Home»Islam»التحديد المنطقي في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي

التحديد المنطقي في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي

1
Shares
PinterestGoogle+

ترجع نظرية التحديد في أصولها الفلسفية إلى الفيلسوف اليوناني سقراط (469 – 399 ق.م) الذي اشتهر بمحاوراته التي كانت ترمي إلى البحث عن ماهية الأشياء وهويتها.
وقد كان اهتمام هذا الفيلسوف متجها نحو التدقيق في معاني الكلمات للوصول إلى تحديد طبائع الأشياء بواسطة وضع تعاريف ومناقشتها.
ويقوم العقل بدور أساسي في استكشاف الحقائق والتعبير عنها بواسطة الحد حيث يبدأ من الجزئي مرتفعا إلى الكلي، ومن الأفراد إلى الأنواع في نظرية استقرائية متتابعة.( )
وحسب المنطق السقراطي فأن لكل شيء طبيعة، أو ماهية هي حقيقته يكشف عنها العقل وراء الأعراض المحسوسة ويصوغها بواسطة الحد  » وأن غاية العلم إدراك الماهيات، أي تكوين معان تامة الحد. فكان يستعين بالاستقراء ويتدرج من الجزئيات إلى الماهية المشتركة بينها، ويرد كل جدل إلى الحد والماهية، فيسأل: ما الخير وما الشر؟ ما العدل وما الظلم؟ ما الحكمة وما الجنون؟ ما الشجاعة وما الجبن؟ ما التقوى وما الإلحاد؟ وهكذا فكان يجتهد في حد الألفاظ حدا جامعا مانعا، ويصنف الأشياء في أجناس وأنواع ليمتنع الخلط بينها… « ( )
إذاً اهتمام سقراط بنظرية التحديد إنما هو لمواجهة الاتجاه السفسطائي (480-410 ق.م) الذي جعل من المنطق أداة للمغالطة والخداع، فقد وقف في وجه هذا التيار معلنا أنه يبحث عن الحقيقة من خلال التدقيق في معاني الكلمات، وتحديد طبائع الأشياء التي تدل عليها تلك الكلمات « .( )

ومجمل القول فقد كان سقراط يطلب وضع التعريفات ويناقشها. وكان يرى أننا إذا عرفنا شيئا من الأشياء معرفة حسنة، فإننا نستطيع أن نشرح ما نعرفه عنه للآخرين، لكن إذا جهلنا فليس بغريب أن نخدع أنفسنا وأن نخدع الآخرين ».( )
وإذا كان سقراط في رأي البحثين المعاصرين يقتصر في تقريبه لنظرية التحديد على السؤال عن ماهية الأشياء وماهيتها، فإن محاولته فتحت الباب أمام المفكرين العاصرين له للبحث عن نظرية المعرفة ووسائل الإدراك العقلي والحسي وطبيعتهما.
ويعد أر سطو المنظر الحقيقي للمواقف المرتبطة بنظرية التحديد، بل إننا لا نتحدث عن نظرية كاملة في هذا الصدد إلا مع هذا الفيلسوف، على أن الهدف من التعريف عند أر سطو وسقراط جميعا هو تحديد ماهية الأشياء.
ولقد تعرضت نظرية التحديد إلى انتقاد شديد من مختلف المدارس الفكرية، كالمدرسة الرواقية التي رفض أصحابها الأخذ بقضايا الجنس والنوع والماهية، مكتفين بالتعريف بالرسم أو ما يسمى بالتعريف الناقص المؤلف من خواص الشيء، وهذا التوجه يتناسب مع نظرة الرواقيين للأشياء، على عكس فلسفة أرسطو،  » وهذا الخلاف بين المنطقين – الأرسطي والرواقي – يعكس الخلاف بين الفلسفتين، فمنطق أرسطو متناسب مع فلسفة المادة والجوهر، فهو إذن منطق المفهوم/التصور. وأما الرواقيون فهم إسمائيون، فبالنسبة إليهم لا توجد أنوع ولا جواهر، والتصنيفات مصطنعة، فما يميز كائنا ليس الاشتراك في جوهر سيكون مشتركا بينه وبين كائنات أخرى ويسمح بجمعهم في فئة طبيعية، بل الذي يميزه هو الصفة الفردية والملموسة: لهذا لا يوجد أبدا فردان متماثلان، ولهذا فإن التعريف لا يتقوم بالمفارقة الخصوصية، بل بتعداد الخواص ».( )
وهذه الفكرة هي التي ستتبلور على يد المناطقة المسلمين الذين أنكروا بشدة التعريف بالحد، مكتفين هم كذلك بالتعريف المبني على تعداد مميزات المعرف وهي نظرة واقعية للأشياء تنبني على مبدأ الفصل التام بين المعارف التي تهم الشاهد = الإنسان، والحقائق التي تهم الغائب = الخالق.

وفي هذا الصدد يشير الشهرستاني إلى خطأ وضع كل من الشاهد والغائب تحت تعريف واحد، لكون ذلك يخالف أحد الشروط الأساسية للحد = أن لا يكون الحد مثل المحدود أو دونه في الخفاء والجلاء.
يقول الشهرستاني:  » قال من حاول الجمع بين الغائب والشاهد بالحد والحقيقة حده العالم في الشاهد أنه ذو العلم، والقادر ذو القدرة، والمريد ذو الإرادة، فيجب طرد ذلك في الغائب، والحقيقة لا تتخلف شاهدا أو غائبا، قيل له: هذا تعريف الشيء بما هو دونه في الخفاء والجلاء، فإن الإنسان ربما يعرف كون زيد متحركا ويشك في الحركة حتى برهن على ذلك، وكذلك في جميع الأوصاف، فكيف اقتبست معرفة الاجلاء من الاخفاء… » ( )
وقد تعرضنا في أطروحتنا لموقف منطق الاعتقاد من هذه النظرية والأسس التي ترتكز عليها لإنشاء نظرية للتعريف يصلح توظيفها في مجال الدرس العقدي، الذي يتميز بمفاهيم عميقة لا يستوعبها المنطق الأرسطي ذي النظرة المادية المحدودة.

وإذا كانت نظرية التحديد تحظى بعناية خاصة من لدن أصحاب المنطق التقليدي، فهي كذلك مهمة من وجهة نظر منطق الاعتقاد، فإذا كان الهدف من التعريف عند أرسطو هو وصف الجوهر، أو إدراك ماهية الأشياء( ) فإن منطق الاعتقاد يسعى بدوره إلى تقريب مفردات العقيدة بواسطة تعاريف مميزة ترتكز على إيراد الصفات المميزة للمحدود، وليس بالضرورة البحث عن الماهية التي تبقى مجرد مقولة ذهنية لا وجود لهـا على مستوى الواقع.
وقد نتج عن تطبيقات هذه النظرية في التراث الكلامي تباين في وجهات النظر حول قضايا عقدية مختلفة، بل إن مقولة السلف والخلف ترجع في جزء كبير منها إلى إجراءات تعريفية، قد تكون أحيانا شكلية فقط، وأيضا لفظ « الجسم » و »الجهة » و »التحيز » و »التركيب » و »الاستواء » و »العلو »… نشأ عن تحديد مضامينها العقدية مواقف كلامية مختلفة، على الرغم من انشغال أصحابها بقضايا التنزيه الذي هو هدف تنشده جميع الفرق الإسلامية مع التفاوت الملحوظ في التعبير عن هذا لمبدأ لإسلامي السامي.
وعلى هذا الأساس بذل بعض المتكلمين جهودا كبيرة لإثبات موجود لا يشار إليه بالحس.
أو التوسل بمقولة  » الكيف مجهول  » للتدليل على قضايا عقدية لا يمكن إخضاعها للمعرفة الإنسانية المحدودة. أو التوسع في تفسير مدلول بعض الألفاظ لإثبات حقائق عقدية كبرى، مثل تفسير لفظ الصمد بالذي كمل في كل صفات الكمال، أو رفض استعمال بعض الألفاظ التي لا تليق بالذات المقدسة كتوظيف لفظ « الأعراض » و »الحوادث » في مجال التدليل على مبدأ التنزيه، لكون هذين اللفظين يفهم من الأول منهما: « ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، ومن الثاني ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدثه من الأمراض ونحو ذلك. والله تعالى يجب تنزيهه عما فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور ».( ) ؟

ومهما يكن من شيء فإن منطق الاعتقاد استطاع باعتماده آليات شرعية ولغوية حل إشكالية التعريف في جانبها العقدي على الأقل، وذلك بنزوعه نحو التعريف الاسمي وإلغائه الجانب الماهوي والجوهري الذي تقوم عليه نظرية التعريف الأرسطي لكونها يعسر تطبيقها في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي.
المراجع:
( ) – الفارابي في حدوده ورسومه، د. جعفر آل ياسين، ص: 7 وما بعدها.
انظر كذلك المنطق وتاريخه، روبير بلا نشي، الفصل المتعلق بالنطق الرواقي، ص: 123-143.

(2) – تاريخ الفلسفة اليونانية، د. يوسف كرم، ص: 52،
(3) – يدل اسم  » سوفيسطوس » في الأصل على المعلم في أي فرع من العلوم والصناعات، وبنوع خاص على معلم البيان، وقد لحق هذا الاسم التحقير في عهد سقراط وأفلاطون، لأن السوفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين متاجرين بالعلم. ( تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم ص 45).
وقد عرف المسلمون اسم السوفسطائية، كما عرفوا مذاهبها، ووضعوا السوفسطائيين تحت اسم مبطلي الحقائق. ( نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام د. علي سامي النشار، 1 / 162).

أنظر ما كتبه الإمام أبو منصور الماتريدي عن أقاويل السوفسطائية وبيان فسادها في كتابه  » التوحيد  » ص 153.
(4) – الجدل بين أرسطو وكنط، د.مجمد فتحي عبد الله ص: 12 – 14. أنظر أيضا: تاريخ الفلسفة اليونانية،د. يوسف كرم، ص: 45.
(5) – انظر كتاب المنطق وتاريخه من أرسطو حتى راسل، تأليف ربير بلانشي، ترجمة.خليل أحمد خليل، ص:127.
انظر أيضا: تاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف د. يوسف كرم، ص: 223
(6) – نهاية الإقدام في علم الكلام، للشهرستاني، ص: 190.
– (7) أساس التقديس للإمام فخر الدين الرازي، ص: 15
(8) – مجموعة الرسائل والمسائل، لا بن تيمية، 5 / 340.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *