Home»Islam»التقليد في العقائد هل يجوز ؟

التقليد في العقائد هل يجوز ؟

0
Shares
PinterestGoogle+

التقليد في العقائد هل يجوز ؟
الدكتور عبد القادر بطار
جاء الإسلام بجملة من العقائد الإيمانية، وأقام البراهين العقلية على صدقها. وعرضها على الإنسان ليؤمن بها. وأرشده إلى معرفة حقيقتها… والوحي المتمثل في القرآن الكريم والسنة الصحيحة هو وحده من يملك الإجابة عن أسئلة العقيدة وما يتصل بها من أمور، تخص مصير الإنسان وعلاقاته المتعددة مع خالقه أولا، ثم مع بني جنسه ثانيا، ثم مع هذا الكون الفسيح، وما ينتظره ثالثا …
لقد اتجه القرآن الكريم إلى مخاطبة الإنسان باعتباره كائنا عاقلا يميز بين ما هو صحيح وما هو فاسد، وبين ما هو حسن وما هو قبيح، وبين ما هو خير وما هو شر… انطلاقا من خاصية التعقل التي ميزه الله بها، والتي هي أحد شروط التكليف الأساسية في تحصيل العقائد الدينية والأحكام الشرعية وتحملها.
أما عندما يتعلق الأمر بمعتقدات يدرك كل إنسان عاقل أنها باطلة، لافتقارها إلى عنصر الفعل في أبسط مستوياته، ولافتقارها إلى الإنسان أكثر من افتقاره هو إليها، لأنها من صنع هذا الإنسان نفسه، فللقرآن الكريم حكمه الصريح عليها، وهو يحمل الأبناء مسؤولية ما فرضه الآباء من عقائد لا تستند إلى عقل صحيح ولا إلى نص صريح (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) [المائدة : 104].

لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يقو عقله على ترك كثير من الأساطير التي تحولت عنده بفعل الجهل والقصور المعرفي إلى عقائد يركن إليها ويتمسك بها، بدعوى التقرب إلى الله سبحانه. وهذه العقائد إنما فرضها الوضع العقدي المتخلف لدى الإنسان الذي لم يستطع تجاوز الدين بوصفه مقوما ضروريا لحياته، وفي الوقت ذاته لم يستطع فهم حقيقة الوجود الكبرى، بل سلك طريق الآباء، وهؤلاء الآباء يبررون تمسكهم بتلك عقائد بأنها عقائد آبائهم، وهلم جهلا…
إن تمسك الإنسان بعقائد يعلم لو فكر قليلا أنها باطلة، تجعلنا نتساءل عن الأسباب العميقة التي جعلت هذا الإنسان يميل إليها ويقدسها. وفي المقابل يرفض العقائد التي جاء بها الوحي وهي عين الحق والعدل.
لاشك أن هذا السلوك يؤكد حقيقة واحدة، وهي حاجة الإنسان إلى التدين، كما أنه تفسير واضح لنزعة هذا الإنسان إلى التدين والميل الفطري إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، والخضوع لسلطانه وجبروته.
إذا كان أمر العقائد على هذا النحو في زمن غياب الوحي، فلماذا استمر هذا الوضع مع وجود الوحي؟ إنها آفة التقليد الذي غشى على الإنسان حقيقة الوجود الكبرى، وحجب عنه أسرار ما كشفه الوحي من أسئلة الوجود المتعددة.
لقد خاطب القرآن الكريم الإنسان باعتباره مفكرا عاقلا، ودعاه إلى اعتقاد ما هو حق وترك ما هو باطل بداهة.

وعاب عليه التمسك بقيم مفروضة جهلا، ومرفوضة عقلا، كما عاب عليه هذا السلوك الذي يعد إهدارا لأحكام العقل لافتقار مقدماته إلى عنصر الصدق الذي يعني المطابقة للواقع، وعنصر النفع والضر الذي يجعل تلك العقائد جذيرة بالتقديس. فقد يعتقد الإنسان ما شاء له أن يعتقد، ولكن ليس كل ما يعتقده الإنسان صحيحا، لأن الدين الحق واحد، لا يختلف من حيث مضمونه العقدي، وهو وحي الله تعالى إلى جميع أنبيائه ورسله. وهذا الحقيقة يعرضها الإسلام ويعززها بأدلة عقلية ويترك للإنسان بعد ذلك حرية الاعتقاد، ومسؤولية الاختيار. إننا نقرأ في القرآن الكريم : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، [الكهف : 29]، وهذه هي حدود حرية الاعتقاد.
ولكن في الآية نفسها نقرأ النتائج أو مسؤولية الاختيار: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً). [الكهف : 29].
وهذا الخطاب موجه طبعا لغير المسلمين، أما المسلم فهو مطالب باحترام العقائد الإيمانية التي جاء بها الإسلام، وهي تمثل الفطرة التي فطر عليها هذا الإنسان ابتداء. إن الإسلام لا يكره أحدا على الإيمان، ولكن إذا آمن الإنسان بتلك العقائد التي جاء بها الوحي فلا ينبغي له أن يتنكر لها، لأن هذا من شأنه أن يشوش على عقائد الجماعة المؤمنة، ويمس حقها في الأمن الروحي كجماعة مؤمنة. إن الإنسان قبل أن يعتنق الإسلام دينا له، له كامل الحرية في أن يسلم أو لا يسلم، بل إن إسلامه وعدم إسلامه لا يخرج عن مشيئة الله تعالى وإرادته سبحانه، فهو قادر على جعل جميع الناس مؤمنين، غير أنه لا يفعل ذلك بمقتضى حرية الاختيار لتي يترجمها فعل التعقل الذي اختص به الإنسان. وهذه الحقائق كلها لا تحرج عن مشيئة الله تعالى وعلمه المطلق.

هذه هي عظمة الإسلام، وقوته، إنه دين يمجد العقل، ويحترم القوانين والمنطق والحكمة والفطرة، فمن ينظر في القرآن الكريم يجد هذه الحقائق واضحة جلية.
وقد خص القرآن الكريم المقلدين بطائفة من الآيات التي تذم التقليد وتمجد العقل الذي لا يستقل عن الشرع بحال، من ذلك:
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) [المائدة :104].
قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) [الزخرف :22].
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) [الزخرف :23].
وكل آية في القرآن الكريم نجدها ذامة للتقليد وآمرة بالنظر والتفكر والاعتبار، من ذلك:
قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [العنكبوت :20].
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) [الروم :8].
مفهوم التقليد عند علماء العقيدة
لقد أدرك علماء العقيدة خطورة التقليد في العقائد، وميزوا بين مراتب التقليد، وأصناف المقلدين، ومجالات التقليد، كما فرقوا بين التقليد والإتباع… كل ذلك بغرض إقامة العقائد الدينية على أسس شرعية وعقلية متينة. بل ذهب الأمر ببعض شيوخ العقيدة إلى حد التساؤل عن منزلة المقلد في الإسلام، هل هو عاص أو كافر، وهل التقليد يخلصه في الآخرة أم لا ؟ (1)
وإذا كانت المعرفة الشرعية التي هي أساس تحصيل العقائد الدينية تقوم على ثلاثة أسس، وهي: الجزم، والمطابقة للواقع، وكونها ناشئة عن دليل. فإن التقليد يختلف عن هذه المعرفة المسددة، لكونه يفتقر إلى أهم شيء في بناء العقائد الدينية، ألا وهو الدليل والحجة والبرهان المفضي إلى اليقين.

لقد قسم علماء العقيدة الاعتقاد إلى قسمين: اعتقاد مطابق لما في نفس الأمر، ويسمى الاعتقاد الصحيح، كاعتقاد عامة المؤمنين المقلدين، واعتقاد غير مطابق لما في نفس الأمر، ويسمى الاعتقاد الفاسد، والجهل المركب، كاعتقاد الكافرين. والقسم الأول هو الذي وقع فيه خلاف بين علماء العقيدة، هل يكفي أم لا ؟
وقبل عرض آراء علماء العقيدة في هذا الباب نشير إلى مفهوم التقليد وبنائه العقدي. والفرق بينه وبين الإتباع.
لقد عرف علماء التقليد بعدة تعريفات، منها قول بعضهم: « التقليد أخذ قول الغير من غير معرفة الدليل » والمراد بالأخذ: اعتقاد مضمون المأخوذ.(2) ويعرف الشريف الجرجاني التقليد بأنه » عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدا الحقية فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه ».(3) كما يعرفه أيضا بأنه: « عبارة عن قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل ». (4).
ويلاحظ أن هذه التعريفات تجمع كلها على أن التقليد معناه: إهمال النظر والتفكر والتأمل والاستدلال في بناء العقائد الدينية، والاكتفاء بقبول قول الغير بدون حجة ولا دليل. كأن يعتقد الإنسان مثلا بوجود الله تعالى وأن له سبحانه صفات وأسماء،… فإذا سأله سائل عن دليله في ذلك، أجاب بأن فلانا يقر بهذا الأمر، وهو يعتقد ذلك تقليدا له. بحيث لو رجع المقَلد لرجع معه المقلِّد.
والتقليد بهذا المعنى لا يقبل به جمهور العلماء، بل إن الذي ذهب إليه أكثر العلماء القول بوجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، وأن مصدر هذا الوجوب هو الشرع الحكيم.(5)
كما يفهم من التعريفات السابقة أن المقلد إذا عرف دليل مقلده وتوفر عنصر الجزم أصبح هذا الشخص عارفا لا مقلدا..

ومن الأمور لتي ترتبط بهذا المفهوم أيضا اختلاف علماء العقيدة في صحة إيمان المقلد، والذي مال إليه أكثر العلماء الاكتفاء بالتقليد مع العصيان، إن كان للمقلد أهلية للنظر، وإلا فلا عصيان، كما أن هذا الخلاف إنما يتعلق بالنظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى دون غيره كالنظر الموصل إلى معرفة الرسل عليهم الصلاة والسلام.(6)
وللإشارة فإن الخلاف في صحة إيمان المقلد إنما يتناول أحكام الآخرة، وفيما عند الله تعالى، وأما النظر إلى أحكام الدنيا فيكفي فيه الإقرار فقط، فمن أقر جرت عليه الأحكام الإسلامية، ولم يحكم عليه بالكفر.(7)
وخلاصة القول: لا ينبغي أن نخلط في هذا المقام بين أمرين اثنين مختلفين: الإتباع والتقليد… فإذا كان التقليد مذموما في بعض الحالات، فإن الإتباع محمود مطلقا، لاستناده إلى الوحي. بمعنى أن من قلد القرآن الكريم والسنة النبوية القطعية في باب العقائد صح إيمانه لاتباعه القطعي. ولكن من وفق للجمع بين العقل والنقل في باب العقائد فقد جمع بين نورين. ولله در حجة الإسلام الإمام الغزالي إذ يقول: » … فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور… » (8)
—————-

( 1 ) أنظر: شرح جوهرة التوحيد للإمام إبراهيم الباجوري، ص: 54، نسقه وخرج أحاديثه محمد أديب الكيلاني، وعبد الكريم تتان، راجعه وقدم له فضيلة الأستاذ عبد الكريم المراغي/ أنظر أيضا: شرح السنوسية الكبرى المسمى: « عمدة أهل التوفيق والتسديد » للإمام أبي عبد الله السنوسي، الصفحة 26 وما بعدها، تحقيق د. عبد الفتاح الله بركة ،طبعة دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى 1982.

( 2 ) شرح جوهرة التوحيد للإمام إبراهيم الباجوري، ص: 54، نسقه وخرج أحاديثه محمد أديب الكيلاني، وعبد الكريم تتان، راجعه وقدم له فضيلة الأستاذ عبد الكريم المراغي.

( 3 ) التعريف للشريف علي الجرجاني، ص، 39، باب التاء، المطبعة الخيرية بجمالية مصر، الطبعة الأولى 1306.

( 4 )التعريف للشريف علي الجرجاني، ص، 39، باب التاء.

( 5 ) أبكار الأفكار في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي 1/154 تحقيق أ.د أحمد محمد المهدي، طبعة دار الكتب والوثائق القومية القاهرة، 2002.

( 6 ) شرح جوهرة التوحيد للإمام إبراهيم الباجوري، ص: 55، نسقه وخرج أحاديثه محمد أديب الكيلاني، وعبد الكريم تتان، راجعه وقدم له فضيلة الأستاذ عبد الكريم المراغي.

( 7 ) شرح جوهرة التوحيد للإمام إبراهيم الباجوري، ص: 55.

( 8 ) الاقتصاد في الاعتقاد للإمام الغزالي، ص: 4 طبعة دار الفكر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1983.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *