Home»Islam»رد على مقال ـ الدين والدنيا في الواقع العربي ـ

رد على مقال ـ الدين والدنيا في الواقع العربي ـ

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه
رد على مقال: « الدين والدنيا في الواقع العربي
« للدكتور عزيز العظمة
اليسار العربي ومعضلة الاغتراب عن الواقع

بقلم عبد المجيد بنمسعود

نشرت مجلة « دراسات عربية » العريقة مقالا تحت العنوان المذكور أعلاه؛ وقد جاء حافلا بحشد من المواقف والآراء، سعى الكاتب من خلالها أن يقدم تقويما شاملا لصيرورة الواقع الثقافي والفكري والاجتماعي في العالم العربي، ومساهمة مني في الحوار البناء والهادف إلى تقريب الرؤى وفتح جسور التواصل،وسعيا إلى تصحيح كثير من المفاهيم والوقائع ذات الصلة الوثيقة بمكونات العالم العربي، سأعمل على تناول مقال الدكتور عزيز العظمة، بالمناقشة آملا أن يجد هذا النقد منه صدرا رحبا، فهو لا ينشد إلا الحقيقة، بعيدا عن أي حيف يمكن أن يلحق بحقيقة التاريخ العربي الإسلامي.
في مستهل هذا المقال النقدي، أبدي ملاحظة أولية مفادها أن ما أورده الدكتور العظمة، يكاد يكون حشدا من الأحكام المطلقة التي تفتقر إلى تحليل محكم معزز بالشواهد التاريخية والبراهين العقلية المقنعة.
منذ البداية يعبر الكاتب عن خيبة أمله، ليس من جراء كابوس التخلف الذي لا زال يجثم على صدر العالم العربي والإسلامي، وإنما بسبب عودة الأمة إلى أصالتها ومقوماتها الحضارية، بعد أن كانت قد انسلخت، خلال عهد نهضتها الكاذبة، على إثر سقوط صرح الخلافة الإسلامية، من تلك الأصالة، وانجرفت مع تيار العلمنة الكاسح الذي تم التمهيد لأمواجه العاتية، بدقة متناهية، من طرف قوى الاستعمار.
يقول: « لم يكن لقضايا الدين في تاريخنا القريب شأن كبير، وليس انجذاب الناس نحو تديين السياسة وتسييس الدين، من الأمور التي كانت ذات أثر يذكر في حياتنا العامة في هذا الماضي القريب، فقد كان الثقافة الدينية، والمرجعية الدينية للأمور العامة، والاستشهادات القرآنية وغيرها، والعصبيات الدينية، من الأمور التي كانت مبدئيا على هامش الحياة، وكانت موسومة بالرجعية والتخلف والعداء للتقدم والرقي والتحرر » (ص 4) إن هذا الكلام فضلا عن كونه منطويا على نوع من المغالطة، فهو يصطدم بالواقع التاريخي الصريح الذي يمثل هوية الأمة فهو يقول: « لم يكن لقضايا الدين في تاريخنا القريب شأن كبير »، ومفهوم هذه القضية الإخبارية، هو أن قضايا الدين كان لها شأن كبير في تاريخنا البعيد، الذي يمثل جذورنا وقوام وجودنا الحضاري. ومعنى ذلك أن الشرود عن قضايا الدين في تاريخنا القريب، لم يكن إلا لحظة نشازا في تاريخ الأمة الإسلامية الطويل، تخلفت عن مسلسل رهيب لسلخ هذه الأمة عن جوهر كيانها.

ولم يكن المنحرفون عن الخط الصحيح إلا نتاجا وبيلا لذلك المسلسل وجزءا من حصاد الهشيم، ثم تحولوا بعد ذلك إلى أدوات طيعة لترسيخ مخرجات ذلك المخطط الرهيب. فكأن الكاتب يحل ما هو دخيل من أنماط التصور والاعتقاد محل الأصيل الذي يضرب بجذوره في التاريخ وفي الحقيقة الأزلية على حد سواء، وهو موقف يتسم بالغرابة. لقد راع الكاتب أن يعود المسلمون إلى دينهم الإسلامي الحنيف، إلى شريعة ربهم يتقون بظلالها الوارفة لفح هجير المذهبيات الضالة التي استعبدت العباد وكبلت قواهم، عن طريق تهجين فكرهم وإفساد أخلاقهم وتفتيت مناعتهم. فهو أي الكاتب – لا يستسيغ ألا تظل المرجعية الثقافية الدينية والاستشهادات القرآنية – على حد قوله – على هامش الحياة… كما كان عليه الأمر من خلال فترة الشرود التي عبر عنها بـ »تاريخنا القريب ». ولو أنه لزم جانب الموضوعية، لما انساق وراء هذا الاستنكار لوضع سليم، عكسه هو الأولى بالاستنكار والاستهجان، لأنه مخالف لطبائع الأشياء ونواميس الحضارة.
ثم يقول الكاتب بأن تلك المرجعية الثقافية الدينية، التي عادت من جديد إلى خضم حياة المسلمين وصلب اهتمامهم، « كانت موسومة بالرجعية والتخلف والعداء للتقدم والرقي والتحرر » ولكن الكاتب يستعمل صيغة البناء للمجهول « موسومة »، لأنه يعلم أن الذين كانوا – ولا يزال بعضهم – يسمون الثقافة الإسلامية والمرجعية الإسلامية، بالرجعية والتخلف، لا يعدون أن يشكلوا قلة غريبة من هذه الأمة، لا تمثل ضميرها في شيء.
إن الكاتب وهو يرصد مؤشرات الصحوة والرجعة إلى الإسلام، يقوم بنوع من تحلل المحتوى للألفاظ والمفاهيم التي أصبحت متداولة على مستويات الخطاب في الحياة اليومية للشعوب الإسلامية، فيلاحظ حلول مصطلح « الاستعمار الثقافي »، ويصفه بأنه « استعمار ثقافي متوهم »، محل مصطلح « الصراع ضد الاستعمار الرأسمالي ». كما يسجل سريان مفهوم الأمة الإسلامية، الأبالسة، تضاد قوى الإيمان وقوى الكفر، الاستضعاف / والاستكبار / مجتمع الشيطان / مجتمع الرحمن. ( ص 4).
وإني لأستغرب كون الكاتب قد تغاضى عن التحولات الخطيرة التي هزت العالم بأسره، وتمخضت عن معادلات جديدة، وترسيخ موازين تضرب بجذورها في أعماق الكيان العربي، موازين كانت تبدو لبعض العقول بعيدة عن الواقع وعنوانا للرجعية والتخلف. ومما يستوجب الاستغراب في كلام الكاتب أنه ينكر أن يكون « الاستعمار الثقافي » واقعا لا غبار عليه، وأن يغيب عن ذهنه أن « الاستعمار الرأسمالي » – الذي يريده بديلا له في الاستعمال – لم يقدم على زحفه بواسطة الغزو العسكري إلا بعد التمهيد له من خلال تهييء الأجواء في أوساط الشعوب المستعمرة، وهذا ما يؤكده مفهوم « القابلية للاستعمار » كما سماه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله. ثم إن الاستعمار الرأسمالي لا يمكن أن يضمن لنفسه الاستمرار إلا بواسطة تعميق الاستعمار الثقافي الذي يحقق تطبيع العلاقات بين المستعمر والمستعمر، مما يجعل المستعمَر لا ينظر إلى المستعمِر على أنه جسم غريب ينبغي مقاومته وإبعاده – سواء في صورته الحسية أو المعنوية – وإنما على أنه جسم مألوف داخل الكيان الثقافي، ومن ثم داخل البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للأمة.
وإني لأرى ضبابية وتناقضا يطبعان رؤية الكاتب، فهو ينعى على الأمة الإسلامية الرجوع إلى مفهوم « الأمة الإسلامية »! بدلا من « وحدة الأمة العربية »، فهو يريدها وحدة مبنية على العرق والدم، وفي هذا سقوط في نظرة شوفينية عنصرية، مسؤولية عما وقع في العالم العربي من حروب طاحنة وعدوان على كرامة الإنسان وأمنه. هذا إذا سرنا مع خط الجدال الذي اتبعه الكاتب في مقاله، والذي يؤثر فيه مفهوم « الوحدة العربية » على مفهوم « الوحدة الإسلامية »، وإلا فإننا يمكن أن نحاجه انطلاقا من زاوية أخرى ومنظور آخر، لا شك في أنه يمثل اقتناعه المبدئي، وأعني بذلك، المنظور الطبقي الذي ينظر إلى المجتمع باعتباره مسرحا للصراع المحتدم بين طبقتين (الطبقة البورجوازية، والطبقة البروليتارية) فمن أين للكاتب أن يتحدث عن الوحدة العربية في ظل حرب مستعرة بين فئات المجتمع من أجل الاستيلاء على خيراته؟
إذن فالأمر يتعلق بصراع اقتصادي يؤطره ويقوده إيديولوجية تجمع قوى البروليتاريا، ليس في العالم الثالث فحسب، كما جاء في كلام الكاتب، بل حتى في الكيان الإسرائيلي اليهودي. وهذا بالفعل ما تؤكده شواهد الواقع وممارسات مثقفي اليسار العربي الذين يرون بأن وحدة الإيديولوجية اليسارية كفيلة بإزالة الفواصل بين اليسار العربي ورفيقه اليهودي، فأين هي إذن الوحدة العربية؟ وهل وعاؤها الفارغ من أي محتوى إيديولوجي، قادر على جمع الشمل والشتات؟ وحتى ولو وقع هذا الجمع فهل يقع على حق؟ ولماذا انتقل الكاتب من دائرة الأمة العربية إلى دائرة العالم الثالث؟ وإذا كان الأمكر متعلقا بالصراع الطبقي، فلماذا وقف عند حدود العالم الثالث؟ أين نضع بروليتاريي العالم الأول والثاني؟ ألا يحظون بشرف هذه التسمية « النبيلة »؟!
إن الحقيقة الدامغة التي تسفر عن نفسها بكل جلاء، هي أن التناقض الرئيسي الذي يهز المجتمع البشري ويطبع صيرورته، هو التناقض بين قوى الإيمان وقوى الكفر وقوى الاستضعاف وقوى الاستكبار، بين مجتمع الرحمن ومجتمع الشيطان. وإن نتيجته لا بد أن تكون – بموجب سنن التاريخ التي تمثل إرادة الله القوي العزيز – انتصار قوى الإيمان على قوى الكفر، قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (القصص 5 و6). فالمسألة تتعلق برسالة تعلو على جميع الاعتبارات الصغيرة والأعراض الزائلة، إنها رسالة تحرير العباد من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، عبودية الله الواحد القهار. إن هذه الحقائق السالفة الذكر، يشهد لها هذه التفاعلات التي تعتلج في عالم اليوم وتكشف لأولي الألباب حقيقة الصراع وجوهره، فقد التقت الأعلام، التي كان يبدو لقصار النظر أنها متناقضة، حول بعضها البعض، وتخندقت في خندق واحد هو خندق الكفر، وغدا واضحا أن الصراع صراع حضاري( )، بين حضارة الكفر والمادة في طرف، وبين حضارة الإيمان والسمو الروحي في الطرف الآخر، وإن كل من انحاز إلى الإيديولوجيات الكافرة، يجد نفسه عمليا، منحازا إلى صف أعداء الأمة الإسلامية في البداية والمآل. وتبقى الشعارات فارغة لا تغير من الأمر شيئا.
إني أرى الكاتب يعبر عن ذهول كبير من جراء الهزة الكبرى التي ارتجت لها أرض الإسلام، فسقطت أصنام كانت لها القداسة منذ حين، وارتدت الحياة ثوبا آخر، وأصبح الناس في عالم المسلمين يلهجون بأسماء اختفت من على ألسنتهم « في تاريخنا القريب » ويترنمون بترنيمات تجاوب معها الكون بأكمله وسرى الدفء في ثناياه، وهو يستعد ليوم الانفجار المشهود الذي تلفظ فيه الأصنام، بعد أن كان لها الأمر والسلطان.
إن القاموس الذي بدأ الناس يلفظونه ويتخلون عنه، لم يتعرض لهذا اللفظ إلا لأنه زائف، ولا يحتوي إلا على القضايا الفارغة، في مقابل القاموس الذي عاد إليه الناس بعد لحظات شرود ونسيان، لأنه يمثل جوهر الوجود الإنساني وما يحركه من آليات.
* الكاتب يختزل الإسلام في إجراءات محدودة: وإني لأعجب كل العجب لأمر الكاتب وهو يختزل الإسلام في إجراءات عقابية كالقطع والرجم والجلد والصلب، وهو موقف تعسفي غير علمي، لا يليق بالدكتور عزيز العظمة الذي لا أخاله يجهل شروط النقاش الموضوعي التي يتصدرها شرط المعالجة الشمولية التي تأخذ جميع أبعاد المسألة في الحسبان، وتضع كل عنصر من عناصر البنية في موضعه الصحيح، مع مراعاة وظيفته داخل البنية المعقدة المترابطة الأجزاء.
إن الذي يقرأ كلام الكاتب يجده مجانبا للحقيقة المتمثلة في أن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، لا يشكل النظام العقابي أو الجنائي فيه إلا أحد المكونات، يندمج في بنيته بصورة طبيعية متفاعلة، وإن فصل ذلك المكون من منظومته الشاملة يعتبر خطأ علميا فادحا وتلاعبا بالحقيقة.
* هل هناك تناقض بين التنمية الاجتماعية والشريعة الإسلامية؟ وإني بعد ذلك، أجد من المشروع أن أسائل الكاتب: على أي منطق أسس التناقض الذي أقامه بين « التنمية الاجتماعية » و »الحرية الشخصية » من جانب، وتطبيق الشريعة الإسلامية من جانب آخر؟
إن استنطاق تجارب التاريخ القديم والحديث ينبئان بأن التنمية الاجتماعية الحقيقة، والحرية في مفهومها الحق، لا تجدان وضعهما السليم إلا في ظل الشريعة الربانية، بفضل النظم الضابطة والبناء التربوي الذي يتيحه الإسلام لسلوك الأفراد والمؤسسات على حد سواء. لأن تلك النظم الضابطة والبناء التربوي الذي يسندها، هي وحدها – دون غيرها – الكفيلة بحشد الطاقات الإنسانية في المجتمع وحمايتها من الإهدار والاستنزاف اللذين لا مفر منها في حالة تحلل الأفراد والجماعات والمؤسسات من النظم الضابطة والمعايير المحكمة. فلو أننا قمنا بعملية تقويمية شاملة للخسائر الفادحة التي تكبدتها الإنسانية بسبب ما يشيع فيها من فساد خلقي ومن اختلال في موازين العدل، لوجدنا أنفسنا أمام حقائق رهيبة وأرقام صارخة تكشف لكل ذي عقل بأن الإنسانية، بعزوفها عن اتباع منهج الإسلام، لا تزال تفوت على نفسها فرصا عظيمة للتألق والتوازن والأمن والرخاء.
إن المجتمع البشري غدا اليوم، مسرحا رهيبا لعمليات القتل وسفك الدماء والنهب والسرقة، وانتهاك حرمات الناس وأعراضهم، حتى أصبح الناس يعيشون في ظل دوامة من الفوضى العارمة يغذيها سعار الشهوات الذي يتأجج ويشتعل كما النار في الهشيم، ويزيد من شراستها الاستعمال السلبي لما تفتق عنه عقل الإنسان من آليات وأجهزة. فأي الوضعين أكرم للإنسان وأجلب لسعادته، الوضع الذي ذكرت بعض ملامحه والذي يفقد فيه جدارته ومعنى حياته، أم الوضع الذي يحاط فيه بضوابط شرعية زاجرة، تتعامل مع التكوين العقدي الذي يصل الإنسان برباط الخشية والمراقبة الذاتية، والتي من شأنها أن توقف زحف الأشرار الذين غلبت عليهم شقوتهم وساقتهم أهواؤهم إلى ممارسات تهدد أمن المجتمع بأكمله، فيسلم للناس أرواحهم وعقولهم وأعراضهم وأمالهم، وتصفو لهم الحياة من الشوائب والأكدار.
وبصيغة أخرى مَن الأولى بالتضحية به، الفئة القليلة الباغية الشاذة التي تقض مضاجع الناس وتسلبهم طعم الراحة والاستقرار، أم المجتمع بجميع طاقاته ومدخراته؟! وهل يعقل إطلاق العنان للمجرمين المعتدين تحت غطاء الحرية الشخصية؟! إن هذا – لعمري – هو عين الانتحار. فالعقوبات التي وصفها الدكتور عزيز العظمة – هدانا الله وإياه إلى الصواب – بالبدائية والهمجية، هي إجراءات سامية تهدف إلى الدفاع عن الإنسان وحماية حقوقه من أن تهدر، وكرامته من أن تمرغ في التراب. فالأولى بالرحمة هو الإنسان السوي والمجتمع السوي، قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تاخذكم بهما رأفة في دين الله} (سورة النور الآية 2)، وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض} (سورة المائدة الآية 33)، وقال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} (سورة البقرة الآية: البقرة: 179
وقد لا يكون من المستغرب أن يتخيل كثير من منكري الإسلام والمتصدين لشريعته ، بلاد المسلمين ميدانا للجثث المتراكمة والأشلاء المنثورة، ومعقلا لجموع من المعوقين الذي قطعت أيديهم وأرجلهم، ليس غريبا أن تستحوذ على نفوس هؤلاء مثل هذه المشاهد الدرامية، لأنهم فضلا عن نظرتهم المبتورة التجزيئية إلى الإسلام، يظلون عاجزين عن إدراك مقاصد النظام الجنائي وفلسفته والتي تتمثل في جانب منها – في كونها قوة رادعة تحول دون اتساع رقعة الفساد، وتكبح جماح النفوس التي لا يروضها غير السلطان وما يكتسيه من بأس شديد.. وصفوة القول أن النظام الجنائي الإسلامي لا زال – ولن يزال – يمثل إعجازا تشريعيا لجميع النظم البشرية التي أثبتت عجزها الشامل وفشلها الذريع في إيقاف زحف الجريمة الذي راح يعصف بكل شيء ويأتي على الأخضر واليابس، وهو يؤدي لا محالة إلى تحول الحياة الإنسانية إلى جحيم لا يطاق.
* هل الحجاب مظهر من مظاهر التخلف؟:

أما حكم الكاتب على الحجاب بأنه مظهر من مظاهر التخلف الاجتماعي، فهو حكم لا يقف على أساس معقول وإلا لمثلت نساء إفريقيا السوداء قمة التقدم، لا لشيء إلا لكون أكبر حيز من أجسادهن يظل مكشوفا للعيان. إن الحجاب – على عكس ما يزعمه الدكتور العظمة، يمثل معلما من معالم الحضارة الراقية التي تتميز باحترام الإنسان وتكريمه، في شقيه: الرجل والمرأة، على أساس الجوهر الذي يمثله، لا على أساس الأعراض الفانية التي لا تغني الحياة في شيء، في غياب الجوهر الناصع. وتجريد المرأة من حجابها لا يعتبر من الحرية في شيء، لأن الحرية جوهر لا ينفك عن الأخلاق.
وتعرية المرأة باسم الحرية مغالطة كبرى تهدف في نهاة المطاف إلى اختزال كيان المرأة في جسدها وما يحمله من مفاتن محدودة الأبعاد. أي أن هذا السلوك يضع حدا للمرأة ككيان عميق، يختزن أسرارا تتصل بحقيقة الوجود.
* النزعة التحريضية عند الكاتب: ينعى الكاتب على الأنظمة الوطنية في الفترة الحديثة – خصوصا مصر – جنوحها إلى محاباة الرجعية الاجتماعية والدينية، ويبرر ذلك بقوله: « فلم يشهد تاريخ مصر الحديث نظاما دعم المؤسسة الأزهرية وعضدها واستثار شهوتها للسلطة بقدر نظام جمال عبد الناصر » (ص 5) ويرجع الكاتب السبب في ذلك إلى (الانقطاع عن الفكر التنويري والتراث الليبرالي). إن التاريخ المعاصر شاهد على محاولات المسخ والتدجين التي استهدفت مؤسسة جامع الأزهر والنيل من هيبتها، وشاهد على المجازر الرهيبة التي أقيمت لأبناء الحركة الإسلامية، والمشانق التي أعدت لرموزها في مصر في عهد عبد الناصر. فلا أدري كيف أغفل الكاتب تلك المحن المريرة التي سلطت على دعاة الإسلام في عهد عبد الناصر. ويمضي صاحب المقال في هذا السياق، فيبدي تأسفه الشديد على الفترة البورقيبية لكونها قد غمطت حقها – في زعمه – ولم تعط الاهتمام الذي تستحقه. يقول: « ولم تستطع الحقبة الوطنية أن ترى في التجربة البورقيبية إلا الوجه الموالي للغرب والمنتقص من أهمية القضية الفلسطينية، مع أن هذه التجربة كانت دون شك أهم تجربة في تاريخ العرب الحديث، لإعطاء الرقي الاجتماعي والعقلي والأخلاقي موقع الصدارة من المشروع التاريخي »! (ص 6).
إن مما توحي به هذه الفترة، أن الولاء للغرب والانتقاص من أهمية القضية الفلسطينية، لا يعدان جرما يذكر، إذا كان مقترفها يتصف ببعض الصفات التي تناسب هوى الكاتب، فيكفي بورقيبة فخرا أن تجربته كانت « أهم تجربة في تاريخ العرب الحديث لإعطاء الرقي الاجتماعي والعقلي والأخلاقي موقع الصدارة من المشروع التاريخي ».
إن القارئ العادي لا يملك إلا أن يتساءل عن الرقي الاجتماعي والعقلي والأخلاقي الذي يمكن أن يتحقق في ظل الارتباط بعجلة الاستعمار، والدينونة له بالولاء، وفي ظل الاغتصاب اليهودي لفلسطين الذي أريد له أن يكون عامل استنزاف في قلب العالم الإسلامي، يعوقه عن النهوض.
ثم إن القارئ يجد نفسه مدفوعا إلى التساؤل أيضا عن مقصود الكاتب بمفهوم الرقي الاجتماعي والعقلي والأخلاقي، ولكن سرعان ما يطالعه الجواب الشافي في الميدان، بمجرد أن يطلع على المناخ الثقافي والأخلاقي الذي غلف المجتمع التونسي خلال الفترة البورقيبية، إنه مناخ يتسم بالعلمانية والدعوة إلى الانسلاخ من قيم الإسلام والتجرؤ على نقض الصيام والدعوى إلى الإفطار في رمضان بدعوى المحافظة على الإنتاج.. فالرقي العقلي إذن هو التحرر من قيم الإسلام، والرقي الأخلاقي هو التفلت من ضوابط الشرع، بمعنى التخلي عن فضائل الأخلاق ومكارمها، لأنها تخلف ورجعية، وهذا هو بالفعل ما استطاعت التجربة البورقيبية أن تذهب فيه أشواطا بعيدة.
* غربة الكاتب عن الواقع دفعته إلى النزعة الإسقاطية: وفي سياق حديث الكاتب عن العلمانية يحددها بأنها: « ليست (…) شعارا سياسيا إلا فيما ندر، وهي في الوقع الغالب مساوقة ضمنية لحركة المجتمع والفكر التي نحت عن أرباب الوظائف الدينية، وبالتالي عن المرجعية الدينية موقع محور التشريع والقضاء والتعليم، وآلت بهؤلاء إلى مواقع عبادية في المصاف الأول وفي المآل الأخير، ولو بقي بين هذا وذاك هامش حركة اجتماعية وفكرية ليست بالقليلة ولا بالواهية » (ص 7-8).
والحق أن الكاتب وهو يرسم معالم تعريف العلمانية لم يكن بصدد الحديث عن معطيات الواقع في المجتمعات الإسلامية، وإنما كان واضعا نصب عينيه معطيات الواقع الغربي وتحولاته التي ارتبطت بالفصام النكد الذي تسببت فيه الكنيسة بجموحها في الباطل وطغيانها وتسلطها على مقاليد الحياة وحركة الفكر، ودفعها للتحجر والاختناق، والحال أن تلك التحولات النكدة لا يمكن أن تقاس عليها حركية المجتمع الإسلامي بما فيها حركة الفكر التي لم تعرف ازدهارا وانطلاقا مثلما عرفته في العهود الإسلامية الزاهرة. وعليه، فإن العلمانية في العالم الإسلامي، لم تكن مساوقة ضمنية لحركة المجتمع والفكر، وإنما هي نبتة شيطانية مقيتة فرضت قسرا على تربة المجتمع الإسلامي، ولما لم تقبلها هذه التربة، راح تلامذة الاستعمار وخدامه ينشرون ثمار تلك النبتة في شكل أقراص تخديرية يمتد مفعولها إلى حين. وهكذا كانت قطيعة المجتمع الإسلامي مع المؤسسات الإسلامية ومنظومة القيم الإسلامية، نتاجا مسموما لسلسلة ممنهجة من الشروخ التي أحدثت في نمط الحياة الإسلامية بجميع ميادينها ومستوياتها، في التعليم، وفي القضاء، وفي الاقتصاد، وفي العلاقات والآداب التي تطبع شخصية الأفراد في المجتمع الإسلامي. ولقد أشار الكاتب إلى هذه الحقيقة ضمنيا، ولكن في سياق من التحسر والتأسف على كون الاندماج في قوالب الحداثة لم يتم بصورة طبيعية. يقول: « كانت الحداثة ومؤسساتها وفكرها إذن فعل ضرب في حياتنا العربية، ولقد حق لنا في ضوء هذا كله أن نرى في تاريخنا الحديث انقطاعا بالغ الأهمية مع الماضي، وخصوصا على صعيد الثقافة والفكر اللذين تحولا من موقع إلى موقع، وتحول حاملها من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة.
ذلك أن حداثتنا، أو الأثر الحداثي علينا، لم يكن شأنا سطحيا طال هوامش المجتمع، فقد كان إلحاق تاريخنا بتاريخ غيرنا عبر علاقة سيطرة، ودمجه على صورة غير متكافئة في مسيرة تاريخ عالمي لا انفكاك عنه، أمرا تطلب الاختراق والاستتباع والتفتيت والتهميش والدمج، دون إعادة التشكيل على صورة تامة، وهذا الأمر – أي الموقع البرزخي من التاريخ الذي نحتله/ فلسنا في ماضينا، ولسنا كليا في معاصرة مع غيرنا – يفسر هذا الأمر يوتوبيا النكوص التي تدعو إليها القوى السياسية الإسلامية » (ص 9).
إن هذا الكلام ينطبق عليه تماما معنى المثل العربي القائل: « رمتني بدائها وانسلت » فالصواب المجسد لمنطق التاريخ وسنن الاجتماع، هو أن هذا الأمر الذي تحدث عنه الكاتب – أي « الموقع البرزخي » والانحباس في وضع لا هو بالمعاصرة ولا هو باسترجاع الماضي – يفسر يوتوبيا التعسف – إذا صح التعبير – والتجني الفظيع الذي اقترفه الاستعمار في حق بنيات المجتمع الإسلامي حيث عمل على إيقاف العمل الطبيعي لتلك البنيات، عن طريق زرع مفاهيم وأنماط غريبة داخلها ودفعِها عنوة لتتحرك داخل فلك الاستعمار. وهذه الحقيقة عبر عنها الأستاذ منير شفيق بقوله: « إن السير على طريق التغرب (التفرنج) في أي مجال من المجالات يعني الدوران في فلك التبعية، وكلما قبلنا أن ندور دورة زدنا انشدادا إلى مركز الدوران في فلك التبعية، وكلما قبلنا أن ندور دورة زدنا انشدادا إلى مركز الطاغوت، أو بعبارة أخرى، إن الأخذ بالمنهج الحياتي، والأنماط المجتمعية والاقتصادية والثقافية والعقدية والفكرية في بلاد الذين اجتاحوا ديارنا، لن يؤدي إلا الخلاص منهم أو اتقاء شرهم أو اللحاق بهم والتفوق عليهم، وإنما إلى المزيد من العجز والتشرذم والانحلال وفقدان القدرة والاتجاه »( ).
فالمعاصرة التي يبكي الكاتب فواتها مجتمع المسلمين، لا يمكن على الإطلاق أن تحدث داخل طاحونة التبعية، فلا بد لها من أن تقع داخل الذات وتنبثق من قوانينها وخصوصياتها.
ويعمد الكاتب إلى استعراض مظاهر العلمنة قائلا بأنها حصلت « عندما استبدلنا الفقهاء بالمحامين والشيوخ الملتحين المجلببين بالأساتذة المطربشين حاسري الرؤوس، وقضاة الشرع بالأفندية من القضاة المدنيين، وعندما اعتمدنا أساسا لحياتنا العقلية معارف العلم الطبيعي والتاريخ والجغرافيا بدلا من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم وانقلاب العصا أفاع واستحالة النار بردا وسلاما، وإلى العلم بياجوج وعذاب القبر وأحكام النفاس وموضع جيل قاف والتداوي بالرقى والطلاسم والأسماء الحسنى » (ص 8).
إن الدكتور عزيز العظمة يضعنا هنا أمام صورتين يجعل إحداهما صنو التخلف والبعد عن الواقع وعن المعرفة العلمية المرتبطة بعالم الحس، ويجعل الأخرى ذات ألوان « زاهية » قرينة للعصرنة والتقدم العلمي. والواقع أن هذه اللوحة التي قدمها الكاتب تحتاج إلى تمييز خيوطها وتحديد فحوى خطابها.
إن انقلاب العصا أفاع (والصحيح – التزاما بالأمانة – انقلاب العصا حية تسعى) واستحالة النار بردا وسلاما، والأسماء الحسنى، كلها أمور علمية، وليست من قبيل الخرافات التي ينكره العقل ويحكم باستحالة.
والإنسان المسلم يستطيع إثبات القضايا، كلها بحسب ما يناسبه من المناهج. والقاعدة التي تجمل هذه الحقيقة حصرها العلماء في قولها: « إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل »( ). فقضية قلب العصا حية تسعى تمثل حقيقة دامغة، لأنها وردت في القرآن الكريم الذي ثبت بالتواتر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يجسر ألد أعدائه من صناديد قريش أن ينعتوه بالكذب، وانصرفوا عن ذلك إلى وصفه بالكهانة والجنون والشعر، بل إنهم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، لأنهم لم يجربوا عليه كذبا قط. وإلى جانب كون هاتين القضيتين تتوفر فيهما صفة اليقين المنبثقة من صحة النقل، فإن العقل – كما سبقت الإشارة، لا ينكرهما، لأنهما من قبيل المعجزات التي هي خارقة للعادة والعقل. فليس هناك ما يحيل عقلا أن تتحول العصا حية تسعى ولا النار بردا وسلاما. وعقدة المسألة هنا إنما تكمن في الأساس التصوري الذي يصدر منه المصدقون لهذه القضايا أو الجاحدون لها. فالإيمان برب متصف بجميع صفات الكمال، منزه عن أي نقص أو قصور، يستوجب لا محالة التصديق بأي أمر خارق للعادة، لأنه واقع تحت طائلة قدرة الله عز وجل التي لا يند عنها أي شيء. فالله عز وجل الذي خلق مادة العصا التي تتكون من ذرات، وكانت في أصلها تموج بالحياة، قادر على أن يعيد لها الحياة في صورة حيوانية، وقد كانت من قبل في صورة نباتية. فالله هو واهب الحياة ومالك سرها، يزرعها متى شاء حيث شاء، ويسلبها متى شاء مما يشاء، الأشياء كلها أوعية من خلقه يودعها ما يشاء من خصائص وصفات. فخاصية الإحراق أودعها الله تعالى النار، ولكن الله عندما اقتضت مشيئته وحكمته أن يسلبها إياها، فعله كأمر خارق معجز، استثنائي لتأييد نبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. وتبقى السنن والنواميس مضطردة، على وجه العادة ليكون ذلك مفتاحا للتعامل مع ظواهر الطبيعة التي سخر الله مكوناتها للإنسان لتكون مادة لعمارة الكون وترقية الحياة.
أما أسماء الله الحسنى، فإن الإنسان المؤمن بوجود الله خالقا لهذا الكون ومدبرا لشؤونه، تنفتح بصيرته لإدراكها متجلية في الآفاق والأنفس بكل عمق وجلاء. فكل الكائنات تنطق بتلك الأسماء. فإذا أخذنا على سبيل التمثيل أحد تلك الأسماء: القهار، وجدنا أنه « كما يقول بعض العارفين، هو الذي قهر الكفار بظهور آياته، وقهر المعاندين بظهور بيناته، وقهر قلوب أحبابه على العكوف ببابه، فأنسوا بجنابه، قهر الروح وهي نور، فسخرها للجسم وهو ظلام، قهر العناصر، فآلف بين الحار والبارد والرطب واليابس، قهر العباد للموت {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} قهر الملائكة بالسجود لآدم وهو من الطين، قهر الإنسان بالجوع والأمراض »، حتى يذل لرب العالمين، قهر جميع الحقائق حتى تفرد بالعزة الشامخة، قهر الإنسان بالنوم على رغم نفسه، ولولا تجليه بالقهر ما خضعت النفوس »( ).
إنني أستغرب أن يعتبر الكاتب المعجزات في عداد الخرافات، في عصر تجمعت فيه كثير من المعطيات والحقائق العلمية التي أحدثت قطيعة مع مجموعة من المفاهيم الساذجة التي كانت تحكم نظرة الإنسان للعلم والظواهر العلمية. ألم تعصف رياح الثورات العلمية بعد جاليلي ونيوتن بكثير مما كان يعد من قبيل المسلمات الثابتة التي لا تتزحزح؟ من ذلك مفهوم الحتمية الذي استعيض عنه بمفهوم الاحتمال الذي يشمله – فيما يشمله – قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}( ). كما أن الأزمات العلمية قد أودت بالنزعة الحسية التي ظلت تشكل عند علماء الغرب الماديين مقياسا أو حد للحقيقة. لقد أصبح العلماء بعد هايزنبرغ وماكس وبلانك – وما قام في عهدهما من أبحاث في ميدان الميكروفيزياء -microphysique- أصبحوا لا يشترطون المعاينة الحسية – في جميع الأحوال – لرصد الظواهر العلمية والاعتراف بوجودها، لأنها يتعاملون مع كائنات أخرى لا ترى، لتناهيها في الدقة، ومع ذلك فهم على يقين جازما بوجودها، وذلك بفضل آثارها. ومن النتائج العظيمة التي تخلفت عن ذلك، التقاء اليقين العلمي باليقين الديني في مقولة: « دلالة الأثر على المؤثر » فالكون بظواهره ونظامه مرآة تتجلى فيها الحقيقة الكونية الكبرى: وجود الخالق الأعظم الذي أبدع هذا الكون وبث فيه سننه – وقوانينه التي يتحكم فيها ويتصرف فيها متى شاء بالخرق، كما سبقت الإشارة.
وهناك حقيقة أخرى بودي أن أذكر بها الكاتب – وما أظنه ينكرها – هي أن الشروط الحضارية التي ارتفع في ظلها صرح النهضة العلمية على يد المسلمين، إنما كانت من صنع الإسلام الذي قدح زناد العقل العربي وغير العربي وبعثه من مرقده وبث فيه طاقة هائلة للإنتاج والابتكار، مما أخده الغرب وأسس عليه نهضته.
* عودة إلى النزعة الإسقاطية (المركزية الأوربية): إن القارئ وهو يتأمل المفاهيم والأفكار التي تضمنها المقال (المحاضرة) يتبين له أن كثيرا منها واقع تحت سلطان النزعة المركزية الأوربية التي ترجع كل شيء للغرب، وتحاكم تاريخ الإسلام وفكره في ضوء مفاهيم الغرب عن الكون والإنسان والحياة. وهذه الآلية بالضبط هي التي دفعته إلى استعمال مصطلحات مفتعلة مثل « الإسلام السياسي » الذي يقصد به موقف الإسلام من سياسة المجتمع وعلاقة الحاكم بالمحكوم، مع ملاحظة أن العلمانيين يعتبرون ذلك الموقف غريبا عن طبيعة الإسلام كدين – ينبغي من منظورهم أن يبقى حبيس الشعائر التعبدية -، أما حركة الحياة وقضايا الناس في معترك الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فلا شأن للدين بها في منظورهم. وإذا كان دعاة الإسلام في العصر الحديث قد صاغوا نظرية في السياسة، تتسم بالكونية والشمولية، فإن أسسها وجذورها لا بد أن ترجع إلى أصول أوربية وغيرها. يقول الكاتب: « ولعل أبلغ الدلائل على هذا الانقلاب التاريخي القاطع للصلة الفعلية – أي الوهمية – مع الماضي، اعتماد الإسلام السياسي نفسه على قوالب إيديولوجية كونية حديثة بل حداثية عالمية أوربية المنشأ، تشبع بها من حياتنا الفكرية والسياسية على مساجلة اليسار، كلها تشبع بعض أفكاره (وكذا) لو ظن منظرو الإسلام السياسي أن أمرهم يعود إلى أصول الدين، لا إلى أصول السياسة في واقع التاريخ – ولكن الإحالات إلى النصوص الدينية التأسيسية وعباراتها وقصصها ليست إلا إحالات رمزية » (ص 10).
واضحة إذن آثار النزعة المركزية الأوربية التي جعلت الكاتب يسقط مفهوم الدين الكنسي على الدين الإسلامي، وهو أمر يخالف الحقيقة جملة وتفصيلا. إن الدكتور عزيز العظمة يذهب في مقالته هذه إلى أن الإسلام قد اعتمد على قوالب إيديولوجية كونية حديثة أوروبية المنشأ أخذها بطريقة غير مباشرة من خلال سجاله مع اليسار صاحب اليد الطولى والغنى النظري والتجربة العلمية في هذا المجال. وأنا أطالب الكاتب بالرجوع الصادق إلى مصادر الإسلام، ليتأكد من الطابع الكوني لرسالة الإسلام الذي خاطب الله رسوله بقوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشريا ونذيرا} (الآية 28 م سورة سبأ)، وليتأكد بأن دولة الإسلام تأسست وقامت منذ الوهلة الأولى التي نزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أرض المدينة المنورة. ومن يومها والسياسة الشرعية تبسط نفوذها على كل شأن من شؤون الحياة، سياسيا كان أم اقتصاديا أم عسكريا أم جنائيا. ويدخل في باب الشأن السياسي، السياسة الخارجية التي تنظم العلاقات بين الدولة الإسلامية وبين الدول الأخرى. ويعلم العالمون بحقائق الحضارات والأديان أن الدولة الإسلامية منذ انطلاقتها الأولى، قامت على أساس كوني عالمي، ولولا ذلك ما خرجت بفتوحاتها إلى أرجاء العالم، ولا بسطت أجنحتها عليه.
وإمعانا في ربط البعد السياسي لدى الحركة الإسلامية بعوامل خارج المذهبية الإسلامية، يصف الكاتب فهم « الإسلام السياسي » للمجتمع واصفا إياه بأنه « مجرد محاكاة لبعض ما جاء لدى الفكر القومي العربي وفكر مصر الفتاة والفكر القومي السوري، من اعتبار المجتمع كأنه رابطة عضوية متجانسة لا تمايزات داخلية فعلية فيها تطال وحدة وجهته أو وحدة إرادته، اللهم إلا ما أحدثته فيها تلبيسات الإفرنجة الملاعين، ذلك أن أية تمايزات لا تتبدى في هذا الفهم إلا وكأنها نتوءات خارجة عن سوية مجتمعنا الإسلامي وسجيته، وأن أية تحديدات داخلية تؤول في هذا الاعتبار ليس إلى عمليات اجتماعية وتاريخية بالغة التعقيد، بل إن مجرد الخروج على هذه السوية والسجية التي يعرفها أصحابها على أنها موافقتهم على أهوائهم الدينية السياسية والاجتماعية » (ص 10).
فإذا كان الإسلام (الإسلام السياسي) – في نظر الكاتب – قد اقتبس نزعته الكونية العالمية من أوروبا، فإنه اقتبس نظرته للمجتمع كرابطة عضوية متجانسة من الفكر القومي العربي في مختلف اتجاهاته وتلويناته. لقد صمم الكاتب العزم على أن يعرض الإسلام مجردا من أي خاصية إلا الخاصية التعبدية، حتى إذا رأى الناس الإسلام يقتحم مجالات الحياة ويخوض معاركها، ويشارك في الصراع السياسي، كان عليهم – حسب منطق الكاتب – أن يبحثوا عن جذور ذلك خارج الإسلام.
والكاتب في حقيقة أمره لم يخرج في منهجه، عن الأسلوب الاستشراقي الذي يجعل الوكد في بحثه، إرجاع مكونات الإسلام إلى اليهودية والنصرانية، وذلك ضمن عملية ماكرة لاستغفال الناس والإيحاء إليهم بأن الأمر يتعلق بديانة أرضية خاضعة للتشكيل والتأليف والتركيب من قبل البشر على غرار ما فعله اليهود بدينهم الذي تناولوه بيد التحريف والتبديل، ليشتروا به ثمنا قليلا.
وأعود إلى زعم الكاتب بأن نظرة الإسلام إلى المجتمع موحدة عضوية متجانسة، يعتبر فيها عالة على الفكر القومي، فأقول بأنه دليل آخر على أن صاحب المقال يقدم أحكامه ويطلقها في غياب الرجوع إلى نصوص الإسلام واستنطاق مقاصدها. ولو أنه فعل ذلك لوجد أن القرآن الكريم يقرر من جملة حقائقه أن المؤمنين يرتبطون برباط الأخوة {إنما المؤمنون إخوة} (سورة الحجرات الآية 10) ولوجد أن السنّة النبوية الشريفة تصور تضامن المؤمنين وتماسكهم في صورة البنيان المرصوص وفي صورة الجسد الواحد الذي تتآلف أعضاؤه وأجهزته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »( ).
إذا عرفنا ذلك، تبين لنا أن التجانس والتضامن في حياة المسلمين هما الأصل والقاعدة، وهما الوضع الطبيعي الذي يجسد روح الإسلام دين الوحدانية والتوحيد. أما التشتت والتشرذم فهما يشكلان الشذوذ والاستثناء المخالف لفلسفة الإسلام ومقاصده. والخروج عن الوحدة والتجانس لا يقع في الواقع إلا بفعل عوامل دخيلة من بينها « تلبيسات الإفرنجة الملاعين » التي أورد الكاتب الحديث عنها في صيغة تهكمية وإن كانت تمثل واقعا قائما بالفعل.
والجدير بالذكر هنا أن « تلبيسات الإفرنجة الملاعين » لا تؤتي أكلها الشيطاني إلا عبر المطايا الطيعة التي يصنعونها على أعينهم ويتعهدونها بالرعاية والتوجيه. ومن جملة هؤلاء حملة الفكر القومي الذين كانوا عامل شرخ وتمزيق لجسد الأمة الإسلامية الواحد.
ثم ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى تناول فهم « الإسلام السياسي » للتاريخ، ويصفه بالثبات والتحجر « وكأن تاريخ الشعوب ليس تاريخا طبيعيا لفصائل من المخلوقات المنتمية إلى عالم الحيوان الوحشية الانغلاق على الذات، العصية على التحول والتقدم، القائمة على الغريزة والفطرة دون العقل » (ص 10). ويمضي في سياق نقده لفهم الإسلام للتاريخ، رابطا إياه بمفهوم الأصالة، على اعتبار أنه يمثل الجمود والثبات على أساس أنه مفهوم مستعار من عالم البهائم، ومن ثم فهو دال على مبدئه على أنساب شريف الخيل كما يقول ويخلص إلى أن هذا المنظور يصور المسلمين كجماعة « ذات خصائص ثابتة عصية على التطور النوعي، لم يحولها التاريخ بأي معنى فعلي » (ص 10). ولو أعطى الدكتور عزيز العظمة المسألة حقها من البحث والاستقصاء، لعلم أن مفهوم الإسلام للتاريخ يقوم على أساس الاعتقاد بوجود سنن ونواميس ثابتة، وأن الحضارات الإنسانية تقوم وتنهار بموجب تلك القوانين والسنن، وأن الأصالة ليست مرادفا للتحجر. وإذا كانت الأمة الإسلامية تحمل خصائص ثابتة، فإن كيانها الوجودي قد صيغ وشكل ضمن خصائص المنهج الإسلامي الذي يجسد الحق الذي يتميز بالثبات. غير أن ثبات المقومات العقيدية والمنهجية التي تصاغ في قالبها الشخصية الإسلامية، لا يعني ثبات أو جمود الجماعة الإسلامية، إذ الحقيقة التي يؤكدها التاريخ وتجارب الأمة الإسلامية، هي أن هذه الأمة ظلت تتطور داخل ثوابت المنهج الإسلامي، وتألقت في سماء الحضارات وقدمت عطاء وافرا للبشرية في شتى مجالات الإبداع العلمي والفكري.
ومن جهة أخرى، فإن تفسير الكاتب لمفهوم الأصالة في ضوء « أصالة الخيل » وإن كان يريد به الحط والتنقيص من شأن موقف الإسلام من التاريخ، ومن شأن الوجود السياسي والحضاري للأمة المسلمة، فإن مفهوم الأصالة حتى وإن فهمناه في ضوء هذا التشبيه يعتبر فخرا لأمة المفروض فيها أن تحافظ على استقلالها الحضاري وصفائها الثقافي وخلوص دمائها من أي تلوث وتهجين، وأن تحافظ – من ثم – على قدرتها على مقاومة أية محاولة تستهدف تخليط نسبها العقدي والحضاري وإضعاف ولائها للإسلام وثوابته ومقوماته.
* موقف الكاتب من فهم الإسلام للعمل السياسي: يصف الكاتب فهم الإسلامي السياسي للعمل السياسي بأنه « فهم انقلابي يعقوبي (كذا) يعتمد على تغليب الإرادة على التاريخ والعنف على الإقناع وعلى التاريخ الثابت والمجتمع المتجانس منشأ طبيعيا للسلطة الإسلامي أو للسلطة القائمة باسم الإسلام، التي ستنبثق عضويا، وبالطبع عن الكائن اللاتاريخي المسمى جامعة المسلمين » (ص 11).

وبعد فروغه من عملية الوصف، يستعمل قدرته « الخارقة » على التنظير ورصد الأشباه والنظائر ليتوصل إلى أن الخطاب السياسي الإسلامي هو « القرين الإيديولوجي لكل الحركات الشعوبية » ويأتي بأمثلة من تلك الحركات، من قبيل الحركة النارودية في روسيا والقوميتين الألمانية والإيطالية في القرن العشرين (…) وبعض ما ظهر على فكر القومية العربية من التصورات الفاشية » (ص 11). وحتى يظهر الكاتب بمظهر الموضوعي الذي يتحرى الدقة يؤكد على عدم ذهابه إلى أن الخط الناظم لإيديولوجية الإسلام السياسي لا تخرج عما حكم مسيرة الأفكار السياسية والاجتماعية والإيديولوجية المتداولة في الديار العربية المشكلة لثقافتنا السياسية الناظمة لنسيج تصورنا للعالم عن طريق نظم التربية ونظم الخطاب السياسي والفكري بل والأدبي » (ص 11). ثم يعود ليقول بأن هذه الأنماط الفكرية وإن كانت ذات منشأ غربي فإنها قد « شكلت أصل حياتنا السياسية (…) وخطابنا السياسي المعاصر » (ص 12) ومآخذة الكاتب لا تنصب على هذا الارتباط بالمنشأ الغربي بقدر ما تنصب على كونه لا يستلهم الأصول التاريخية البعيدة في أوربا، مما جعل إعادة إنتاج تلك الأنماط الفكرية تتخذ « صورة بائسة متخلفة » (ص 12). ثم يسعى الكاتب إلى تعميق تحليله، فيضع يده على معطيات تاريخية دقيقة! قال بأن تلك الأنماط ذات الطابع العالمي (الكوني) دخلت إلى مجال حياتنا – كما عند غيرها من الأمم – « تحت تأثير نموذج الدولة النابليونية، وتصدير الأفكار السياسية الفرنسية عالميا في القرن التاسع عشر، فجمعت الدنيا إيديولوجيا كما تم جمعها اقتصاديا تحت هيمنة الرأسمالية الأوربية » (ص 12) وينتهي الكاتب إلى خلاصة لكلامه تكمن في أن « دخولنا في العلمانية كان دخولا ضمنيا وطبيعيا، وأن من مظاهر هذا الدخول علمانية الأفكار التي تشكل لب السياسة والمجتمع والتاريخ لدى الإسلام السياسي » (ص 12).
وأعود لأسلط بعض الأضواء النقدية على هذه الفقرات:
– يصف الكاتب فهم الإسلام « السياسي » للعمل السياسي بأنه « انقلاب يعقوبي يعتمد على تغليب الإرادة على التاريخ والعنف على الإقناع » وهذا الكلام يكشف عن تجاهل لحقيقة التاريخ وعلاقته بالإرادة الإنسانية التي هي بمثابة الروح السارية في التاريخ، مع العلم أن هذه الإرادة الإنسانية تسبح في فلك الإرادة الإلهية التي تهيمن على الكون. فحركة التاريخ تقوم على سنن مضطردة، مرتبطة بإرادة الإنسان مصداقا لقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (سورة الرعد الآية 11). ولكن يبدو أن الكاتب لا يزال واقعا تحت التصور الماركسي القائل بأن حركة التاريخ رهينة بالتناقض والصراع بين قوى الإنتاج على حساب إرادة الإنتاج على حساب إرادة الإنسان التي تعصف بها قوى التناقض. وهذا التصور كذبته شواهد التاريخ القديم والمعاصر على حد سواء.
أما زعم الكاتب بتغليب الإسلام العنف على الإقناع، فهذا أيضا مخالف للحقيقة، وهو افتئات على التاريخ. فلم يعرف التاريخ دينا أعطت حضارته أمثلة رائعة في التسامح مع الشعوب والعقائد التي شملتها فتوحاته، مثل الإسلام الذي لم يلجأ إلى القوة (العنف) أي الجهاد واستعمال السيف إلا للدفاع عن حرية الشعوب في أن تعتنق ما تشاء بعد معرفتها للحق الذي يمثلها الإسلام.

ويقول الكاتب عن الخطاب السياسي الإسلامي بأنه هو « القرين الإيديولوجي لكل الحركات الشعوبية ». إن هذا الكلام يكتنفه الغموض، لأنه لم يوضح لنا أوجه الشبه بين الخطاب السياسي الإسلامي وبين الحركات التي ساقها كأمثلة.
وينضاف إلى غموض هذا الكلام تضارب أجزائه وتناقضها، إذ أن الكاتب ينفي عن نفسه الاعتقاد بأن الخط الناظم لإيديولوجية الإسلام السياسي مستورد من الغرب أو مستوحى منه، ويؤكد أن تلك الإيديولوجية « لا تخرج عن مسيرة الأفكار المتداولة في الديار العربية » ثم سرعان ما يعود لينقض هذه الفكرة بقوله « إن هذه الأنماط الفكرية وإن كانت ذات منشأ عربي، فقد شكلت أصل حياتنا ». والذي فهم من هذا الكلام المضطرب ثلاث أمور:
أولا: أن هذه الأفكار المتداولة في العالم العربي ذات منشأ غربي.
ثانيها: إثبات ما نفاه بطريقة ضمنية بالنسبة للخطاب السياسي الإسلامي.
ثالثها: يتمثل في أن الكاتب يطلع علينا بطريقة مبتكرة في عالم الاستدلال وصياغة القضايا، فهو يقول عن الأنماط الفكرية بأنها وإنا كانت ذات منشأ غربي فإنها قد: « شكلت أصل حياتنا السياسية وخطابنا السياسي المعاصر ». إن هذه الطريقة في صياغة القضايا، هي عبارة عن إقرار الأمر الواقع، وإذا نحن سرنا بمقتضى منطقها، فإن كل من أراد منا أن يدافع عن وضع قائم، فإنه سيقول بأن صلاحيته تقوم على كونه أمرا واقعا ومندمجا في صميم الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الجنائية أو الثقافية الخ. بمعنى أن هذه الطريقة « العجيبة » سوف تعطي مبررا كافيا للكسالى والمتقاعسين الذين يرغبون في إبقاء ما كان على ما كان. إنها فلسفة للخذلان والعزوف عن التغيير.

فالتيار الغربي – على سبيل المثال – الذي يسعى منذ زمان لاقتلاعنا من جذورنا وطمس معالم هويتنا، يشفع له أنه يشكل أصل حياة ومعيار سلوك الكثيرين منا داخل المجتمعات الإسلامية.
وبعد المراوحة التي وقع فيها الكاتب وتأرجحه بين المتناقضات، يبدو لحظة وكأنه قد عثر على ضالته المنشودة في تفسير الظاهرة التي هو بصددها، وهي « ظاهرة الإسلامي السياسي ». وهذه الضالة المنشودة قد تجسدت في نموذج الدولة النابليونية وتصدير الأفكار السياسية الفرنسية عالميا في القرن 19، إنه لمنطق غاية في الغرابة: الإسلام الذي نزل واكتمل منهجه بتمام الرسالة الإلهية الخاتمة، يقتفي – في نظر الكاتب – خطى النموذج النابليوني ويأخذ من معينه!، وكأن الأمر يتعلق بمذهب بشري يحتاج ليسد نقائصه وثغراته بما عند غيره من المذاهب، وليس بدين سماوي صادر من لدن عالم الغيب والشهادة الموصوف بجميع صفات الكمال، المنزه عن كل نقص واحتياج!
خاتمة:
وبعد، فهذه أبرز الأفكار والأطروحات التي وردت في محاضرة الدكتور عزيز العظمة، وقد أخضعتها للنقد والتحليل الموضوعيين _ فيما أعتقد – وأرجو أن يكون ذلك موضع تأمل واعتبار من طرف الدكتور عسى أن تكون حافزا على مراجعة أفكاره ابتغاء للحقيقة التي ينشدها المخلصون ويفر منها المعاندون.
والله الموفق للصواب
وجدة (المغرب) في 8 ذو القعدة 1414
موافق 19/04/1994
ملحوظة: أرسل هذا الرد إلى مجلة: » دراسات عربية » في إبانه وقوبل بالإقصاء.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. abderrahim_smc@hotmail.com
    04/03/2009 at 00:04

    إن الباحث المتأمل يجد أن ليس ثمة خطر يتهدد العروبة من الإسلام، وأن ليس ثمة خطر يتهدد الإسلام من العروبة، فهل ثمة خصومة بين الإسلام والعروبة؟ أم بين عقلية الإسلاميين والقوميين؟ وإذا كان فهم الشيء فرعا من تصوره، فلماذا يهتم البعض بأقاويل تطلق من هنا أو من هناك دون البحث عن جذور التصورات؟ ولم يغيب الحوار- المثمر- بين الإسلام والعروبة؟

    لا فهم بلا تصور صحيح ومن ثم شاب تناول الحوار بين الإسلاميين وبين القوميين ما شابه من صراعات أو خصومات فى جبهتنا الداخلية كان من السهل أن يحدث تقارب ما بينهما إذا وقف كل طرف على أرضية مشتركة وفهم أعمق لما يدعو إليه الآخر…ولو أن الفريقين أحسنا الظن ببعضهما لما نشب بينهما اختلاف لكنه سوء الظن وغياب الحوار الفاعل، واستدعاء خصومة الماضى، والتركيز على مواطن الاختلاف بدلا من الالتفاف حول مناطق الاتفاق….ولو أن دعاة العقلانية من كل فريق وحدوا جبهتنا الداخلية لكان خيرا لنا وأقوم.

    ويحسن بنا أن نضع تعريفا ومنهاجا مختصرا لكل…ويمكننا أن نتبنى تعريفا- وصفيا- مبسطا للعروبة كما يلي: إنما العروبة انتماء للأمة العربية التى تتسم بعدة خصائص مشتركة منها اللسان العربي، والتاريخ المشترك، والمصير المشترك فضلا عن بعض السمات الفكرية والثقافية التى تمتد بجذور تاريخية طويلة.

    توضيح

    والعروبة بهذا التعريف الوصفى المبسط تمثل واقعة اجتماعية ونفسية ذات جذور تاريخية لكنها لا تمثل عقيدة خاصة، أو فلسفة محددة …ومثال ذلك : انتماء المواطن السورى والمصرى والتونسى والصومالى يحدده اللغة، والتاريخ والمصير المشترك ويمثل جزءا من ارتباط عصبى بالمجتمع، فالقومية العربية هي إذن الواقع التاريخي واللغوي والثقافي والجغرافي العام لقوم من الأقوام.

    والإسلام : يمثل عقيدة وهو دين خاتم للأديان دين شامل ونظام متكامل ينتظم كل شئون الناس فى أمور الحياة والممات وفقا لتعاليم القرآن والسنة الصحيحة…. يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162

    ولقد اصطفى الله العرب لحمل رسالة الإسلام وفقا لعوامل متعددة يقال إن منها : رجاحة العقل العربي، وسلامة لسانهم، وغير ذلك ومن هنا فقد جاء الإسلام ليجعل للعرب ذكرا بين العالمين يقول تعالى : {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }الأنبياء10

    ومن هنا حق للعربى أن يفخر بانتمائه للإسلام الذي أعلى من ذكره، ونشر لغته، وحافظ عليها من الزوال، وجعل أراضيه هى موطن المقدسات، ومهبط الرسالات، وتجمع الثروات، وهو

    الأمر الذى يجعل العرب تدين للإسلام بأنه اختار العربية موطنا ولغة تنزيل، ووحد بين قبائلهم، واستطاع العرب أن يصنعوا بالإسلام حضارة سادت الدنيا قرونا.

    تعدد الأقطار لا يلغى روابط الأخوة

    وتتعدد أقطارنا العربية – والإسلامية – ومع ذلك لا يشهد هذا التعدد على مستوى الفكر تناحرا وإن شهد على مستوى الواقع بعض الغبش هنا أو هناك انطلاقا من مفهوم مغلوط يعلى من شأن القومية أو العنصرية على الدين ورباط العقيدة.

    وإذا كان حب الأوطان تعبير عن مكنونات النفوس فإن هذا لا يلغى روابط الدين والعقيدة فالنبى محمد صلى الله عليه وسلم حين اضطر للخروج من مكة ودعها قائلا :  » والله إنك لأحب أرض الله إلى، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت « . أو كما فى الأثر، وحب الأوطان مندوحة لا يجوز العدول عنها إلى محاربة الدين، أو تسفيه الذين يدافعون عنه فهذا سفه ينأى عنه ذو المروءة لسفاهته.

    وتنوع الشعوب والقبائل ضرورة حتمية- ومن ثم فليس ثمة مشكلة ها هنا – تستلزم وفق رؤى الدين التعارف والتعاون وإن كان ثمة اختلاف فهو اختلاف- ينبغى له أن يكون- اختلاف تنوع وإثراء لا اختلاف تضاد وصراع، باعتبار أن رباط العقيدة ينضوى تحت لوائه الجميع حتى وإن تباينت وجهات النظر بين شعوب الأمة فهذا لا يلغي اعتزازهم بهذا الدين الذي أكرمهم الله به وارتضاه لهم. فالولاء الرئيس للإسلام.

    وبناء على هذه المعطيات التي أشرنا إليها، فإنه لا تناقض بين الوطنية والقومية والإسـلامية والعالمية إذا وضع كل منها في موضعه الصحيح، وفق الفهم والمنهج الإسلامي، وذلك بناء على تحديد المفاهيم الخاصة بكل أما أن يأتى أحد ما ليقول إن العروبة أصل والدين جزء أو إن العروبة مذهب والإسلام دين فى المسجد لا شأن له بالحياة فهنا نقول كلا.

    إنما ترفض الوطنية والقومية إذا جعلناها بديلاً عن الإسـلام أو طعّمناها بعناصـر غريبة عـنها معادية للإسلام أو مناقضة لعقيدته وشريعته مثل إقصاء الدين أو تغلب الآلية والمادية وإلغاء عنصر الوجدان والعاطفة التي تتضمن محتوى أيدلوجياً بعيداً عن فكر الإسلام ونظرته للحياة.

    ولله در الدكتور عبد الستار إبراهيم الهيتي حين كتب : إن المسـلم الحق هو الوطني المخلص، وهو القومي المناضل، وهو العالمي الأصيل، وقد أثبت التاريخ المعاصر أن أبطـال الوطـنية في بلادنا العـربية والإسلامية كانوا إسلاميين أمثال الأمير عبد القادر في الجزائر، وأحمد عرابي في مصر، وعمر المختار في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وأمين الحسيني في فلسطين، والشيخ ضاري المحمود في العراق، ومحمد ناصر في أندونيسيا وأبو الكلام آزاد في الهند، وأبو الأعلى المودودي في باكستان،وغيرهم الكثير،مما يثبت أنه لا يوجد تقاطع كبير بين الخصوصية القومية أو الوطنية وبين الالتقاء تحت مظلة الإسلام باعتباره الوطن الأكبر لأبناء الأمة.

    نماذج متطرفة للإسلاميين والقوميين

    لقد كان – وما يزال- الغرب حين يقول العرب فهو يقصد الإسلام، وكثير من الناس لا يفرقون بين العروبة والإسلام، ولا بين العرب والمسلمين ولله در الشاعر / محمود غنيم حين قال:

    إن العـروبة لفظ إن نطقت به *** فالشرق والضاد والإسلام معناه

    ويحسن بنا أن نسوق ها هنا نموذجين متطرفين لكلا الفريقين ساقه الدكتور عبد الستار إبراهيم الهيتي يقول أكرمه الله : يحاول بعض حملة الدعوة الإسلامية التقليل من شأن العرب والعروبة من خلال إظهار أثر الإسلام وقيمته في حياة العرب والمسلمين والناس أجمعين، حتى إن بعض هؤلاء يحاول إنكار عروبته والتقليل من شأنها فيتساءلون مستغربين: ومن هم العرب؟

    وفي جانب آخر يقف فريق من دعاة القومية العربية محاولين التقليل من شأن الإسلام والمسلمين، من خلال إظهار أثر العرب وفضلهم على الحضارة العالمية ويحاول هؤلاء إنكار الإسلام أو التنكر له زاعمين أنه ليس سوى صفحة ماضية من حياة العرب، وإذا كان قد صلح للسابقين من أبناء الأمة فإنه لا يصلح للاحقين في عصر العلم والتكنولوجيا، ولذلك فهم يصفونه بالرجعية ويصفون أتباعه بالرجعيين والمتخلفين عن ركب الحضارة.

    إن نظرة متفحصة وهادئة لواقع العلاقة بين الإسلام والعروبة تثبت أن الخطر على الإسلام لا يتأتى من العروبة ولا من دعاتها المستنيرين، ولكنه يأتي من أعداء العروبة ومن دعاتها الذين لم يعرفوا أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه فجحدوا فضله على العرب، كما أن الخطر على العروبة لا يأتي من الإسلام ولا من المسلمين المستنيرين، وإنما يأتي من الذين يحاولون تشويه الإسلام والعروبة على السواء، ويسعون لتعميق الخلافات بين الأخـوة بداعي الخوف والحذر، وكذلك يأتي من بعض الجهلة الذين لم يصلوا إلى اكتشاف العلاقة التكاملية بين الإسلام والعروبة، وليس أظلم ممن يصدر أحكاماً دون استيفاء ودراسة جميع المعطيات والأدلة والبراهين. انتهى

    دعوة مخلصة صادقة

    وبناء على ذلك العرض الموجز فإننا ندعو كلا الطرفين للتعرف على الآخر وفق أدبياته ومناهجه وتحديد نقاط الاتفاق ونبذ مواطن الجدل لأن الخطر الحقيقى الذى يتهددنا جميعا مصدره ليس فى العروبة ولا فى الإسلام وإنما فى غيرهما.

    وكم نرجو أن يستأنس دعاة الحوار بين الفريقين بهاتين المفردتين:

    * ليست العروبة خصما للإسلام – وفق تعريفنا المبسط أعلاه- ولا هى عنصرية تزعم تفوق الجنس العربي، ولا هى تعصب أعمى لكل ما هو عربي يخالف الحق والفطرة السليمة، وإنما العروبة فى أحد صورها هى امتداد للتوحد الإسلامى.

    * كتب الدكتور عبد الستار إبراهيم الهيتي : إن الدعاة إلى الإسلام اليوم مطالبون بوقفة هادئة أمام الشعارات التي يرفعها دعاة الوحدة العربية، لأن تلك الوحدة إذا تجردت من العنصرية والعصبية فإن الإسلام سيكون هو المكوّن الرئيس لها، وهذا ليس شراً يستعاذ منه، بل إنها في الحقيقة ستكون سبيلاً إلى تحقيق الحضارة المنشودة، وليس أدل على ذلك من أن نبينا محمداً قد بدأ دعـوته من خلالها عملاً بقـوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ) الشعراء:214) ثم انطلق بعدها لنشر الإسلام بين سائر الشعوب والأمم، مما يشير إلى أن هذا المسلك مناسب لأوضاع الأمة وطبيعة تعاملها في نشر الدعوة وتحقيق دين الله في الأرض. انتهى

    واستناداً إلى هذه المعطيات التي أشرنا إليها، فإنه ينبغي أن يكون الحوار بين العروبة والإسلام قائماً على هاتين القاعدتين على الأقل حتى نضمن حواراً علمياً هادئاً بعيداً عن التشنجات العاطفية، وملبياً لتطلعات الأمة العربية والإسلامية، محققاً للإسلام عالميته وحافظاً للأمة خصوصيتها، بعيداً عن الإفراط والتفريط

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *