ابن عبد البر
مقدمة
الحمد لله الذي رفع منار العلم بين الأنام, وجعله سببا إلى نيل رضاه والصلاة والسلام على سيد نا محمد خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهديه واسترشد بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
وبعد, فموضوع عرضي هو » تعريفات الحافظ ابن عبد البر للمصطلحات الحديثية : دراسة مقارنة من خلال مقدمة التمهيد »
. اهدف ابتداء من وراء هذا العمل إلى تعميق معرفتي العلمية في مصطلح الحديث الذي لاغنى لطالب العلم الشرعي عنه ومن جهة أخرى أسعى للموازنة بين تعريفات ابن عبد البر وبين ما جاء على لسان محدثين آخرين مع بسط الشواهد والحجج المقدمة من كل طرف وترجيح ما تواطأ عليه جمهور أهل العلم في هذا الفن أو من شهدت له الشواهد والحجج وهنا يمكن طرح بعض الأسئلة المفاتيح التي يمكن أن أستنير بها في عرضي .
ـ ما هو منهج ابن عبد البر في دراسة علم الحديث على مستوى السند والمتن وخاصة المصطلح ؟
ـماهي أهم المصطلحات الحديثية الواردة في مقدمة التمهيد وما مدى مساهمة ابن عبد البر في تعريفها ؟
ماهي الاستفادة العلمية والمنهجية التي خرجت بها من هذه الدراسة المقارنة؟
تلكم بعض الأسئلة سأحاول الإجابة عنها قدر المستطاع والله المستعان .
وقبل أن أتطرق إلى الموضوع أود أن أحدد المصطلحات الواردة في العنوان:
تحديد المصطلحات:
-تعريفات: من الفعل عرف و » التعريف: الإعلام و التعريف أيضا إنشاد الضالة،يقال عرف فلان الضالة أي ذكرها و طلب من يعرفها فجاء رجل يعترفها أي يصفها بصفة يعلم انه صاحبها »1. و استعمل التعريفات إجرائيا بمعنى الحدود بالمفهوم الأصولي للكلمة.و جاء في المعجم الوسيط » التعريف هو تحديد الشيء بذكر خواصه المميزة . »
–الحافظ: و » هو مرادف للمحدث عند السلف، و الحافظ من توسع في ذلك حتى عرف شيوخه و شيخ شيوخه طبقة بعد طبقة. »2
–ابن عبد البر: سيأتي التعريف به.
–المصطلحات: » من الفعل اصطلح و اصطلح القوم على الأمر: تعارفوا عليه و اتفقوا و الاصطلاح اتفاق طائفة على شئ مخصوص و لكل علم اصطلاحاته »3 و في الاصطلاح : اتفاق طائفة من العلماء على اخراج لفظ من معنى لغوي الى معنى معين لمناسبة بينهما وبيان المراد. »
–الحديثية: نسبة إلى الحديث و » الحديث في اللغة ضد القديم، و يطلق و يراد به كل كلام يتحدث به. و الحديث في الاصطلاح » ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من قول آو فعل آو تقرير آو صفة »4
–دراسة: من الفعل درس » و درست الكتاب ادرسه درسا و دراسة أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه علي و درس الكتاب درسا و دراسة كأنه عانده حتى انقاد لحفظه.
1 : ابن منظور -لسان العرب- ج 9 ص 153
2 : محمد جلال الدين القاسمي –قواعد التحديث- دار النفائس – ط 3 سنة 2001 ص
3 : إبراهيم أنيس و آخرون –المعجم الوسيط- ج 1 –دار الفكر- بدون ط –بدون ت-ص 520
4 : مناع القطان –مباحث في علوم القران- مؤسسة الرسالة- ط 7-سنة 1980 –ص 24
و في الاصطلاح » عملية بحث في معطيات معينة آو ظواهر خاصة. »5
–مقارنة: » من الفعل قارن يقارن مقارنة وقارن بين الشيئين آو الأشياء وازن بينها. »6
–مقدمة التمهيد: » اقصد بها المدخل و هي عبارة عن رسالة في مصطلح الحديث و قد بدأه بباب معرفة المرسل و المسند والمنقطع و الموقوف و معنى التدليس ثم تعرض لباب التدليس و من يقبل مرسله و من لا يقبل منه ذلك. »7
–« التعريف بابن عبد البر: »8
–هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي كنيته أبو عمر و يلقب بجمال الدين . ولد سنة368 ه من ابرز علماء المذهب المالكي و اشهر أئمة الأعلام الذين سطع نجمهم و ذاع صيتهم و طارت شهرتهم و علا شانهم و قدرهم بين علماء الإسلام و سخروا جهودهم لنشر الدين الإسلامي و إفشاء معارفه و بث علومه و وقفوا حياتهم على التدريس و التأليف و الدفاع عن السنة و نبد البدعة, فقد كان رحمه الله محدثا متضلعا فقيها محصلا مستوعبا لكثير من العلوم الإسلامية, مفسرا مقتدرا إماما في الحديث و علومه, و الفقه و أصوله ضالعا في النحو و قواعده, جمع فاوعى و فاق علماء وقته فقها و فهما فجمع في ذلك ما لم يجمعه أحد من أهل عصره, و رحل الناس إليه و عولوا في الرواية عليه, و قد اتفق علماء السلف و الخلف على سمو شانه و علو مقامه و بعد غوره و انه كامل الأدوات في الحديث و علومه و الفقه و أصوله, تشهد بذلك كتب التراجم التي حفلت بالحديث عن حياته و إمامته و اجتهاده, هو الأمام الحجة، شيخ الإسلام و حافظ المغرب ، أطلق عليه أصحاب التراجم شيخ علماء الأندلس و كبير محدثيها و إمام عصره .من شيوخه ابن الفرضي
5 : عبد الكريم غريب و آخرون –معجم علوم التربية- ع 9/10 منشورات عالم التربية ط2 /98 ص 119
6 : المعجم الوسيط ج 2 مرجع سابق ص 730
7 : ابن عبد البر-التمهيد- ج 1 ت مصطفى بن احمد العلوي أخر-المطبعة الملكية-الرباط/1967 من 1الى60
8 : الذهبي –تذكرة الحفاظ – م 3 ط4 /1123-ابن خلكان-وفيات الأعيان –ت إحسان عباس ج 7 /66 –محمد بنيعيش الإمام أبو عبد البر…وزارة الأوقاف /1990 ص 41 .بتصرف
و الظلمنكي و احمد بن فتح الرسان و ابن سهل و الاقليشي و من تلاميذه ابن الوراق و الجذامي و ابن عون المعافري و ابن حمدين و الهوزلي و البكري .
و قد نعته شيوخ عصره و زمانه بجلال العلم و النباهة و الرسوخ و الدراية ودلت مصنفاته القيمة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية على غزارة علمه في مضمار التفسير والحديث والأدب والمناظرة وفي مقدمتها مؤلفه الموسوم بعنوان التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد, فقد درس فيه رحمه الله مجموع أحاديث الموطأ فوصل منقطعها واسند مرسلها وبين طرقها واختلاف رواياتها وجودة متونها وشرح غوامضها واستخرج ما تتضمنه من أحكام واداب ومواعظ وحكم مستدلا في عرض الأحكام بأقوال فقهاء الأمصار وأدلة آرائهم دون تعصب اومحابات أو انقياد.توفي رحمه الله سنة463 ه .
كتاب التمهيد: هو المصنف الضخم الذي إذا ذكر ذكر عبد البر و من خلاله تظهر لنا مكانته العلمية و طول نفسه و هو يقع في أربع و عشرين جزءا و جزئين كفهارس و اسمه الكامل-التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد-فيه شرح لما تضمنه موطأ الإمام مالك من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و تتعدد مواضيع الكتاب و تتداخل, فهو في الحديث و علومه من مصطلح و جرح و تعديل و أحوال الرجال و أخبارهم و هو في في فقه السنة و أحكامه و مذاهبه و هو أيضا في اللغة و قواعدها و آدابها و شواهدها من شعر و نثر,و قد بين ابن عبد البر في مقدمة كتابه سبب تأليفه له فذكر انه لاحظ أن كل من خرج أحاديث الموطأ زعم انه سيقتصر على المسند و سيترك المنقطع و المرسل إلا أن أي واحد لم يلتزم بما شرطه و لم يوف بما عاهد عليه فقد وقع لهم خلط و التباس فادخلوا المنقطع في باب المتصل و المرسل في المسند , و لعل ما يهمنا في سياق عرضنا المتواضع هو مدخل الكتاب و هو عبارة عن رسالة في مصطلح الحديث و قد بدأه بباب معرفة المرسل و المسند و المنقطع و الموقوف و معنى التدليس ثم تعرض لباب التدليس و من يقبل مرسله و من لا يقبل منه ذلك.
منهج ابن عبد البر في دراسة النص الحديثي:
يتمثل منهج ابن عبد البر في كونه » يورد الحديث على الصورة التي وصل إليها بها فيفحصه كالطبيب المعالج فينظر ما به من أدواء فيسلط عليه الأسئلة التالية: هل هو مكتمل البنية لا إسقاط فيه و لا خلل. ثم هذا البناء هل هو صحيح لا غش فيه و لا تدليس. فإذا كان مكتمل البناء فهو المسند المتصل، و إذا لم يكن كذلك و ظهر إسقاط و خلل أكمله. و بعد أن يذكر الحديث يكر عليه بالنقد و التمحيص – سندا و متنا – فيبين درجته و ينزل رواته منازلهم .فان انتهى من السند آو أقامه على السداد اخد في متن الحديث يختبر ألفاظه و كلماته فربما أدرجت كلمة آو حرفت عن وجهها آو سقطت منها جملة آو عبارة برمتها فان استقام المتن على الوجه الصحيح شرح ما في لفظ الحديث من كلمات غريبة آو عبارات غامضة و من هنا يخلص لما في الحديث من أحكام الفقه و آداب الإسلام و يعرض ما استنبطه على آراء الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين و إذ يفرغ من الرواية و النقل يبدا في النقد و التعليق فيأخذ في مناقشة الآراء و يقارن بينها و ينقد الحجج التي استندت إليها ثم يعرض الرأي الذي يرتضيه معززا بالحجج و البراهين « 9.و هذا ما يؤكده محمد بنيعيش بقوله : » كان منهجه يقوم على البرهنة و الاستشهادات الكثيرة و على أسلوب الإقناع و المنطق و الاستطرادات و هو منهج فريد من نوعه…فهو يأتي بالحديث الذي يناسب الموضوع ثم يأتي بالطرق الأخرى التي روي بها هذا الحديث، و في حالة نقدها يأتي بها جميعا و لو وصلت ما وصلت و ذلك لتصحيح حديث الباب، آو لتأييد الفكرة التي عقد لها الباب فيقابلها و يقارنها و عند دراسته لحديث الباب آو لفكرة من الأفكار لا يترك صغيرة و لا كبيرة إلا و أشبعها بحثا، فيبدا بجمع الطرق المختلفة التي روي بها الحديث آو المعنى و يناقشها مناقشة علمية و منهجية ليطلع القارئ على الفرق بينها…ثم يكر بعد ذلك بالنقد و التمحيص متنا و سندا فإذا قضى وطره من ذلك اقبل على الحديث فيبين ما اشتمل عليه من أحكام فقهية و قواعد أخلاقية و لا يفوته عند الحاجة أن يفسر
9 : سعيد أعراب –على هامش موسوعة ابن عبد البر في فقه السنة –مجلة دعوة الحق ع289 /1992 ص 40
الغريب من مفردات الحديث آو الشعر و يمكن تلخيص منهجه في :
1-جمع كل ما روي و قيل في الباب آو الموضوع من حديث آو أي آو شعر آو حكم.
2-ترجمة الرواة و تعديلهم آو تجريحهم
3-شرح ما استعجم من الألفاظ
4- وصل كل مقطوع آو مرسل من الأحاديث المعقود لها الباب.
5- مناقشة الفكرة مناقشة دقيقة و عميقة.
6- إعطاء النتائج و الأحكام التي توصل إليها. » 10
مصطلح العدالة
ذهب ابن عبد البر إلى أن: » كل حامل علم،معروف العناية به، فهو عدل، محمول في آمره أبدا على العدالة حتى تتبين جرحته في حاله آو في كثرة غلطه »11 لقوله صلى الله عليه و سلم » يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله « 12 و » علق عليه ابن الصلاح بأنه توسع غير مرضي وتبعه في ذلك النووي والعراقي وغيرهم من العلماء لضعف الحديث من جهة, ومن جهة أخرى فإنه على تقدير صحته لا يمكن حمله على الخبر لوجود من يحمل العلم وهو غير ثقة, فلم يبق له محمل إلا على الأمر. ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم لأنه لا يقبل إلا منهم. والدليل على ذلك أنه ورد في بعض طرق ابن أبي حاتم: » ليحمل هذا العلم » بلام الأمر إلا أن المتأمل يتفطن إلى اشتراط ابن عبد البر أن يكون الراوي معروف العناية بالحديث وجمعه, مشهور بذلك, ثم لانجد مع ذلك من يجرحه
10 : محمد بنيعيش –ابن عبد البر حافظ المغرب –مجلة دار الحديث الحسنية ع2/1981 ص 224 /225
11 : المكي اقلاينة –دعائم المنهج الحديثي- سلسلة صيانة السنة- ع 1 – ط 1 /1995 ص 20
12 : أخرجه ابن عدي في الكامل 1 /145 –147 –سنن البيهقي الكبرى 10/209 .قيل بأنه ضعيف
فالأولى اعتباره غير مقدوح »13.وقريب من تعريف ابن عبد البر جاء في المستصفى للأمام الغزالي
أن » العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل أي إن مجهول الحال في العدالة أو الفسق محمول على العدالة مالم يثبت فسقه وهذا مذهب أبي حنيفة خلافا للصاحبين لأن العدالة هي الأصل لأنه ولد غير فاسق, والفسق أمر طارئ مظنون, فلا يجوز ترك الأصل بالظن وهذا أيضا مذهب ابن حبان وعليه بنى كتابه المشهور الثقات ونقل عن ابن الساعاتي الحنفي أن أبا حنيفة إنما قبل ذلك بالنسبة إلى الرواة من أهل صدر الإسلام حين كان الغالب على الناس العدالة.
قال : فأما اليوم فلا بد من التزكية. »14
ومجمل القول فإن العدالة هي صفة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة فتحصل ثقة النفس بصدقه. وتعرف العدالة باجتناب الكبائر وبعض الصغائر مثل تطفيف حبة وسرقة لقمة واجتناب المباحات القادحة في المروءة مثل الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل و الإفراط في المزاح. قال تعالى « : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » سورة الحجرات/ 6 وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة والعدالة هي عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى و المروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلاثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب ثم لا خلاف في انه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي و لا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به…و العدالة نوعان: ظاهرة و باطنة ، فالظاهرة تثبت بالدين و العقل على معنى إن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على الاستقامة و يدعوانه إلي ذلك . و الباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء و لا يمكن الوقوف على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيها.
13 : المكي اقلاينة-مرجع سابق –ص 20
14 : الإمام الغزالي –المستصفى –ج1 ت محمد سليمان الأشقر –مؤسسة الرسالة ط 1 /1997 ص 294
مصطلح خبر الآحاد:
يقول الإمام الغزالي: » نريد بخبر الواحد ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم »15 و قد اختلفوا في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم و العمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم.الذي يقول به ابن عبد البر هوانه: « يوجب العمل دون العلم » و يضيف بان أهل العلم من أهل الفقه و الأثر في جميع الامصارعلى قبول خبر الواحد العدل و إيجاب العمل به،إذا ثبت و لم ينسخه غيره من اثر آو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج و طائفة من أهل البدع. » 16 و هو قول الشافعي و جمهور آهل الفقه و النظر، و لا يوجب العلم عندهم إلا ماشهد به على الله، و قطع العذر بمجيئه قطعا و لا خلاف فيه. و ذهب قوم إلى انه يفيد العلم ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من قال انه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين. يقول الغزالي: » و ما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا انه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما »17 و منهم من قال: انه يفيد العلم اليقيني من غير قرينة لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في خبر كل واحد كبعض أهل الظاهر و هو مذهب احمد ابن حنبل في إحدى الروايتين. و المختار لدى الامدي هو حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن و يمتنع ذلك عادة بان يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره من غير قرينة.و مذهب ألا كثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلا خلافا للجبائي و جماعة من المتكلمين و الذين قالوا بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في وجوب العمل به، فمنهم من نفاه، كالقاساني و الرافضة و ابن داود و منهم من أثبته. »18
15 : الغزالي –مرجع سابق –ص 93
16 : ابن عبد البر –مرجع سابق- ص 7/8
17 : الغزالي مرجع سابق –ص 93
18 : الامدي –الأحكام في أصول الأحكام- ج 2 دار الكتب العلمية بيروت- 1980 ص 68
شرائط وجوب العمل بخبر الواحد:
أما الشروط المعتبرة فهي أربعة يسوقها الامدي كالتالي:
1-« أن يكون الراوي مكلفا.
2-أن يكون مسلما
3-أن يكون ضبطه لما يسمعه ارجح من عدم ضبطه، و ذكره له ارجح من سهوه، لحصول غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.
4-أن يكون الراوي متصفا بصفة العدالة. »19
ما يرد به خبر الواحد:
يقول الشيرازي في كتابه اللمع: » إذا روى الخبر ثقة رد بأمور:
أحدها:أن يخالف موجبات العقول، فيعلم بطلانه لان الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، و أما بخلاف العقول فلا.
و الثاني: أن يخالف نص كتاب آو سنة متواترة فيعلم انه لا اصل له آو منسوخ.
و الثالث:أن يخالف الإجماع فيستدل به على انه منسوخ آو لا اصل له. لانه لا يجوزان يكون صحيحا غير منسوخ و تجمع الأمة على خلافه.
و الرابع: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه، فيدل ذلك على انه لا اصل له لانه لا يجوز أن يكون له اصل، و ينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم.
19 : الامدي مرجع سابق –ص 100
و الخامس:أن ينفرد برواية ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر، فلا يقبل لانه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية، فأما إذا ورد مخالفا للقياس آو انفرد الواحد برواية ما يعم به البلوى لم يرد. »20
مصطلح المسند:
قال الزركشي: »المسند ماخود من السند و هو ما ارتفع و علا عن سفح الجبل لان المسند يرفعه إلى قائله، و يجوز أن يكون مأخوذا من قولهم: فلان سند أي معتمد، فسمي الأخبار عن طريق المتن مسندا لاعتماد النقاد في الصحة و الضعف عليه،و في أدب الرواية للحفيد: أسندت الحديث اسنده و عزوته أعزوه و اعزيه و الأصل في العرف راجع إلى المسند و هو الدهر فيكون معنى إسناد الحديث اتصاله في الرواية اتصال أزمنة الدهر بعضها ببعض، و حاصل ما حكاه المصنف في تعريفه ثلاثة أقوال:
1-أحدها انه المتصل إسناده و أن لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم.
2-و الثاني انه المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أن لم يتصل.
3-و الثالث انه المتصل المرفوع. »21
و على القول الثاني يتنزل ذكر أبي عمر بن عبد البر، ذلك أن المسند عنده هو: » ما رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم خاصة و قد يكون متصلا مثل: » مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد يكون منقطعا مثل: »22 مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم . فهذا مسند لانه قد اسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو منقطع لان الزهري لم يسمع من ابن عباس.علق شيخ الإسلام على تعريف ابن عبد البر للمسند
20 : الشيرازي –اللمع في أصول الفقه- دار الكتب العلمية بيروت –ط1 /1985 ص 82
21 : ابن الصلاح –معرفة أنواع علم الحديث- دار الكتب العلمية بيروت –ط 1 /2002 ص 113
22 : ابن عبد البر –مرجع سابق –ص 21
قائلا: »يلزم عليه أن يصدق على المرسل و المعضل و المنقطع إذا كان مرفوعا و لا قائل به و قال الحاكم و غيره لا يستعمل إلا في المرفوع المتصل بخلاف الموقوف و المرسل و المعضل و المدلس و حكاه ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث و هو الأصح و ليس ببعيد من كلام الخطيب و به جزم شيخ الإسلام في النخبة فيكون أخص من المرفوع.و للمسند مزية فضل، لموضع الاتفاق، و سكون النفس إلى كثرة القائلين به. »23
المتصل و الموصول:
المتصل و الموصول هو ما اتصل إسناده إلى النبي صلى الله عليه و سلم آو إلى واحد من الصحابة حيث كان ذلك موقوفا عليه و أما أقوال التابعين إذا اتصلت الأسانيد إليهم فلا يسمونها متصلة أما المقطوع و إن اتصل السند إلى قائله لا يدخل في حكم المتصل. قال ابن الصلاح: « و مطلقه أي المتصل يقع على المرفوع و الموقوف.
قلت و إنما يمتنع اسم المتصل في المقطوع في حالة الإطلاق أما مع التقييد فجائز واقع في كلامهم كقولهم هذا متصل إلى سعيد بن المسيب آو إلى الزهري آو إلى مالك و نحو ذلك. »24 يقول ابن الصلاح: « المتصل و يقال فيه أيضا الموصول و مطلقه يقع على المرفوع و الموقوف و هو الذي اتصل إسناده، فكان كل واحد من رواته قد سمعه ممن فوقه حتى ينتهي إلى منتهاه. مثال المتصل المرفوع من الموطأ: » مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم » و مثال المتصل الموقوف : » مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر قوله. »25
المرفوع:
اختلف في حد الحديث المرفوع ، فالمشهور انه » ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم
23 : ابن عبد البر مرجع سابق ص 5
24 : محمد ابن الحسين العراقي -شرح ألفية العراقي- ج 1 ص 121
25 : ابن الصلاح –مرجع سابق ص 116
قولا له آو فعلا سواء أضافه إليه صحابي آو تابعي آو ما بعدهما سواء اتصل إسناده أم لا فعلى هذا يدخل فيه المتصل و المرسل و المنقطع و المعضل، و قال الخطيب هو ما اخبر به الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه و سلم آو فعله، فعلى هذا لا تدخل فيه مراسيل التابعين و من بعدهم. قال ابن الصلاح و من جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل »26… والمرفوع و المسند عند ابن عبد البر سواء و عليه فان الانقطاع و الاتصال يدخلان عليهما جميعا. و أشار ابن عبد البر إلى أن قوما فرقوا بين المرفوع و المسند، بان المسند هو الذي لا يدخله انقطاع و مما يعرف به: اتصال الرواة بعضهم بعضا.
الموقوف:
ذكر ابن عبد البر أن الموقوف هو: » ما وقف على الصاحب ولم يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم مثل: مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر قوله »27. و قيل انه: » ما يروى عن الصحابة من أقوالهم آو أفعالهم و نحوها فيوقف عليهم و لا يتجاوز به إلى رسول الله » و قد انتقد الزركشي هذا التعريف و رأى انه غير صالح إذ ليس كل ما يروى عن الصحابي من قوله موقوفا كقول عائشة: » فرضت الصلاة ركعتين ركعتين » و لهذا احتج الشافعي بمثل هذا و أعطاه حكم المرفوع »28.ثم إن من الموقوف ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول و منه ما لا يتصل إسناده فيكون من الموقوف غير الموصول. و موجود في اصطلاح الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر. قال أبو القاسم الفوراني –منهم- فيما بلغنا عنه: الفقهاء يقولون: » الخبر ما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم و الأثر ما يروى عن الصحابة. » 29
26 : محمد ابن الحسين العراقي –مرجع سابق- ص 116 /117
27 : ابن عبد البر –مرجع سابق- ص 25
28 : ابن الصلاح –مرجع سابق- ص 11
29 : المرجع نفسه ص 118
مصطلح التدليس:
التدليس مشتق من الدلس و هو اختلاط الظلام، سمي بذلك لاشتراكهما في الخفاء.
أما في الاصطلاح » فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث: » أن يكون الرجل قد لقي شيخا من شيوخه فسمع منه أحاديث لم يسمع غيرها منه، ثم اخبره بعض أصحابه، ممن يثق به عن ذلك الشيخ، بأحاديث غير تلك التي سمعها منه فيحدث بها عن الشيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدثه بها، فيقول فيها: عن فلان، يعني ذلك الشيخ « 30. قال أبو عمر »و جملة تلخيص القول في التدليس الذي أجازه من أجازه من العلماء بالحديث، هو: أن يحدث الرجل عن شيخ قد لقيه و سمع منه، بما لم يسمع منه، و سمعه من غيره منه، فيوهم انه سمعه من شيخه ذلك، و إنما سمعه من غيره آو من بعض أصحابه عنه، و لا يكون ذلك إلا عن ثقة، فان دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث، و كذلك إن دلس عمن لم يسمع منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء، إلى ما ينكرونه و يذمونه و لا يحمدونه »31. و يقابل هذا القول في تضييق حد التدليس قول آخر حكاه ابن عبد البر في التمهيد أن التدليس » أن يحدث الرجل بما لم يسمعه منه بلفظ لا يقتضي تصريحا بالسماع، و إلا كان كذبا. قال: » و على هذا فما سلم أحد من التدليس لا مالك ولا غيره لكنه قال: » و أئمة الحديث يقبلون تدليس ابن عيينة لانه إذا وقف أحال على ابن جريح و معمر و نظائرهما. و قالوا لا يقبل تدليس الأعمش، لانه إذا وقف أحال على غير ملئ يعنون على غير ثقة إذا سألته عمن هذا؟ قل: عن موسى بن طريف و عباية بن ربعى… و هذا ما رجحه ابن حبان و قال: »و هذا الشيء ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة فانه كان يدلس و لا يدلس إلا عن ثقة مثل ثقته. و حكى النووي في شرح المهذب الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن و كأنه تبع البيهقي في » المدخل » و ابن عبد البر في » التمهيد » فحكى البيهقي عن الشافعي و سائر أهل العلم انهم لا يقبلون
30 : ابن عبد البر-مرجع سابق- ص 27
31 : المرجع نفسه ص 28
عنعنة المدلس و حكى ابن عبد البر في « مقدمة التمهيد » أن المعنعن يقبل بثلاثة شروط إلا أن يكون معروفا بالتدليس، فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا آو سمعت »32.و التدليس أنواع ثلاثة:
1-تدليس الإسناد: و هو أن يروي المحدث عمن عاصره ما لم يسمعه منه مباشرة موهما انه سمعه منه، و ذلك بلفظ محتمل أي غير صريح و إلا سمي ذلك كذبا و يقصد باللفظ المحتمل العنعنة آو لفظ قال فلان… و قد يكون بينه و بين معاصره راو آو اكثر. تدليس الإسناد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
اْ- تدليس الإسقاط: و هو أن يروي المحدث عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهما انه سمعه منه.
ب-تدليس القطع: قال ابن حجر: »هو أن يحذف الصيغة و يقتصر على قوله مثلا: الزهري عن انس أي يقطع أداة الرواية موهما السماع »
ج-تدليس العطف:و هو أن يصرح بالتحديث عن شيخ و يعطف عليه شيخا آخر و لا يكون قد سمع منه و ذلك كان يقول: حدثني و قال فلان عن …و تدليس الإسناد يكرهه اكثر العلماء و لا يقبلون تدليس الضعيف.
2-تدليس التسوية:و أن يجعل الإسناد كله عن الثقات إذا كان فيه ضعفاء، و صورته أن يروي حديثا عن ثقة، و الثقة عن الضعيف فيسقط الراوي الضعيف و يجعل الحديث عن الثقة الأول عن الثقة الثاني، و يكون ذلك باللفظ المحتمل و قد اعتبر هذا النوع شر أقسام التدليس لانه خيانة لمن ينقل إليهم و تغرير بهم.و تدليس التسوية لا يقتصر على إسقاط الضعيف، بل يشمل حتى إسقاط الثقة بحثا عن علو الإسناد لان في ذلك مفخرة.
32 : برهان الدين الابناسي –الشدا الفياح من علوم ابن الصلاح- ت صلاح فتحي ج1 مكتبة الرشاد الرياض
ص 175
3-تدليس الشيوخ: و هو أن يصف الراوي شيخه الذي سمع منه بوصف لا يعرف به من اسم آو كنية آو نسبة إلى صنعة ليعسر الطريق إلى معرفته. و كراهة هذا النوع تشتد بحسب المقصد الحامل على ذلك و أن كان هذا النوع هو أخف الأنواع و أن كان يكره لما فيه من تضييع حق المروي عنه كما قال ابن الصلاح. بل قال بعضهم: تضييع حق المروي أيضا. و قد يكون الحامل على ذلك:
اْ-كون المروي عنه ضعيفا، فيدلسه حتى لا تعرف روايته عن الضعفاء و هذا شر المقاصد.
ب- كون المروي عنه صغيرا آو تأخرت وفاته.
ج- الإيهام بكثرة الشيوخ بان يروي عن الشيخ الواحد في مواضع متعددة بأوصاف متعددة. و يلتحق بتدليس الشيوخ تدليس البلدان للإيهام بالرحلة، كان يقول البغدادي »حدثني من بوراء النهر يقصد دجلة »
مصطلح المعنعن و المؤنن:
اْ-المعنعن :هو ما روي بلفظ عن دون بيان للتحديث آو الأخبار آو السماع ك »عن سعيد » و « عن كرم » و اختلفوا في حكم الإسناد المعنعن.فالذي صححه جمهور المحدثين انه من المتصل بشرط سلامة معنعنه من التدليس و يشترط ملاقاته ممن رواه عنه بالعنعنة على ما ذهب إليه البخاري و شيخه ابن المديني و غيرهما من أئمة الحديث و قد اظهر البخاري هذا المذهب في » تاريخه » و جرى عليه في » صحيحه » و اكثر منه حتى انه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد اخرج له قبل ذلك شيئا معنعنا »33. وهذا ما يؤكده ابن عبد البر
33 : التهانوي –قواعد في علوم الحديث- ت عبد الفتاح أبو غدة بدون ط /ت –بدون دار النشر ص 38
بقوله: » و نظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم و من لم يشترطه، فوجدتهم اجمعوا
على قبول الإسناد المعنعن لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطا ثلاثة و هي :
1-عدالة المحدثين في أحوالهم.
2-لقاء بعضهم بعضا مجالسة و مشاهدة.
3-و أن يكونوا براء من التدليس »34
و مسلم لم يشترط الثاني بل اكتفى بثبوت كونهما في عصر واحد و أن لم يثبت في خبر قط انهما اجتمعا آو تشافها و قد اعترض ابن الصلاح على ذلك بقوله : »فيما قاله مسلم نظر، لانهم كثيرا ما يرسلون عمن عاصروه و لم يلقوه فاشترط لقيهما لتحمل العنعنة على السماع و اشترط ابن السمعاني طول الصحبة بينهما.
قال ابن الصلاح »:و كان ابن عبد البر يدعي إجماع أئمة الحديث عليه. قال العراقي: »بل صرح بادعائه في مقدمة التمهيد بشرط أن لا يكون المعنعن_بكسر العين_ مدلسا و بشرط إمكان لقاء بعضهم بعضا أي لقاء المعنعن من روى عنه بلفظ عن، فحينئذ يحكم بالاتصال إلا أن يتبين خلا ف ذلك- و في اشتراط ثبوت اللقاء- و عدم الاكتفاء بإمكانه و طو ل الصحبة و عدم الاكتفاء بثبوت اللقاء » ومعرفة بالرواية عنه » و عدم الاكتفاء بالصحبة خلاف منهم من لم يشترط شيئا من ذلك و اكتفى بإمكان اللقاء و عبر عنه بالمعاصرة و هو مذهب مسلم و ادعى الإجماع فيه » 35.قال الإمام الذهبي: » ثم إن مسلما لحدة في خلقه انحرف أيضا عن البخاري و لم يذكر له حديثا و لا سماه في صحيحه بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لما روى عنه بصيغة عن و ادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية و لا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، و وبخ من اشترط ذلك. »36
34 : ابن عبد البر –مرجع سابق – ص 12
35 : السيوطي –تدريب الراوي – ج1 ص 215
36 : الذهبي –الموقظة في علم مصطلح الحديث- ت عبد الفتاح ابو غدة- مكتب الطبوعات الاسلامية- حلب-ط2 /1412 –ص 44
ب -المؤنن:
المؤنن » و هو ما يقال في سنده:حدثنا فلان أن فلانا حدثه بكذا…نحو حدث مالك عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب قال كذا…و اختلفوا في معنى أن هل هي بمعنى عن محمولة على الاتصال آو هي محمولة على الانقطاع حتى يعرف صحة اتصالها؟ و فرق بعضهم بين عن و أن و رأوا أن « أن » محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر آو يأتي ما يدل على انه قد شهده آو سمعه ».37 و عند جمهور أهل العلم « أن » و »عن » سواء و أن الاعتبار ليس بالحروف و إنما هو باللقاء و المجالسة و السماع و المشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا، كان حديث بعضهم عن بعض أبدا بأي لفظ ورد محمولا على الاتصال حتى تتبين فيه علة الانقطاع. و قال البرديجي: » أن محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر آو يأتي ما يدل على انه قد شهده و سمعه. و قد رد عليه ابن عبد البر قائلا: » هذا عندي لا معنى له لاجماعهم على أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء قال فيه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم آو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال آو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال آو سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم، كل ذلك سواء عند العلماء و الله اعلم. » 38
مصطلح المرسل:
أكد ابن عبد البر » أن إجماع أهل العلم قد ثم على اعتبار قول التابعي الكبير: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المرسل، و أما ما دونه فقد أورد فيه تفصيلا:
اْ-إذا كان من صغار التابعين و عزى قوله إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر أن بعض أهل ا لعلم يعتبرونه مرسلا و أما الآخرون فيسمونه منقطعا.
37 : محمد عجاج الخطيب- أصول الحديث- ص 356/357
38 : ابن عبد البر –مرجع سابق- ص 26
ب- و هو نفسه يعتبر الحديث على هذه الصورة الأخيرة منقطعا سواء عزي إلى النبي صلى الله عليه و سلم آو أضيف إلى غيره و إلى ذلك أشار بقوله: »أما المرسل فان هذا الاسم أوقعوه بإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل أن يقول أبو إمامة بن سهل بن جنيف آو كان مثله: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك من كان دون هؤلاء كسعيد ابن المسيب و سالم بن عبد الله بن عمر… و من كان مثلهم من التابعين الذين يصح لهم لقاء الجماعة من الصحابة و مجالستهم فهذا هو المرسل عند أهل العلم. ثم قال: و مثله أيضا مما يجري مجراه عند بعض أهل العلم مرسل من دون هؤلاء مثل حديث ابن شهاب و قتادة و آبي حازم و يحيى بن سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم فقوم من أهل الحديث يسمونه مرسلا كمرسل التابعين و قال آخرون حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه و سلم يسمى منقطعا لانهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد و الاثنين و اكثر روايتهم عن التابعين فما ذكروه عن النبي صلى الله عليه و سلم يسمى منقطعا »39.
و قد أشار محققا « كتاب التمهيد » بان هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح فقد ذكر العراقي في شرح علوم الحديث أن ابن شهاب لقي ثلاثة عشر رجلا من الصحابة، أما قتادة فادرك ثلاثة منهم. و قد رأى ابن عبد البر » أن مراسيل الموطأ صحاح لا يسوغ لاحد الطعن فيها لثقة ناقليها و أمانة مرسليها و اصل مذهب مالك رحمه الله و أصحابه من المالكية أن مرسل الثقة تجب به الحجة و يلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء »40. و زعمت طائفة » أن مراسيل الثقات أولى من المسندات، و اعتلوا بان من اسند لك فقد احالك على البحث عن أحوال من سماه لك، و من أرسل من الأئمة حديثا مع علمه و دينه و ثقته، فقد قطع لك على صحته، و كفاك النظر. و قد رد عليها بان » قطعه و نظره لا يكفيان، فالثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة، عملا بما ظهرله، و يأتي غيره فيعلم ما يقدح فيه. » 41 و لا شك أن التوقف في قبول المرسل و التحري في شانه بدا في عصر مبكر
39 : ابن عبد البر –مرجع سابق- ص 21
40 : المرجع نفسه ص 2
41 : المرجع نفسه ص 3
ففي مقدمة صحيح مسلم 1/ 10 : أن ابن عباس لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة حجة، و أن ابن سيرين قال: » لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى آهل السنة فيؤخذ حديثهم، و ينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم » صحيح مسلم 1/ 11 . إلا أن الطبري » زعم – على حد تعبير ابن البر- بان التابعين بأسرهم اجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم انكاره، و لا عن أحد الأئمة بعدهم إلى راس المائتين كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى من قبول المرسل.فتحديده براس المائتين غير دقيق، و كان ابن عبد البر أحس بمافيه من المجازفة فعبر بقوله: » و زعم الطبري ».42 و ممن أكد على أن الشافعي » هو أول من انكر الاحتجاج بالمراسيل، هو أبو داود في رسالته إلى أهل مكة، فبعد أن بين أن العلماء كانوا يعملون بالمراسيل، و لم ينكر ذلك بينهم قال: حتى جاء الشافعي فتكلم فيه.فعبارة أبى داود هذه خصت رد الحديث المرسل بالإمام الشافعي، و بينت انه أول من و ضع اللبنات الأولى للنظر في المراسيل و تفحصها، و هذا القول عارضه السخاوي و أسقطه في قوله: »ثم إن ما اشعر به كلام أبى داود في كون الشافعي أول من ترك الاحتجاج به ليس على ظاهره بل هو قول ابن المهدي و يحي القطان و غير واحد ممن كان قبل الشافعي. و يمكن أن يكون اختصاص الشافعي لمزيد التحقيق فيه »43.
و يمكن الإشارة إلى نوع متميز من المراسيل إلا وهو المرسل الخفي و هو كما عرفه السيوطي: » ما عرف إرساله لعدم اللقاء آو السماع …أي هو الحديث الذي يرويه الراوي عمن عاصره لكن لم يتحقق هل لقيه أم لا؟ و بعبارة أخرى هو الحديث الذي يثبت فيه معاصرة الراوي لمن يروي عنه و لكن المشكل هو في السماع و اللقاء، و هذا ما توحي به عبارة ابن حجر العسقلاني و هو يقول في تعريفه: » فإما إن عاصره و لم يعرف انه لقيه فهو المرسل الخفي. و قال السيوطي بان النووي عرف هذا النوع من المراسيل بأنه ما عرف إرساله لعدم اللقاء لمن روى عنه مع المعاصرة آو لعدم
42 : ابن عبد البر –مرجع سابق- ص 4
43 : السخاوي –فتح المغيث- ج 1-ط1 ص 143
السماع مع ثبوت اللقاء آو لعدم سماع ذلك الخبر بعينه مع سماع غيره. »..44
مصطلح المنقطع:
قال ابن عبد البر » و المنقطع عندي كل ما لا يتصل سواء كان معزوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم آو إلى غيره مثل مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشة و عن ابن شهاب عن أبى هريرة و عن زيد بن اسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أمثال ذلك »45.و قد دقق المحدثون في تعريف المنقطع بقولهم: »المنقطع هو كل ما سقط من سنده راو واحد في موضع آو اكثر قبل الصحابي و بعد راوي الحديث آو ذكر فيه راو مبهم و من هنا فصور الانقطاع تكون بسببين:
1- سقوط راو من السند: و شرطه أن يكون الساقط راو واحد و إن تعددت المواضع و أن يكون قبل الصحابي و بعد راو الحديث،فقولهم راو واحد يخرج به المعضل و بقولهم قبل الصحابي يخرج المرسل، و بقولهم بعد راو الحديث يخرج منه المعلق.و حكم المنقطع انه ليس بحجة ما دام في حالته، فإذا اعتضد و انجبر من طرق أخرى قبل و اعتمد.
مصطلح البلاغات:
البلاغات هي أحاديث وردت في موطا الأمام مالك بلفظ بلغني و بلاغات الموطأ أربعة و هي:
الأول: »ا ني لا نسى آو انسى لاسن »46.
قال ابن عبد البر: لا اعلم هذا الحديث روي عن النبي صلى الله عليه و سلم مسندا و لا مقطوعا من غير هذا الوجه…و معناه صحيح في الأصول.
الثاني: »آن رسول الله صلى الله عليه و سلم آري أعمار الناس قبله آو ما شاء الله من ذلك فكانه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة
44 : ابن عبد البر –مرجع سابق-ص
45 : المرجع نفسه ص 21
46 : الإمام مالك –الموطأ- ج 1 –كتاب الصلاة- العمل في السهو- ص 121
القدر خيرا من آلف شهر »47.قال ابن عبد البر هذا لا يعرف في غير الموطأ لا مسندا و لا مرسلا و هو أحد الأحاديث التي انفرد بها مالك لكن له شواهد من حيث المعنى مرسلة »
الثالث: قول معاد » آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد وضعت رجلي في الغرز أن قال حسن خلقك للناس »48. قال ابن عبد البر: »منقطع جدا و لا يوجد مسندا من حديث معاد و لا غيره بهذا اللفظ »
الرابع: »إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة »49.
قال ابن عبد البر » هذا الحديث لا اعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ إلا ما ذكر الشافعي في كتابه الام. و »قد قيل منذ مدة أن ابن الصلاح وصل هذه البلاغات الأربع في رسالات خاصة و اعتقد كثير أنها صحيحة لانه وصلها وتتبعها،.قال الشيخ الشنقيطي و العجب من ابن الصلاح رحمه الله كيف يطلع على اتصال جميع أحاديث الموطأ حتى انه وصل الاربعةالتي اعترف ابن عبد البر بعدم الوقوف على طرق اتصالها و مع هذا لم يزل مقدما للصحيحين عليه في الصحة مع أن الموطأ هو اصلهما و قد انتهجا منهجه في سائر صنيعه و اخرجا أحاديثه من طريقه و غاية أمرهما إن مافيهمامن الأحاديث أزيد مما فيه. »50 « توهم بعض العلماء أن قول ابن عبد البر يدل على عدم صحتها و ليس كذلك إذ الانفراد لا يقتضي عدم الصحة لاسيما من مثل مالك وقد أفردت قديما جزءا في إسناد هذه الأربعة الأحاديث. ثم بين أن الحافظ ابن أبي الدنيا أسند أثنين منها في » اقليد التقليد » له ولم يعينهما هنا فيما وقفت عليه.
ـ أن هذه الأربعة الأحاديث ولو لم توجد موصولة فإن لها شواهد ثابتة تؤيدها وتصحح معناها كما هو مفصل في شروح الموطأ لأبن عبد البر والسيوطي والزرقاني والدهلوي والسهارنفوري. »
47 : مالك –مرجع سابق- ج 1 –كتاب الاعتكاف باب ما جاء في ليلة القدر- ص 196
48 : المرجع نفسه ج 2 –كتاب حسن الخلق- ص 95
49 : المرجع نفسه ج 1 –كتاب الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم- ص 199
50 : وزارة الأوقاف –ندوة الإمام مالك- ج 2 سنة 1980 ص 126
ـ أنه حتى لو لم يكن لها شواهد فإن ذلك لا يؤثر كما قال سفيان كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا ماكان صحيحا, وإذا قال: بلغني فهو إسناد صحيح .
قلت: فقصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها.فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم خصوصا وإن اعتناء مالك بانتفاء الرجال وانتقادهم لا يخفى فمن اعتمد عليه فقد كفى تعب التفتيش والبحث ووضع يده من ذلك على عروة وثقى لا تنفصم . « 51
51 : وزارة الاوقاف –ندوة الامام مالك مرجع سابق ص 126
خاتمة
بعد هذه الدراسة المقارنة الوجيزة يتبين بشكل جلي قيمة ابن عبد البر العلمية و المنهجية، و هو جدير بان يلقب بحافظ المغرب، فهو إمام في الحديث و علومه، و هو كامل الأدوات، و لعل مقدمة التمهيد خير دليل على ذلك، إذ تعتبر رسالة في علم المصطلح. و منهجه في دراسة المصطلح فريد من نوعه و يستحق الوقوف عند خصوصياته الاستفادة منه: فهو يحدد المصطلحات الحديثية و يبسط مختلف التعاريف و الحدود التي قيلت في المصطلح الواحد فيعزز هذه و يعضدها و يزكيها خصوصا ما تواطاْ عليه جمهور اْهل العلم و يرد اْخرى بالحجج و البراهين دون قدح و لا تجريح و هو يستعمل عبارات مقبولة في الرد على من لا يرتضي تعاريفهم من مثل: -زعم الطبري، هذا عندي لا معنى له، قصور المتأخرين…-
و ابن عبد البر لا يتوانى في عرض ما استنبطه على آراء الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين.
لا شك أنى استفدت من هذه الدراسة المقارنة معرفيا و منهجيا بحيث عمقت معارفي في بعض المصطلحات الحديثية و وقفت على اوجه الاختلاف بين المحدثين في تحديد العديد من المصطلحات.كما استفدت من طريقة ابن عبد البر في مناقشته للآخرين والدب عن آرائه بالحجج و البراهين و احترام الخصم و عرض ما استنبطه على الصحابة والتابعين و أهل العلم. و الخلاصة أن ابن عبد البر قد ساهم في الدراسة المصطلحية و قد شهد له بذلك الكثير من أهل العلم من المغاربة و المشارقة على حد سواء.
Aucun commentaire