالم الاسلامية المقدسة من خلافات وجحود لهذا النبي العظيم الذي لم يتورع بابا واتهم وأقاساوستهم وحاخاماتهم عن السخرية من رسولنا الكريم والاستخفاف برسالته العظيمة ووسمها بالدموية والارهاب وتحريض أتباعهم على التنكيل بالمسلمين في كل بقاع العالم ويمكن استحضار في هذا السياق خطاب البابا بينديكت السادس عشر المستخف بعقلانية القرآن وبمنطقية الفكر الاسلامي والمكرس زعما باطلا لفكرة نشر الاسلام بالسيف ولاتغيب عنا كذلك أبعاد الرسوم الكاريكاتورية المستهزئة بالرسول الأكرم وكذا منع رفع الآذان وبناء الصوامع والمساجد بل ومحاولة القس الأمريكي تيري جونز الإقدام على حرق القرآن و حرق نفوس الملايين من المسلمين في العالم كمدخل أساسي للمس بثوابتهم وتدنيس رموزهم الاسلامية للحد من المد الاسلامي وإضعاف الحالة الايمانية داخل سنن الصحوة الاسلامية . وإذا كان الاعجاز القرآني لاينتهي ويحرر ذاته من داخل النص الالاهي فإن سورة آل عمران العظيمة تتعرض للتكوين النصي للنص القرآني وتؤسسه على ثنائية المحكم والمتشابه مما يزيد من قيمة النص القرآني و يجعله سهلا ممتنعا .
فالقرآن معظمه محكم و المحكم عند ابن عباس في تفسير ابن كثير يستوعب » الناسخ والحلال والحرام والحدود والفرائض ومايؤمر به وما يعمل به » وجزء يسير منه متشابه و المتشابه يشمل « المنسوخ والمقدم والمؤخر والأمثال في القرآن والأقسام ومايؤمن به ولايعمل به وكذا الحروف المقطعة في أوائل السور « أما الحكمة الالهية من هذا النظام الزوجي البلاغي الذي يهيمن على النص القرآني هو ابتلاء الله لعباده في جزء صادق من كلامه يخضع للتصريف والتحريف والتأويل لايعلم حقيقته إلا صاحب الكتاب الذي ألهم الراسخين في العلم الحكمة التي تقودهم إلى تصديق مجموع كلام الله فيردون المتشابه للقرآن المبين فيتحول بإذن الله إلى محكم. ورغم تسمية السورة العظيمة باسم رجل صديق هو عمران الذي ينحدر نسبه إلى سيدنا داود وسليمان والأصل نفسه تعود إليه زوجته حنة التي كانت منشغلة ببيت المقدس في وقت لم يدخر الروم وسعا لترسيخ قواعد الوثنية وإرغام المقدسيين على اعتناقاها رغم هذه التسمية فأسرة آل عمران المتكونة من الزوج والزوجة و البنت مريم والابن عيسى عليه السلام وزوج الخالة زكرياء وابنه يحيى لاتملك إلا وجودا سياقيا يرجى منه الوعظ وأخذ الدروس والتأسي بنماذج بشرية وازنة ومشرقة. فقد ورد ذكرها في معرض إفحام المجادلين من وفد نجران الذي حل على النبي /ص/ في السنة 9 للهجرة ليستفسره عن قصة خلق عيسى عليه السلام ومسعى الرسول الأكرم لاقناعهم بالأدلة القاطعة التي تثبت القدرة الالهية على الخلق وترد شبهات المعتقدين بالتثليث.
فعلى مسافة تزيد عن 83 آية يظل النبي /ص/ هو الشخصية المحورية المخاطبة من طرف الله سبحانه وتعالى المتمتعة بوجود نصي وحضور فهرسي تعبر عنه مضامين الآيات الكريمة وقس على ذلك تسييق وجود آدم ونوح عليهما السلام وآل ابراهيم المتكونين من اسحاق ويعقوب واسماعيل. والخيط الناظم بين هذه الشخصيات الدينية منفردة أو مع أسرها هو قصة الخلق التي تتعدد أشكالها ولكن الخالق يبقى واحدا. فآدم خلق من دون أب ولاأم ونوح أمد الله في عمره و كتب له عمراجديدا بعدما طغا الماء وألهمه بصنع الفلك وحمل أتباعه المومنين مع زوج من كل نوع حتى يستمر النسل ويتواصل الخلق أما عيسى عليى السلام فقد ولد من دون أب لتكون ولادته إعجازا علميا مبهرا لعصره ومؤشرا على عهد ديني جديد يرد الاعتبار لدين الله ولبيت المقدس ولرسالة التوحيد وقصة إبراهيم الخليل الذي أمده الله في عمره بعدما ألقى به قومه في النار التي كانت بردا وسلاما عليه بإذن الله وأراه الله من آثار صنعته في الخلق ليطمئن قلبه بعدما طلب منه أن يقطع أربعة من الطير ويضعها على قمم الجبال لتلتئم الأجزاء وينفخ الله الروح فيها من جديد .
إذا كانت الدراسات السردية تصنف الشخصية إلى ثلاثة أصناف باعتبارها بناء يتأبى عن كشف سماته وقيمه ومشتركه إلا بنهاية الزمن التأويلي الذي يحيل على وجودين سياقي ونصي وهي :
1-صنف الشخصية المرجعية
التي تملك مؤشرات الاحالة على مرجعية دينية تاريخية كشخصية آدم عليه السلام المفعمة بمقصدية قصة الخلق الأول ورمزية رسالة الاستخلاف فوق الأرض و المثقلة بزخم صراع آدم مع إبليس بكل تحمله فكرة الصراع من تصادم المقدس مع المدنس وتوالي الخطيئة والتوبة ونزول من العليا إلى الدنيا ومغازي موقف عصيان إبليس لربه واستعلائه على امره ورفضه السجود لآدم وعبر الامهال للغواية إلى يوم الحشر و دلالات درس الأسماء والفيض بالنعم ومقتضيات مواجهة إبليس وما تستتبعه من امتثال لتعاليم مدبر الكون .
2-صنف الشخصية الاشارية
كشخصية سيدنا نوح عليه السلام التي عندما تنضوي داخل عالم الملفوظات تتحول إلى نقطة لارساء مرجعية قصة الخلق في صيغتها الثانية وتحيل مؤشرات طول الأمد في العيش وأسبقية رابطة الدين على رابطة الدم على النص الكبير المحتفي بجلال القدرة الالهية والمفعم بآيات الكون والنفس والآفاق والآيات النصية في معرض آثار الصنعة الالهية ولمسات الابداع في الخلق والتشكيل والتصوير.
3- وصنف الشخصية الاستذكارية
كشخصية سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث يحولها التناظر الدلالي بين الوحدات المعجمية الدالة والكون الدلالي المكتفي بذاته إلى قطب تلتف حوله شجرة الأنبياء والرسل كيعقوب واسحاق واسماعيل ويوسف… ومحمد /ص/ وتنحدر من أصله الشريف أمة الاسلام ويتأثث من شريط استرجاع مواقفه ومعجزاته المبهرة البياض الدلالي في لحظة انتشار قيم الاخلاص في توحيد الله والاستعانة به وحده في الشدائد والتضحية بكل شيء من أجل نيل رضاه سبحانه المحيلة على المعنى الممتلئ الثابت داخل وجود القرب من الله المؤشر على سيرورة الايمان المتحققة عبر ثنائية الاعتقاد والتطبيق المخصصة لشخصية سيدنا إبراهيم بحمولة إثبات الوحدانية ونفي كافة أشكال الشركيات والاعتماد على غير الله وإضافة عناصر التحديد الفضائي المرتبط بنسك الحج وإقامة الصلوات والطواف حول الكعبة وإحياء سنة عيد الأضحى… التي تمدنا بمفاتيح اكتشاف الوجود النصي لخير البرية محمد /ص/ المسرو د له والمعني بالخطاب المبشر بقيم الرشد لوعي حقيقة الله وإدراك أسرار الخالق والمتمم لمكارم الأخلاق لتعمير الأرض والنهوض برسالة الاستخلاف وإشاعة الحق المعتمدة في جوهرها على رسالة الحنفية ديانة الاستقامة التى جاء بها سيدنا إبراهيم الخليل جد رسولنا الكريم محمد خاتم الأنبياء والمرسلين .
إن ما يلفت النظر في سورة آل عمران العظيمة هو عدد الشخصيات المحتفى بها في سياق النص القرآني والتي تدعم الوجود النصي لشخصية محمد /ص/ المحورية وهي شخصيات ذات أسماء دالة تملك قصص ذات سجل من الأحداث الواقعية البعيدة عن التخييل تحمل عدة مغازي تشكل صورا مكثفة تحتفظ ذاكرة المؤمن منها بعناصر مميزة قابلة للاقتداء باعتبارها رموزا لحالات مثالية تد عو إلى الاقتداء المتسامي ولوضعيات حياتية مشابهة تستدعي الاعتبار وجني الد
Aucun commentaire