Home»Islam»حجة الوداع وحقوق الإنسان

حجة الوداع وحقوق الإنسان

1
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين

خطبة حجة الوداع وحقوق الإنسان
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
لقد عاش المسلمون في العشر من ذي الحجة، أحد الأشهر الحرم الأثيرة عند الله جل جلاله ، في غمرة حدث عظيم، حافل بالمعاني العظام، والذكريات الجسام، ألا وهو حدث الحج إلى بيت الله الحرام، خامس ركن من أركان الإسلام، لا يتم إسلام المرء المستطيع إليه سبيلا إلا بأدائه واستكمال آدابه ومناسكه.
وإن أعظم لحظة يعيشها الحجاج في خضم هذا الموسم الكريم، ومن ورائهم المسلمون في أصقاع الأرض جميعا، لهي لحظة الوقوف بعرفة التي تزخر بالأسرار وتحفها البركات. فما ظنك بيوم وبموقف يباهي الله فيه ملائكته بعباده الذين أتوه شعثا غبرا وطرحوا أنفسهم بين يديه خاشعين منيبين، سائلين منه الصفح والمغفرة. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:  » يهبط الله إلى السماء الدنيا عشية عرفة، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم فيهم ») أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه(
فما ظن المسلمين بوقفة هي أشد إغاظة للشيطان على الإطلاق، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  » ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا أن الرحمة تتنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام » )أخرجه مالك في الموطأ( ومن باب التبع، فإن هذا الحكم ينطبق على ملة الكفر التي يغيظها أن ترى الجموع الهائلة من المسلمين من المشارق والمغارب، وقد احتشدت في صعيد واحد، يكتسي من معاني الهيبة والجلال ما لا تخطئه العين. وقد أدرك دهاقنة الكفر في الماضي والحاضر ما تكتسيه تجمعات المسلمين الكبرى من خطورة على مخططاتهم الرامية لتفتيت وحدة المسلمين وتمزيق صفهم. ألم يقل غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ذات يوم ما معناه أن تلك المخططات لا يمكن أن توتي أكلها وتبلغ أهدافها ما دامت هناك ثلاثة أشياء قائمة في حياة المسلمين: موسم الحج وصلاة الجمعة، وكان بيده المصحف فأشار به قائلا: وهذا الكتاب ؟
ما أضيع هذه الأمة إن لم تفعل فيها كتاب ربها وسنة نبيها، وما أضيعها وأشد خسارتها إن لم تستثمر ذكرياتها المشرقة الخالدة، وتجعل منها حوافز للمضي في طريق المجد والبناء، وقوة معنوية تشد أزرها وهي تسعى لإزاحة الألغام وزحزحة الأصنام التي تعبد في الأرض من دون الله، وتحطيم الطواغيت التي تصر على إذلال الإنسان، باسم حقوق الإنسان، وباسم شرعية مزيفة كاذبة.
إن من فضل الله على هذه الأمة المسلمة أن ذكرياتها الكبرى وأعيادها العظيمة، ومشاهدها الهائلة، هي جزء لا يتجزأ من ذاكرتها ووجدانها ووعيها الحضاري الذي تشق به طريقها في معترك الحياة، وخضم الأحداث والتحديات.

وإن من الذكريات البليغة الأثر ن والتي تظل راسخة على مدى الزمن، تلك التي ترتبط بالوقوف بعرفة، فلا يمكن للمسلم الذي يعي تاريخه المجيد، ويفقه سيرة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أن لا يستحضر ذلك المشهد النوراني العظيم الذي تمثل في وقوف سيد الأنبياء وخاتم الرسل أجمعين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، يلقي آخر خطبة وبلاغ على أعظم جمع عرفه التاريخ، ولن يعرف مثله أبدا، جمع الصحابة الكرام، الجيل الفريد الذي سيحمل الرسالة الخالدة إلى كل مكان، عبر جهاد صادق وكفاح مرير، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
في ذلك المشهد المهيب، الذي تلقى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: » اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ») المائدة:(3 هذه الخطبة هي خطبة الوداع التي مثلت الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بحق، لأنه يمثل مراد الله عز وجل في تكريمه ورفع منزلته. فلنصغ إلى نبي الرحمة ورسول الهداية وهو يتوجه إلى الصحابة رضوان الله عليهم، ومن خلالهم إلى الناس كافة،إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتوجه إليهم بخلاصة المنهج الذي يضمن السعادة والأمن والسلام، ويحمي الإنسانية من الابتذال والإهدار والشقاء.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة الخالدة: » أيها الناس اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، أيها الناس، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما كان منه عن طيب نفس منه، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، أيها الناس استوصوا بالنساء خيرا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجن جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله ، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد »
لقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع المعالم الرئيسية والإطار العام الناظم لحقوق الإنسان حيثما كان ، وفي أي زمان.

إن حقوق الإنسان مصونة في شريعة الإسلام، في جميع أبعادها، فلا شيء في هذا الإنسان يجوز أن يخرم أو يعتدى عليه، سواء في ذلك دمه وماله وعرضه. وحرمة هذه الحقوق هي كحرمة ذلك اليوم المعظم عند الله، لأنها قوام الوجود الكريم للإنسان ومناط إنسانيته، فإذا أهدر واحد منها تعرضت إنسانيته للإهدار، وكرامته للامتهان والابتذال.
ما قيمة الإنسان إذا سلب عرضه؟ إن الموت أولى له من حياة بدون عرض مصون، وماذا عسى أن يكون وجود الإنسان دون مال يتقوم به، ويحفظ وجهه من ذل السؤال، وآلام الفقر والجوع الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه بئس الضجيع؟ وتعوذ منه في جملة ما تعوذ منه.
وما سعادة الإنسان، ومن أين له الشعور بالأمن والاطمئنان، إذا كانت حياته مهددة بالإزهاق في كل وقت وحين، من ليل أو نهار، في غيبة قرآن أو سلطان؟ ومن أين للأسر أن تذوق طعم السعادة، ومنطق الصراع والغلبة هو المهيمن على علاقاتها؟ ومن أين لها ذلك، ونوازع الظلم والاحتقار للمرأة تنخر بنيانها وتعربد في كيانها؟
إنه لا سعادة ترجى ولا أمن يبتغى داخل الأسرة إلا وفق منهج الإسلام الذي يؤسسها على المودة والرحمة، والمطاوعة والحكمة.
ومن أين للأسر أن تجد ذلك الشعور بالقوة والأمان، وبالسعادة والاطمئنان، إذا كانت العلاقة بين الآباء والأبناء، يعصف بها داء التنافر، وتقصم ظهرها آفات التمرد والعصيان ونكران الجميل، وتلوثها أخلاق رديئة ونزعات سقيمة؟
إنه مما يغمر النفس إحساسا بالخوف والألم، أننا نشهد بكل مرارة وإشفاق، كل الحقوق التي أمر بصيانتها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي تتعرض للانتهاك والإهدار بلا حسيب ولا رقيب.

إن دماء غزيرة تهدر، وأرواحا عزيزة تنحر، ظلما وعدوانا، بسبب توفر كل ما يؤجج غرائز العدوان، ويطمس موازين العقل والتمييز والحياء لدى الإنسان، من أنواع المسكرات والمخدرات التي لم يسلم من زحفها وطغيانها حتى فلذات أكبادنا في مؤسسات التربية والتعليم وما حولها، والذين يزج بأعداد متزايدة منهم في دهاليز الإدمان الذي يحولهم إلى حطام، وإلى عوامل قهر وتثبيط، وإحباط وشلل لقوى المجتمع الذي يفقد كل أمل في التقدم والنهوض، لأن هذين يستحيل تحققهما بشباب مشلول وكيان مجتمعي معلول.
إن من يقف على ما تسجله الدراسات الإحصائية من نسب هائلة لجرائم الاعتداء على الأنفس،والذي قد يكون أحاديا أو متبادلا، يتبين له مدى هول النزيف الذي يتعرض له المجتمع، ومقدار الفوضى التي تعربد في أرجائه، فتحوله إلى أرض يباب، تنعق فيها البومة والغراب.
إن الخمر والمخدرات معاول هادمة وقنابل ناسفة لبنيان المجتمع، ومؤذنة بخراب العمران، فما بال قوى أنانية مريبة تنغرز كالخنجر في خاصرة هذا الشعب ؟ وما بالها تعمل بكل صفاقة واستهتار، ورعونة وجنون، على اغتيال فئاته بالجملة، بدم بارد وامتصاص طاقاته وإمكاناته بلا أدنى وازع من ضمير؟
أما الأعراض فقد مرغت في الأوحال، وسيمت الخسف والإذلال، فهل بعد كل ما يحدث فينا من أشكال التهتك والعري والابتذال، يرسخها إعلام فاجر يدعو إلى الفاحشة صباح مساء، وينتقص من قيم الفضيلة والحياء،هل بعد كل ذلك التسيب والإفلاس، يبقى لنا بصيص من كرامة أو بهاء؟

وأما الأموال فقد أصبحت دولة بين الأغنياء، ونهبا للسفهاء، وترتب عن ذلك واقع أليم من البؤس و الفاقة،، ومن الجوع الذي ينهش أجساد الملايين، ومن المرض الذي يحرق أكبادهم ويحطم بنيانهم، ولا من مشفق رحيم ينصت إلى أنين هؤلاء المحرومين، ويقيل عثراتهم، ويعيد إليهم ما سلبوه من كرامة واعتبار؟
لقد استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات قليلة، وهو من أوتي جوامع الكلم، ملامح وأركان المنهج الذي يضمن سعادة الإنسانية جمعاء، وختم بلاغه المبين بتذكيره ذلك الجمع الغفير من الصحابة الكرام، الملتئم على صعيد عرفات، ومن خلالهم جميع الناس إلى يوم يبعثون، تذكيرهم بيوم المساءلة والحساب، وبمنهج الخلاص: » ألا إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد » فاللهم صل على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *